وليد حاج عبدالقادر: أجبرت على تعلم العربية فصارت قدري!

حاوره:عبدالله الزماي
وليد حاج عبدالقادر روائي سوري من أصول كردية له أربع روايات كتبها باللغة العربية التي يؤكد أنه أجبر على تعلمها بينما هو في الوقت ذاته شديد الإيمان والحماس بقضيته وهويته الكردية وكذلك اهتمامه الكبير باللغة والميثولوجيا الكردية, روى خلال هذا الحوارعددًا من الحكايات والذكريات التي يملؤها الشجن والحنين وكذلك الوعي العميق.
 تكتب باللغة الكردية وتؤمن بالقضية الكردية – كما تسمى- إلا أنك تكتب رواياتك باللغة العربية فهل ثمة تناقض في هذا؟ كيفتفسره؟ 
– نعم أكتب باللغة العربية التي أجبرت بداية على تعلمها وتفتحت من خلال حروفها أمامي آفاق وآفاق وباتت هذه اللغة العين الأساس لا بل والمعبر لتفتق مدارك ومعارف عديدة واكتسابها ولكن؟! كان دائمًا هناك سؤال يخطر في بالي: عجبًا لو كانت هذه المدرسة تعلمني بلغتي الكردية أما كانت وكنا سنبدع أكثر؛ سيما وأنا أقارن قصة ليلى والذئب المصورة وحكايات جدتي وأمي للقصة نفسها ونسختها الكردية وذلك الصوت الحنون الذي كانت تغنيها به لنا  القصة وليتمظهر هاجس الأمن ورعبه وملاحقتهم. 
إن للزي الكردي أو الكلمة وفرمانات معلمي السلطات داخل المدرسة والمنع البات للتكلم حتى في الفرص بين الحصص وبالرغم من ذلك بقيت لغتنا الأم هي الأساس وبات يتغذى ويتطور مصقولًا من خلال الفولكلور والتراث والإرث والعادات والتقاليد والتي أنتجت فينا كشعب ذي ثقافة شفهية، لا بل ومنطوق عبارات ومصطلحات مضى كثير من الوقت حينما عرفنا لماذا أو ماذا تعني مثل/ أمثال/ أوبقايا أساطير وعادات تجسد فيها البعد الطقسي طويلًا، وكنت قد أنهيت دراستي الجامعية أيضًا حينما اتبعت دورات سرية لتعليم كتابة اللغة الكردية وقواعدها ولأساهم بدوري أيضًا في إعطاء دورات لاحقًا. أما التناقض فيستحيل أن تحس به في التعامل بأية لغة لطالما رؤيتك ككاتب وصورك بأحداثها يمكن التعامل معها كتابيًا، ومع ذلك قد تطغى صور ذات حنينية مفرطة وتصر أن تعزفها كلمات وبأنشودة مهما تكن بارعًا ستخذلك روعة المقام الأصل إن كنت ترويها عن الجدة أو الأم وبغير لغتها، هي الخاصية لأي شعب، لأنها تبقى عندي تلك الصورة الجذلى وأنا أترجم مثلًا حالة انسجام لأقصوصة ترويها جدتي وأصابعها كعازفة كانت تنسج خيوط صوفها وكنا نلاحظ تأففها حينما كانت الإبرة تلسع أصابعها حتى كنا نظنها أحيانًا بأنها من منمنمات السرد ليس إلا .. أستاذي؛ كثيرون مثلي لوحقوا وحوصروا وطردوا من المعاهد وكانت الألفباء الكردية بمثابة السلاح الآن وطبيعي أن يكون لنا أساليبنا أيضًا. وللحركة السياسية الكردية في سوريا جرائدها ومجلاتها الدورية السرية وبطباعتها البدائية ولكننا كنا ننتظرها بشغف ونساهم بثقلنا المعرفي أيضًا وبأسماء سرية ويجدر بي هنا أن أذكر أن النشاط الثقافي واللغوي الكردي لوحق ومنع في سوريا تحديدًا مع زمن الانقلابات العسكرية وصارت تعامل كجنحة في زمن الوحدة وجُرّمت بعد استلام البعث للسلطة، وهنا أستاذي: تبقى هي الفكرة الصادقة من جديد وسردها الذي يشي بذاتها فتعبر عن مكنوناتها ولهذا / أرى / أن صياغتي باللغة العربية كآفاق ومصطلحات ومتابعة هي الوسيلة الأقوى لدي فأعبر بها ما أريد ، لأنه لا خصومة لأي كان يفترض بأية لغة سيما كاللغة العربية وإن نطقها بعضهم او استخدمتها سلطة ضد بعض من فئات شعبها وهي بالضبط هنا تراها في علاقة ود وتعاضد مع قضية شعبي الكردي في دولتين عربيتين بالرغم من أنظمتهما المتعاقبة ولكنها أيضًا معبر/ جسر.
بالإضافة لكتابتك للرواية أنت منشغل كثيرًا بالسياسة، لماذا؟ 
بثقة أقول لست من انشغل بالسياسة وإنما فرضت علينا، هم فرضوها فرضًا .. أن أكون ابن أب آمن بقضية شعبه، لا بل قضيته هو بالذات حينما استفاق والده – جدي – ذات يوم فإذا بأبيه وأخيه/ جد أبي وعمه/ قد شطرت أرضهما وحقلهما لا بل خط الحدود ما راعى حتى أشجار اللوز وبساتين البطيخ ولتصبح قرية عين ديوار المطلة على رابية متعددة التلال حيث يسكن جدي فتشرف على / باژير / أي المدينة وهي / جزيرة ابن عمر / ودجلة بمائه الهادر أصبح أيضًا له ضفتان وتسمينا بـ / سرخت / و / بن خت / فوق الحد / تحت الحد، نعم، أستاذي السياسة هي التي تلبستنا كرد فعل قاسٍ على المظالم التي تعمقت وشرخت وأنتجت طبقتها في ذهنيتنا وكيف لا؟ .. أن أكون في الخامسة من العمر وذات ليلة كانونية عاصفة بثلجها، كنا ستة أطفال وصغيرنا في المهد والأم أطفأت المدفأة وكانت ترضع أخي الصغير وهو في مهده حينما داهمت مجموعة من الشعبة السياسية الدار وليخرجونا جميعًا الى ساحة الدار ولا أزال أتذكر الليلة بتفاصيلها ونتف الثلج تتناثر وأخرجنا عنوة من تحت لحف دافئة، وأجبروا أمي أن تحمل حتى أخي الرضيع دون سرير وأخذ يبعثرون محتويات البيت حتى المدفأة و/ بواريها / لم تنج من عبثهم! .. أتعلم استاذي عمّ كانوا يبحثون ؟! مناشير وألفباء اللغة الكردية! وحتى الآن ما زلت مجرد أن أرى الجو المثلج تسري في برودة ورجفة فتحفز في ذهنيتي ذلك التيار البارد، وليتها اقتصرت على ذلك، فأن يعتقل أبي ونحن على أبواب عيد الأضحى ويعاد فجر يوم العيد وهو يستند على كتفي جارين لنا وحتى الآن استاذي: ما زالت قدماه المتورمتان وقد لفهما بكيسين وهو يضج بآلة خياطته في البيت يجهز لنا ملابس العيد!! وهل تدري ما سبب الاعتقال: وشاية بأن كمية من الأدوية وصلت كمساعدات لثورة الملا مصطفى البرازاني بكردستان ووالدي من استلمها وأرسلها .. لن أسهب طويلًا ولكنك تستدرجني لأفضفض مستندًا على أسئلتك التي أرى كل واحد منها منصة / سلة .. هل ستصدق بأن أول فلقة سياسية ضربت بها على قدمي كانت من معلمنا وكان اسمه عبدالله ولقبه الدرزي / كان من السويداء / أما السبب؟ فقد دخل إلى الصف وبعد أن وقفنا له احترامًا وسأل من منكم كردي؟ / غالبيتنا العظمى كنا كرد مع بعض من جيراننا المسيحيين/ فنهضت مع أربعة آخرين وأخرجنا وكان يحمل بيده مسطرة خشبية / ١٠٠سم / ونادى زميلًا لنا اسمه عمانوئيل وأجلسنا على كرسي من الخيزران ورفعنا أقدامنا وعمانوئيل يشدنا بيديه وهو بحافة المسطرة يضرب ويقول / تاني مرة ماحدا يقول أنا كردي / .. وباختصار شديد هي السياسة التي فرضت ذاتها علينا كصراع للحفاظ على البقاء وتلكم العوامل حدت بوالدي الى الانضمام للجسم التنظيمي الذي تشكل في ١٩٥٧ بسوريا واعتقل على خلفيتها مع قادة وكوادر الحزب واستمر بعد الاعتقال كإيمان بقضية لا ترف إيديولوجي ورغم صعوبات المعيشة واعتماده على ذاته وجهده إلا أنه أصر على تعليمنا وليتخرج أولاده مهندسين وأطباء وجامعيين ولتتالى سريالية أيامه فالتقطها -ربما كإحساس- فأسير على هديه مؤمنًا وبالتالي أتعرض أيضًا على خلفية ذلك للاعتقال لسنتين وأركب قطار الاغتراب القسري عن أهلي وناسي وأولادي وتلك هي أيضًا فيها من الإجهاد الذاتي والمرارة الكبيرة.
أنت متهم باستخدامك لأسماء وشخصيات حقيقية في رواياتك، ما رأيك؟
هذا صحيح، هناك شخصيات بمسمياتهم وحتى بحيواتهم وصفاتهم وأعمالهم، وما مثلوه كمناطقية في بيئتي التي أنتمي إليها وكنت / وما زلت / أراهم قامات كانوا، ولعلها في الإساس إعادة لا لأشكلة حياتهم بل توصيفها وأيضًا لا كتوثيق أو لتسلسل شخصاني بقدر ما أفسره كردة فعل عن التغييب المنظم الذي مارسته نظم الحكم المتعاقبة على سوريا، سيما بعيد مرحلة الوحدة مع مصر ومرحلة الانفصال وصولًا لسريالية البعث والأسد الأب وابنه. شخصيات ورموز كان لهم دورهم المجتمعي والاقتصادي البارز وضمن سياقية لم تحد من تفاعلها مع القسم الذي تشطر بل بقيت تتفاعل حتى قبل سنين قريبة وكأن خط التقسيم مجرد حبر على ورق وأعني به القسم المتبقي في تركيا، كان هؤلاء الشخوص في دائرتنا الضيقة سواء بحكم صلات القرابة أم انتمائنا لأسر معنية أو منخرطة في النضال القومي الكردي بجذور امتدت إلى ماقبل سايكس بيكو وعبرتها منشطرة كما الأرض بحقولها وبساتينها مرورًا بمؤازرة الحركة القومية الكوردستانية في إيران والعراق – مثل شخصية المرحوم ملا عيسى أبو جلال الذي لعب دور المراسل في جمهورية مهاباد الكردية في إيران- ، هم فعلًا قامات كانوا وظلوا ولهذا ولإدراكي بمدى الإجحاف الذي ألحق بهم ولتشبعي بصدقية ماكنت أتلمسه فيهم ولئلا يلصق جهدهم الحقيقي بمسميات أو شخوص آخرين, كنت أدرك  أن قارئي  مثلًا  في ديريك لا بل كل  بوطان – جزيرة ابن عمرو كإقليم-  كان سيعرف بأنني أقصد قدري وعبدالرحمن عبدالغني في حدهم من التغيير الديمغرافي للمنطقة وأنني أعني أيضًا نايف مصطفى باشا وعبدالكريم وابنه فتاح آغا أو العائلة البدرخانية الأميرية وحاجو آغا، أمثلة وشخوص عديدين ابتعدت بذلك كثيرا عن الشخصانية التوثيقية مركزًا على مصداقية مواقفهم في قضايا كانت قد أخذت تتبلور على خارطة المنطقة والتجزئة بدأت فيها على يد الانتداب وبكل صراحة أقول بأن رواية / ديركا حمكو / هي الرواية التأسيسية التي أردتها وهناك جزء آخر وإن لم تحمل نفس العنوان ولكنها ستغطي مرحلة حاسمة من التكوين السياسي والمجتمعي لكامل كردستان وصولًا إلى سنوات الستينيات والتي تليها روايتا / كاساني .. وملحمة درو دينو وليلاني / وأقر هنا أيضًا بأن غالبية شخوصي في رواياتي التالية هم من النمط الشعبي و بشخوص حقيقيين وكانوا في نظر المحيط مجانين مغفلين، ولكنني تنسمت فيهم غير ذلك، لا بل وبعضهم سيرتهم الشخصية تنفيها أيضًا، ولعلي استسغت تقمص جنون أبطالي في أربعة روايات وكل وفق سياقية مرحلته اجترح المعضلة – كما أراه- وأدفعه ليصرح بها، هكذا كان ملا مرشو في ديريك ودرو دينو في كاسان كما  قمو المجنونة في التيه ومأساة قمو ديني .. قمو التي أبكيها كلما قرأتها رغم أنها عباراتي ولكنها تجسد شرخ سايكس بيكو وألم التمزق الذي تدلى بوضوح وهمجية  الجندرمة  في اغتصابها بتلك الوحشية المقززة كقصة حقيقية كانت وأضحى كل لابس لزي عسكري مثار هيجان جنوني لها فتحمي عورتها المغطاة بثيابه وتصرخ في الفتيات والنساء بأعلى صوتها: كجي فا رومي هاتن .. رومي هاتن أي: أيتها الفتيات اهربن هاقد جاء العسكر جاء العسكر ..  ويبقى آطاش في دوامته- في دوامة آطاش والجنون – وبعلاقة جدلية مع قمو إلا أن آطاش بشخصه وحياته وأسلوبه ومجمل تصرفاته حتى في الرواية وبعد هذه السنين الطويلة على كتابتها أقر: أنني لا أزال تائهًا في كليته و ما عناه ذات يوم بعبارته ولم يزل لعموم المنطقة كتائه مغفل في حين أننا كلنا ما زلنا تائهين في فهم جملته تلك: أولاد الـ.. لازالوا كالفئران يقضمون أملاك أميري قضمًا”. هم الشخوص أقر وأعترف بأنني اختزلتهم وكلي تصور بأنهم بصموا الحياة المجتمعية وظلوا طوال هذه السنين على رحيلهم ذوي ذكر وأثر في بنية المجتمع وكإعادة تقييم وتذكير بما كان لهم من دور قد يكون هو الدافع من جهة ونوع من التحدي في إعادة الأشكلة روائيًا وبعيدًا جدًا عن التوثيق أو تدوين ما يشبه اليوميات.
أيضًا كثيرًا ما تتهم باستخدامك للألفاظ الكردية الشعبية والمحلية في رواياتك، ما ردك؟
نعم أستاذي الكريم هذه التهمة أقر بها وبصراحة أكثر أستلذ في انتهاجها أيضًا بظن موائمتها سواء للحالة المروية أم للنمط الذي عرف بها الشخوص المستنطقون وكحالة تمازج وتداخل لغوي إثني ديني، سيما وظاهرة الاغتراب الذاتوي لبعض من الشخوص ومحاولة الأقلمة مع النمط السادي السائد فيحاول بعضهم الهروب مثلًا من لغته الأساس صوب التركية أو العربية، فيختلق لهجة هجينة. أدركت مؤخرًا أسباب الظاهرة بعد تعايشي في مدينة عالمية مثل دبي واللغة العالمية الهجينة كمثال: حينما يخاطب ملكي شهنا المسيحي وبحضور القس إفرام ويقول  “أبونا: رحتو على بركي دنيا طاف وكوركي، شفتو ما شفتو شي كيطململ بين الميوي گو قلتو أبونا ذا أيش وي؟! گو حملتو كفري مثل البرازيفي وزفرتوه بالهوا وضربتوه إجه بنصر رقبتو ! گو ماشاءالله أبونا أيش كشوف كيفروشكي مثل البرازي”، وهذا المقطع مزيج من اللغة العربية والكردية وترجمته أن ملكي يخاطب القس: “أبونا ذهبت إلى قرية  بركي  والوقت عند شروق الشمس ببطء، شفت ما شفت إلا حركة قوية بين أوراق كرمة! سألت نفسي عجبًا ماذا يكون ذلك أبونا؟ أخذت حجرة ملساء مدورة مثل المرمر من الأرض بيدي وصرت أفتل بها وبكل قوتي رميتها مستهدفها وإذا بها بمنتصف الرقبة ولما دنوت أبونا ماذا أرى؟ أرنبًا ضخمًا بحجم خنزير بري..”. نعم فبتصوري مجرد ضمي لملكي شهنا والقس إفرام سيهيج من ذاكرة أجيال متعاقبة أسلوبهما واللغة المحكية ونحن نسميها محليا بـ “اللهجة الآزخينية”، وهذه تساق أيضًا على كلمات ومرادفات كردية أخرى كان يفترض بي وبالمدقق اللغوي أقله أن نترجمها سواء  في الهوامش أو بين قوسين.
لديك اهتمام كبير بالميثولوجيا حدثنا عنه كيف نشأ؟ وإلى أين يسير ؟ 
أن تفتح عينيك في بيئة ملأى بحكايات وقصص وسير شعبية تتناغم مع البيئة التي تعيش فيها، وتغذيها بعض من الحقائق تخالها مصداقية رضعتها من المحيط، لا بد أنها ستفتح لك البيئة بأولويات آفاق وعيها – كما تظن- نعم أستاذي: جبل الجودي والطوفان ومهبط سفينة نوح عليه السلام وتقابل الجبلين كما نسميهما شعبيا “جيايي بي خير”، وهي جبال كردستان العراق التي أبت أن ترتفع لتهبط السفينة و”جيايي خير”، التي ارتفعت عاليًا لترسو عليها السفينة، العشرات من القصص والحكايا خزنتها ذاكرتي كما كثير من العادات والتقاليد والحكم والتي ساهمت فيما أسميه “حالات مقارنة وتقاطع” مع آفاق ميثولوجية عديدة، راكمتها شخصيًا واشتغلت عليها ميدانيًا حسب الإمكانات والظروف الأمنية المتاحة، وأجريت مسحًا لتقاطعات القصص والعادات الرئيسة وأيضًا الأمثال الشعبية وبصدق: أكاد أن أصاب وللآن بذهول كبير أمام الكم الزاخر وقدرة الذاكرة الشعبية في خزن كل هذه السيرورات، وبتدفق كان يشي بسرياليتها عبر سنين سحيقة وعلى لسان عجائز لا يفقهون من اللغات غير لغاتهم ولايفككون حرفًا واحدًا، وإذ بغالبية هذه القصص ببعض من تفاصيلها المملة حتى في بطون كتب ومعاجم تعريفية سواء باليونانية أم الرومانية، لا بل حتى تشارك ميثولوجي وبأسماء رئيسة في قاموس أسطورة “الخلق والتكوين السومرية”. وباختصار: بقدر انبهاري بجبل آرارات وتصديقي بوجود نبع ماء الحياة خلفه كما كانت تقول جدتي الراحلة عطية، والذي على هديها عندما سافر ابن عمي أحمد عبدالرحمن عبدالغني الى أقارب لنا في الجبل وسألني عما أريده، رجوته أن يجلب لي شربة من نبع ماء الحياة، هكذا انبهرت بمدى التقاطع وليكملها- كمثال- ذلك التقاطع المذهل بين حفلة الأعراس الكردية وطقوس مهرجاناتها مع احتفالات الإينوماليش السومرية – البابلية في احتفالية  إعادة  الخلق والتكوين. في الوعي الميثولوجي الثقافي الكردي يلاحظ وببساطة شديدة ركيزتها على تلك القاعدة الرافدية سيما بعد انفصال الإنسان عن الطبيعة وخوض غمار فهمها ومن ثم تشكل العائلات والعشائر والتجمعات ذات صفة التنقل- الرعي-  أو الاستقرار  الزراعي التي سبقتها مراحل مثل تدجين الحيوان واكتشاف النار.. وكبيئة رافدية رعوية زراعية، مؤكد أن يكون للطقس وفصوله ذلك الدور الحاسم في تحديد محورية الربيع والخريف المرادفين للحياة والموت كتكرار متجدد ونرى ذلك بوضوح في الذهنية التراثية الكردية من خلال جذرها الفولكلوري الذي يستند على ظاهرتي بيزوك – الخريف، التي تعني تحديدًا مظاهر اللوعة والموت والفراق والشدائد المؤلمة يقابلها  بوهاريا – الربيع، وهي تعني مظاهر الفرح والسرور والانعتاق نحو حياة متجددة، سيما والطبيعة تطرح ألوانها وزهورها كما يفوح عطر ورودها، ووفق هذه الآلية “أزعم” بأنني  توصلت إلى أن عيد نوروز ليس سوى نتاج واستمرار لهذه السريالية، اندمجت بطغيان الآشوريين وفظاعاتهم المعروفة التي رافقت غزواتهم وكذلك – حسب زعمي – أن مم وزين تلك القصة الكردية التي سبقت روميو وجولييت شكسبير بسنين طويلة ليست سوى بقايا من أسطورة لـ”ثقافة الموه – الماء” من خلال اسم “ممو” وكذلك اسم “ژين/ الحياة”، وهكذا قصص عديدة ما زال المخزون الشعبي الكردي مليء بأمثالها. وكل هذه وجهات نظر، وكجهد لأكثر من ٢٥ سنة أتنسم أن ترى النور قريبا في خلاصاتي المضمومة بكتاب تحت عنوان”ملامح ميثولوجية – وجهة نظر في الذهنية التراثية الكردية”، أتأمل ان تكون بين يدي رائعين مثلك خلال هذه السنة، وهذا ما وعدت به السيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق أيضًا. وكمدلول للبعد الإنساني وسمو الثقافة الكردية وآفاقها الإنسانية الرائعة؛ اخترت غلاف الكتاب صورة الإعلامية الكردية الشهيدة شفا كه ردي، التي استشهدت وهي تغطي المعارك ضد داعش وكانت في غمار المعارك وعلى أطراف الموصل قبل وفاتها بأيام قد صادفت أرنبًا جريحًا فالتقطته وأسعفته من زوادتها الطبية وجاءت بها الى استديوهات قناة روداو التي تعمل فيها، وقد استأذنت القناة بذلك ونالت القبول من قبل مديرها العام الأستاذ آكو. 
حدثنا عن الأدب الكردي، تاريخه وأعلامه وهل هو بارز ومؤثر بما يكفي؟
في التطرق إلى هذا الجانب – وسأعني بها الكتابة باللغة الكردية- وبعفوية سنرى تلاقحها مع السؤال السابق، وهنا، وباختصار شديد أعود لأؤكد على أن الثقافة الكردية ولحد الآن تغلب عليها نمطية الثقافة الشفهية ولكن هذا لا يعني عدم وجود أنساق كتابية في عرضحال تاريخها. ولعل أقدم كتابتين كرديتين اكتشفتا وبلهجتيهما الرئيستين” سورا”، وهي لهجة قسم من كرد كردستان إيران والعراق، و لهجة “بادينان”، وهي لغة الغالبية من أكراد تركيا وسوريا وجزء من العراق وإيران أيضًا، إضافة لوجود لهجات مشتقة أخرى مثل زازا، واللور، ومثلها مثل كل اللغات واشتقاقات اللهجات وأول أثر مدون للهجة السورانية اكتشفت على صخرة “كرمانشاه” المعروفة كأقدم لوحة اعلانية، أما اللهجة البادينية/الكرمانجية فقد اكتشفت عدة رقيمات تعود لأواخر الألفية الثانية في “واشو كاني – رأس العين” بشمال سوريا. وبالعودة إلى أقدم النصوص المكتوبة وباللهجة الكرمانجية يعتبر “مسحفا رش” المصحف الأسود أو الكتاب الأسود، الخاص بأتباع الديانة الزرادشتية تكاد أن تكون الأولى وفق المفهوم الحديث للكتاب، ولكن هنا علينا أن نذكر بأن قامات كبيرة رفدت الأدب الكردي عبر مراحل التاريخ وإن لم تصلنا مكتوبة إلا نتاجات واكبت حتى قبيل قدوم العثمانيين، فنرى شعراء وقد دونوا بكل اللهجات قصائد ما تزال تلهب مسامع الكرد أينما كانوا، وظهر منهم شعراء حاكوا سعدي شيرازي والخيام وكبار الشعراء العرب، ومارسوا الحكمة والفلسفة في طقس تصوفي يدمجون العشق الذاتي بالعشق الإلهي فظهر علي حريري وملاي جزيري وفقي تيرا وباتي وماجن وسيابوش. ويبقى الأروع الذي مزج العشق والتصوف بالمنبت القومي، ولعل قصائده هي باكورة لبروز ما نستطيع أن نسميه جذور الشعر القومي وكذلك ديوانه الصغير/ القاموس وباسم “نوبوهار” أي الربيع الجديد، وهو قاموس كردي عربي يستهدف الأطفال في كتاتيب الشيوخ والملالي لتعلم أساسيات اللغة العربية ما يفيد في أداء الشعائر الدينية ولتشهد الثقافة والطباعة الكردية ذروة انطلاقاتها سواء  في استنبول أو المدن الكردية الهامة مرورًا بدمشق وبيروت والقاهرة، التي شهدت صدور أول جريدة كردية مطبوعة عام ١٩٠٢، وتتالت بعدها الإصدارات، وهنا يجدر الذكر أن الحرف المتبع كان الفارسي الممزوج بالعثمانية القديمة، إلى أن نشر الأمير جلادت بدرخان وأخوه كاميران ألفباءهم اللاتيني، وذلك لصعوبة كتابة بعض من الحروف وفق أبجديات اللغات الأخرى. أما عن الأثر: فبكل ثقة مازلنا ندين لقوة الثقافة الكردية في استمراريتنا وحفاظنا على الذات القومية وبهويتها الثقافية أمام حصون لثقافات كبيرة جدًا، كالثقافة العربية والفارسية والتركية، كما أن دور بعض الأدباء الكرد وتأثيرهم كان وما يزال له أهميته في الحراك والوعي القوميين مثل”ملا أحمدي خاني” المذكور أعلاه، وأيضًا في العصر الحديث الشاعر جكرخوين وقدري جان وهلكوت وشيركو بيكس وعبدالله بيشو وبيره مرد وكثيرون.
حينما تطغى قضية معينة عقدية أو سياسية على الجانب الأدبي والفني حينها يقع الفن في فخ الأدلجة، هل تجد مثل هذه الملامح في أدبك أو في الأدب الكردي؟
بداهة – شخصيًا- أميز كليًا بين الأدلجة بكل سوياتها والالتزام. الأدلجة التي تنظر وتبشر لتصور ما كجزئية داخل المجتمع وتسخر كل إمكاناته لنشر تلك المبادئ، وأنت محق أستاذي في طرح السؤال بهذه الصيغة على أن نميز بين الأدلجة كخطاب تبشيري، والتي تصل في أحايين كثيرة إلى نوع من المباشرة أيضًا، فتحتار في تقييمها كنص أدبي أو بيان سياسي مثلًا. وهنا -شخصيًا كوجهة نظر- أميز بين الالتزام بقضايا المجتمع والشعب بصيغة شمولية وإن انحازت مثلًا لخصائصية قد أراها في الصميم من قناعاتي وهي التي تتوائم وقضية شعبي الكردي الذي وزع على أربعة خرائط يفصل بين الأخ وأخيه –أحيانًا- ذلك الشريط الشائك وباختصار: لازلت أرى نتاجات الشاعر محمود درويش كأرقى حالات الأدب الملتزم شعرًا، وكتابات سليم بركات الكردي وتجلياته للهم الكردستاني، أولم تكن ملحمته “سبايا سنجار” صرخة لظاهرة الوأد الداعشي لنساء وأطفال وفتيات الإيزيديين؟  وهذا لا يعني على الإطلاق ظاهرة الأدلجة الممارسة وبكثافة سواء لدى أدباء كانوا وأخذوا يعزفون على وتر السلطات التي تشكلت وبات كل نتاج قصة أو قصيدة أو رواية يتوجب وجود مطرقة العامل أو منجل الفلاح  لتمريرها أيام الحقبة الشيوعية في روسيا، وهذه منها الكثير الآن للأسف وأعني بهم تلك الشريحة التي استبدلت الشعب والوطن بحزب والحزب بفكر وهذا الفكر مكرس في شخص. وشخصيًا أزعم بأنني ربما أكون منحازًا كليًا في نطاقية الالتزام بقضية شعب ووطن، هكذا أراه، وقد جزئ بين أربعة دول ورغم السنين الطويلة على ذلك ما تزال روابطها تتماسك بقوة وتتشارك من سردشت بكردستان إيران مرورًا بأربيل إلى وان بكردستان تركيا، حتى عفرين في الشمال السوري ولا أخفيك بأنها تتوارد في رواياتي المنشورة منها والتي هي قيد الطباعة أيضًا.
حدثنا عن أعمالك المستقبلية القادمة ومسوداتك التي لم تجد طريقها إلى النشر.
لي رواية عنوانها  “آرسي والآفاق المجهولة” قيد الطبع وستصدر قريبًا، وكذلك “ملامح ميثولوجية – وجهة نظر في الذهنية التراثية الأسطورية الكرية”، وهي أيضًا قيد الإنجاز قريبًا وكذلك “أوراق من الذاكرة” فيها من السيرة الذاتية صفحات كثيرة من مرحلة النضال السياسي والاعتقال والتحقيقات وفترة السجن والمحاكمة وهي أيضًا شبه مكتملة، وهناك أيضًا مختارات “خواطر ومقالات” فيها بعض من السجالات يغلب عليها طابع المماحكة السياسية قبل الثورة وبعدها، ومسرحيتان كتبتهما أوائل الثمانينيات بأبعاد ميثولوجية “مم وزين” و مسرحية “كاواي هسنكر”، أيي كاوا الحداد والتي مثلتها عدة فرق كردية منذ الثمانينيات. ولعل أهم عملين قد يريان النور ثلاثية “هيلين ومضارب ميران” و”شكرو يي شڤان”  و “يوميات حسينو العطار” إضافة إلى كتاب توثيقي أرشيفي لمدينتي ديريك، مدعم بالعشرات من الصور والوثائق والذكريات.
———— 
المصدر: تكوين 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…