ملف «بينوسا نو» الخاص عن الأديب القاص عَبْدُالرَّحمن سَيْدُو

ولد عبدالرحمن سيدو في قرية فريرية منطقة عفرين سنة 1951… تلقى تعليمه بين عفرين وحلب، وعمل مدَّة في التدريس… حصل على الإجازة في الحقوق ثم عمل بمهنة المحاماة في حلب… عضو اتحاد الكتاب العرب (جمعية القصة والرواية)، وعضو نقابة المحامين بحلب… كتب القصة القصيرة والرواية، ونشر نتاجه في الصحافة المحلية والعربية.
توفي في 26 شباط 2011 بعد معاناة مريرة مع المرض.
أعماله الأدبية المنشورة في القصة والرواية:
– بقعة ضوء في ذاكرة مغبرّة، قصص 1987.
– غناء البنفسج، قصص 1989.
– الذئب، قصص 1994.
– ما قالته لوحة جمشيد، قصص 1998.
– درجة ضغط 18، قصص 2001.
– رواية مخطوطة لم تنشر بعد بعنوان (ماذا أحكي لكم).
إبراهيم اليوسف
عبدالرحمن سيدو
في الذكرى السادسة لغيابه
كانت مفاجأتي الأليمة كبيرة عندما تواصل معي الشاعر حيدر هورو-ابن شقيق الكاتب الراحل عبدالرحمن سيدو- وسألته عن عمه الذي انقطعت أخباره عني منذ أن تركت البلد، ليقول لي: لقد توفي في 26 شباط2011 أي عشية الثورة السورية، تماماً، أو ربما بعد ولادتها الحقيقية من أحد أرحام عناوينها الرئيسة أي في دمشق، ليتم تناسيه ونسيانه من قبل الكتاب الذين طالما نظر إليهم على أنهم أسرته الروحية.
اتصلت بعدد من الكتاب بعيد إقرار إعداد ملف ولو متأخر وفاء لذكرى الكاتب، فوجدت أن أبعاض أكثر المقربين قد تنكروا له، بل حاولت أن أبحث في ذاكرة غوغل عمن كتبوا عن رحيله فقد أصبت بالخيبة الكبيرة، لأنه ضاع الاهتمام به في الانقسام الذي اتضح أكثر بين كتاب الثورة وكتاب النظام، وكلا الطرفين تنكرا له، ماعدا حالات استثنائية، كما فعل أحد كتاب الثورة وهو: صبحي دسوقي، بالإضافة إلى عدد من الكتاب الكرد الذين عرفوا الكاتب عن قرب.
أشير هنا، و درءاً للالتباس، أنه لم يكن ليشرف الأديب سيدو اهتمام كتاب النظام به، إلا أن له حقاً نقابياً معهم، وكان عليهم إعادته إليه، وحتى إلى ذويه، وإن كنت أعرفه واضح الموقف في انحيازه إلى المضطهدين- بفتح الهاء- في مواجهة مضطهديهم- بكسرها- وإن وفق ترتيباته الخاصة، وأدواته الخاصة، أي: إبداعه، ومن هنا، فإنني لأجزم أنه لو كان حياً لاتخذ موقفه الواضح تجاه آلة الاستبداد، منخرطاً في صف الثورة، وأهله، كما يتطلب من أي كاتب يقظ الضمير.
من بين تناسي ونسيان دورهذا الكاتب الذي ترك وراءه عدداً من المجموعات القصصية المطبوعة أو المخطوطة، ناهيك عن رواية مودعة لدى- اتحاد الكتاب السوريين- ولم تتم طباعته، بالرغم من أن بعض أولي أمرهذه المؤسسة التابعة للنظام، كانوا من مقربيه، بل إن الرجل لم يصنف بين الموالاة أو المعارضة، وبالرغم من ذلك فقد اتخذ كتاب النظام موقفهم منه، لأنهم اعتبروه مع الطرف الآخر، كما أن كتاب الثورة الذين علموا برحيله، لم يشيروا إليه، وبالتالي، فإنه حرم من حقه بإقامة أي تأبين رسمي: أربعينية كانت، أو ذكرى سنوية، أو ملفاً  استذكارياً أو حتى استعادياً لنتاجاته في مجلة، أو جريدة، أو حتى عبر الفضاء الافتراضي.
يعلق اسم عبدالرحمن سيدو في ذاكرتي ليس لأن علاقتنا كانت عميقة، من خلال التواصل المستمر، كما ينبغي، فقد كان أحد المقربين، وإن كان تواصلنا أدبياً، متقطعاً، وكانت لقاءاتنا جد محدودة، إذ تمت خلال أمسيات محددة. ربما إن بداياتنا كانت متشابهة، حيث انطلق كل منا، في الفترة نفسها، من ثمانينيات القرن الماضي، يشق طريقه الصخري بصعوبة، معتمداً على موهبته، في بلد لم تكن سبل النشر فيه متاحة إلا عبر الوساطات نتيجة الفساد في الحقلين الثقافي والإعلامي، كما باقي الحقول، وبالرغم من كل ذلك، فلم نيأس، وكنا نواصل الكتابة. كل على طريقته، هو في مجال السرد وأنا في مجال الشعر إلى جانب السرد.
أتذكر، كنت في دمشق، وأحمل معي جريدة الأسبوع الأدبي في أحد المطاعم الطلابية عندما قرأت نصاً لعبدالرحمن، كان عنوانه “أحلام دامعة لقرية وادعة” تناول فيه مجزرة حلبجة، وجدت في ذلك النص جرأة كبيرة، كما كان يمرر أبعاض قصاصي وشعراء ذلك الجيل رموز بيئتهم، وألمهم، عبرنصوصهم. تلك القصة علقت في ذاكرتي كإحدى القصص الأكثر أهمية، لاسيما إن قومناها ضمن ظرفيها المكاني والزماني. تحت سلطة نظام الاستبداد الذي كان يتطير من كل ما هو كردي، وأتذكر أن شاعراً سورياً “كبيراً” -كما قال لي شاعر سوري كان مشاكساً آنذاك- نمَّ لاتحاد الكتاب السوريين عن قصيدة لي نشرت في “الأسبوع الأدبي” أهديتها إلى جكرخوين قائلاً عبر هذا الإهداء: إلى جكرخوين أنت أيضاً لك معطف يخرج منه الآخرون..!
أشرت إلى هذه الحادثة، وهي غيض من فيض، لأشير إلى الظرف الذي كنا نكتب فيه، ونمرر رموزنا عبر وسائل الإعلام، وكان عبدالرحمن سيدو أحد هؤلاء الكتاب الذين لايساومون على بيئتهم، بل ظل وفياً لها. إذ أن روح عوالم قصصه كانت كردية، أسماء شخوص، وأمكنة، وهو أقصى ماكان يمكن أن يفعله أحد كتاب هذا الجيل، وهو يتبنى رسالة وألم ومعاناة أهله.
إذا كنت أعتصر الآن ذاكرتي، لأحاول استحضار صور لقاءاتي والصديق سيدو، فلعلي أجدها قليلة، ومنها تلك التي تمت بعيد أمسية لي في حلب، أو غيرها، غير أني لا أنسى صوته، أثناء انتفاضة الثاني عشر من آذار وهو يتصل بي ويسألني:
ماحالكم في قامشلي؟
متضامناً مع أهله، عبر مكالمة هاتفية، من دون أن يتحسب لأحد، في ذلك الوقت الذي كانت هواتفنا تحت مراقبة حصار آلة النظام، وكان هناك من يتوعد بإبادة الكرد من الجغرافيا والتاريخ.
إن الحاجة إلى قلم عبدالرحمن سيدو-ابن جبل عفرين- تبدو الآن جد كبيرة، لاسيما إن مكانه بات مستهدفاً بمحو ملامحه، وزوال كائنه. إذ كان حرياً به، أن يواصل كتابة رواية مابعد حلمه، ليقدم بدوره وثيقة إبداعية صادقة عما يكابده إنسانه ومكانه على أيدي النظام الدموي وأدواته وطفيلياته التي استعان ويستعين بها.
هذا الملف الذي نقدمه عبارة عن تحية إلى روح كاتبنا المبدع عبدالرحمن سيدو، لنقول له: أهلك لن ينسوك…!
وهو في الوقت نفسه بمثابة تحية إلى-عفرين- وهي في مرمى قصف القتلة، الأعداء…
لروحك السلام، وجنان الخلد، أيها الكاتب الطيب والنبيل…!
عمر كوجري
عبدالرحمن سيدو.. 
القامة التي ظلمناها في الحياة والممات
رحل القاص والأديب الكردي المتميز عبدالرحمن سيدو قبل القيامة السورية بشهر واحد، رحل، وكأن مشيئة الآلهة كانت كذلك ليغادر عالمنا الموبوء بالكثير من الوجع والفجيعة، رحل دون أن تتحرّق روحه الكردية المبدعة الطيبة من ويل ماحل بأهل بلده، وبالمدينة.. الأسطورة التي أحبها، وكتب عن زوايا وأزقتها وشوراعها وأشجارها الكثير.. وهي مدينة حلب.. رحل دون أن يشعر أن رئتيه تطبقان على حالهما.. وهو يرى أن مسقط رأسه عفرين، وتحديداً قريته” الفريريه”.. محاصرة من كل الجهات.. تنوء تحت حمل كبير، وتدفع فاتورة كونها عروسة وطن نفترضه حلواً دوماً.. وطن اسمه في الحلم وبين أصابعنا “كوردستان” عفرين .. التي فتك بها الغريب، ولم تسلم من خنق القريب، وهو يحاول جاهداً لوي عنق شجر الزيتون، ويجعل من زيتها سراجاً ليضيء بها ظلمة عقله الذي لايرى في اللوحة غير صورته الواحدة الوحيدة.. عفرين التي كانت ترتحل مع حروف القاص عبدالرحمن. إنها مشيئة الله ألا تبصر عينا العاشق سيدو كلّ هذا الخراب والدمار الذي ألحقه قائد الدبابة ومطلق المدفعية،والضاغط على زر طائرة الهليكوبتر وهي تلفظ حمم الموت والهلاك من البرميل المتفجر بالبلد وأهل البلد.. فسال الدم سال.. وطال الحزن واستطال في حلب وعفرين والشام ورقة الرشيد، وكل بقعة من أرض البلد.
عبدالرحمن سيدو الذي لم يلق اهتمامنا بها وهو المبدع الجميل.. كسوريين بصورة عامة، وككرد على وجه التخصيص، وها نحن – كما شأننا- في غيابه غيابه المر نتلمس فحشة الخطأ في تقديرنا، لقد تنكرنا له.. رغم أن الكثير منا قد تتلمذ على يديه، وقرأ قصصه المبثوثة في حنايا الجرائد والمجلات، وبين دفتي خمس مجموعات قصصية، كانت كافية لتعلن عن الأديب سيدو عن استحقاق وجدارة.
سيدو الذي لو لم يفتك به المرض اللعين، لكان قد صدر من معين روحه الأحلى والاحلى.. وهو الذي بدأ لتوه مغادرة فن القص، وجهز مخطوطه الروائي الأول” ماذا أحكي لكم؟” وقد كتبها بطريقة قصص ألف ليلة وليلة.. لكن عين المنية كانت تترصد أنفاس الرجل.. ففتكت به.
رحل سيدو دون أن نقدّم له التكريم الذي يستحق من أبناء جلدته على أقل تقدير، من منا نحن المشتغلين في حرائق الكتابة والأدب والصحافة نملك أحداً من كتبه الخمسة؟ 
لا يكفي أن نكتفي بالقول أنه كان كاتباً قصصياً مبدعاً، وكان “علامة فارقة” في دنيا القص السوري، لماذا نسينا هذا الكاتب في اللحظة التي واريناه الثرى، وعدنا أدراجنا من المقبرة،وصار الرجل وإبداعه وقلقه وأرقه وحريق روحه فيعصف وعسف النسيان؟
تعالوا بدلاً من كل هذا.. الذي نعمل له.. وهو محمودٌ بالتأكيد.. تعالوا نبحث عن جهة.. شركة.. دار نشر.. مطبعة.. أو حتى نجمع نحن أصدقاء ومحبو الكاتب سيدو ما يلزم لطباعة مجموعاته الخمس من جديد، وبحلل بهية.. تعالوا نطبع مخطوطه الروائي الأول.. هذا هو التكريم.. بل التجزيل في عطاء رجل ظلمناه في حياته.. وها ظلمنا له يمتد وهو مرتاح في ملكوته الأبيض.. البعيد عنا.. وعن أحزاننا الوارفات.
صبحي دسوقي
 عبدالرحمن سيدو 
وداعاً أيهاالراحل
في نهاية الثمانينات كنت أجلس في مقهى في حلب مع الشاعر الكبير(حامد بدرخان)، وقبيل مغادرتي أصر على دعوتي على العشاء، وأعلن عن رغبته بحضور ضيف آخر لسهرتنا، مساء دخلت النادي العمالي وعندما لمحني نهض مرحباً بي، وعرفني على ضيفه الآخر(عبدالرحمن سيدو) وخلالها استأثر الأدب بمعظم أوقات جلستنا، وكان سيدو بسيطاً في تعابيره ونقده وملاحظاته، وهذا ما أسهم بتعزيز معرفتنا المستقبلية ولقاءاتنا، في حلب تكررت لقاءاتنا برفقة الفنانين عنايت عطار ومحمد صفوة وحامد بدرخان وفايز العراقي، والتقينا مراراً في دمشق بصحبة محمد خالد رمضان ورياض صالح الحسين وشكر الله سعيد وشاكر السماوي ويونس الجبوري وآخرين، وصرنا نرتب أمسيات مشتركة في حلب والرقة والقامشلي، كنا نوقت أمسياتنا كي تتوافق مع احتفالات عيد النيروز، وكنا نقدم أمسياتنا في الحسكة والقامشلي ورميلان وبلدات كثيرة في ريفي الحسكة والقامشلي.
في حلب تواجدنا في أمسيات في جامعة حلب وفي فرع اتحاد الكتاب العرب، وزارنا سيدو إلى الرقة أكثر من مرة وشارك فيها بأمسيات أدبية عديدة… في قصصه تقاسيم لمحاولات الإنسان المقهور من حزن يحيط به ويهد روحه ويضعف قدرات جسده على المقاومة والفعل.
في نهايات قصصه يستسلم للفجائع، ويتركها دون رتوش ودون مراهنات وأحلام كاذبة، كان صريحاً إلى حد الوجع، وحزيناً إلى حدود البكاء.صادق 
مع نفسه وغير عابئ بآراء نقدية وانطباعات تريد منه تزييف (الواقع والحزن وتجميله.
ومن التقى به وعرفه وخبر إنسانيته يدرك أن قصته:
(ذلك الرجل.. ذلك الدم) هي الأقرب إلى صفاته وعذاباته وتوقه للحرية والخلاص من قيود توهن قدرته ورغبته بالتغيير، وهي تجسد رؤيته للعالم وأحداثه العاصفة.
“يا أهل الخير..أنا إنسان صريح..أنظر إلى السماء، وأصيح يا للسماء الزرقاء.. أضع حبة الحنطة في فمي وأطحنها بأضراسي، وأهزج يا للخبز الطيب..؟!”.
هكذا هو وصراحته التي دفعت بالبعض إلى النفور منه، والوقوف بعيداً عن حاجته لأصدقاء حقيقيين يقدرون ما يكتنزه قلبه من طيبة وحب ووداعة وإلفة، هو لا يبحث عن المستحيلات ولم يهدر عمره بانتظار تحققها، بل طحن الألم وامتصه وركنه في داخله وخرج إلى الحياة ليقول لها كم أنت جميلة رغم أن الدم يكلل تضاريسك وتفاصيلك.
هو يبحث عن ذاته في عيون الآخرين في شوارع حلب وعفرين وأزقتهما، هو يرى ما تغاضى الآخرون عن رؤيته، لذلك يشدهم من صدورهم ويدفعهم للنظر إلى السماء التي اصطبغت باللون الأحمر القاني.
ويناشدهم برؤية واقعهم بعين الحقيقة:
(فصرخت ملء حنجرتي.. يا أهل قلبي..- إنها تمطر دماً)..
فتوافد أهل قلبه ليكذبوا رؤيته ونظرته المتشائمة:
(انتبه لما تقول.. السماء زرقاء ونقية)..
الآخر يرى السماء زرقاء، وهو يراها بعينه الثاقبة (حمراء.. يقطر منها الدم ويهطل منها..)؟!. ورغم محاولاته الرؤية بأعين الآخرين المتفائلة وسعيه لمعايشة الحياة بطبيعية إلا أن كل شيء حوله كان يصطبغ باللون الأحمر، الطعام والحلوى الكراسي، الطاولات، الجدران، لمبات النيون كان كل شيء يقطر دماً قانياً. الآخرون غير عابئين بتحذيراته، منشغلين عنه بالتهام الأطعمة والحلوى بهناء وراحة بال.
( – أنتم تأكلون دماً..؟!).
لم يبال أحد به وبصراخه، ومضوا في التلذذ بما يملكونه، يحمل ثقل جسمه، ويخرج إلى الدنيا، ليشاهد الأبنية تصطبغ بالأحمر، فقط العشاق كانوا يستشعرون بالأخطار القادمة، وكانوا بضعفهم وعجزهم في المواجهة مع خذلان الجميع لهم وللحياة.
لم يقتصر الأمر على السماء، بل هطلت الدماء لتلون كل الموجودات الخضار والفواكه والمعلبات وعلب الدخان، نداءه يتردد بمواجهة لا مبالاة من الآخرين:
(أنتم تعيشون في الدم وبالدم ،لم يكن أحد منهم منتبهاً إلي أو سامعاً زعيقي؟!).
الآخرون يريدون لحياتهم أن تمضي بفرحها المزيف، وهو يصرخ بهم ليريهم الحقيقة عارية، كما هي دون رتوش ومساحيق وإضافات.
وعندما التقاه صديق عمره، انتشل يده من كفه وصرخ:  
( – أنت تنزف، من جرحك..؟!       سألته: – هل هناك دم..؟!
ضحك وضحك.. حتى بانت مؤخرة حلقه، تركني ومضى..؟‍!).
هو وحيد بمواجهة دامية، أعزل في مواجهة شرور العالم وطغيانه، الكل يتحاشاه وينأى بنفسه عن المعاناة التي تضيق على صدره وأنفاسه ووهج روحه.
وحتى شيخ الجامع الذي يرتدي ثوبه الأبيض الزاهي ويطقطق بمسبحته، يظهر على حقيقته، حين يرى السبحة البيضاء على حقيقتها كبندقية مشرعة في وجهه وصدره، وتتحفز لرديه قتيلاً مجللاً باللون الأحمر القاني.
(ضحك ضحكة كبيرة حولته إلى أفعى، تلفت يمنة ويسرى ثم غاب في أحد الشقوق القريبة، ركضت خلفه، جريت، حاولت الإمساك به، قطعت شوارع كثيرة، ومدن كثيرة، كدت أدهس من قبل السيارات المسرعة وأنا أزعق الدم – الرجل.. وكان المارة يتوقفون للحظات، ثم يتابعون سيرهم بهدوء. ووقت وصلت إلى بيتي كانت الدنيا، المدينة، الشوارع، الرجال، يغيبون في عتمة حمراء غامقة، ألقيت بنفسي على أرض البيت، رحت أسبح في بركة الدم فأعدت الصراخ والزعيق.. – يا تاج رأسي الدم في داخل البيت.. ثم سرت قشعريرة في بدني، ارتجفت، تعرقت، تقيأت، صحوت، وكان ذنب الثعبان قد اختفى في الشق تماماً..).
– في ظل الظروف الصعبة التي نمر بها كسوريين، ضعفت الذاكرة وما عادت قادرة على تذكر الكثير من المواقف واللقاءات وأسماء من كنا نلتقي بهم.
– المؤلم بالأمر أن مكتبتي الضخمة التي بدأت بتجميعها منذ عام 1972 قد أحرقها الظلاميون، وهي تضم إهداءات لعدد كبير من الأدباء والشعراء والروائيين، بما فيها كتب المبدعين حامد بدرخان وعبدالرحمن سيدو.
محمد باقي محمـد
 في رثاء الخيول..
إلى روح القاص الصديق عبدالرحمن سيدو
إذاً.. هي ذي الذاكرة – في تذرّرها أو في انقسامها – تستحضر أخيلة، راحت تنأى لمصلحة غياب واثق صلف ومكابر، بيد أنّ التوثيق بلغة الأرقام سيخذلنا، لذلك فإنّ الوقوف بروح المكان والزمان والحدث يتوضّع في خانة الضرورة، وذلك لجهة رثاء أحد فرسان القصة القصيرة في سورية! إذاك كان عدد من الموقف الأدبيّ – اختصّ بالقصة القصيرة في سورية – قيد التداول، وبقراءة متأنيّة في المتون وقفنا بالقصة الأخيرة في العدد على تفاجؤ، ذلك أنّها المرّة الأولى التي وقعنا فيها على نصّ للقاصّ عبد الرحمن سيدو، لم نكن قد قرأنا له بعد، بل أنّنا لم نكن قد سمعنا باسمه، وفي التوّ داخلنا الشعور بأنّنا في حضرة أحد “مقترفي” هذه الغواية باقتدار، وكمتابعين لهذا الضرب من الكتابة – عداك عن “اقتراف” ـها – رهننا الفضول في خانة المتابعة، المتابعة أو المراهنة على هذا الاسم! على هذا – ولكي لا يبدو كلامنا مُطلقاً على عواهنه – سنتناول بالدرس قاصّاً كان له أن يُشكّل رقماً في القصّ السوريّ، كيف؟! لو قيّض لتجربته أن تمتدّ وتكتمل، ولم يقف ملك الموت ببابه على عجل وافتئات، ذلك أنّ سيدو كان يجيد أنماط السرد كلّها، ويعرف كيف يدير حدثه القصصيّ، كيف تبنى الشخصيّة، وكيف يجترح نهايات مُفارقة تقوم على المدهش والمُغاير،  وكيف ترتبط الأجزاء في وحدة كليّة، علاقتها ببعضها، وعلاقتها بالكلّ!
على هذا التأسيس سنقرّ كمتتبّعين لنصوص سيدو وقوفها – العميق والماتع، العميق لجهة فهم كبير لطبيعة النفس البشرية، والماتع بما يميّز العمل الفنيّ لجهة الإمتاع – بالريف السوريّ في منطقة مُحدّدة، في ريف حلب الشماليّ، ريف عفرين تحديداً، هناك حيث الغلبة للكرد، ما محض متونه خصوصيّة طاغية مايزتها، ومايزته عن غيره من القاصّين!
وعلى هذا – أيضاً – ستحضر متلازمات الفوات والفقر والجهل والتخلّف في متونه، عداك عن علاقة ملتبسة بالسلطات المتعاقبة، بسبب غياب صيغة العقد الاجتماعيّ غالباً، الصيغة التي تحدّد الحقوق والواجبات لكلّ طرف من جهة، أو لأنّهم جزء من كرد سورية من جهة أخرى!
وستتوزّع تلك المتون على الوطنيّ والاجتماعيّ والإنسانيّ، إذ أنّ سيدو سيحوّل الوطن إلى ثيمة أو أغنية تهفو إليها القلوب أو إلى سكن، فيما تتبدّى مفردات المُجتمعيّ في بيئة تشكو الفوات، بيئة ذكوريّة قاسية وفظة، ما يوقع بالمرأة حيفاً ما بعده حيف مثلاً، ثمّ أنّه واع لانشغال الفنّ بـ / أو اشتغاله على أقانيم ثلاثة خالدات، كان الشاعر الروماني هوراس قد قال بها كوظائف للفنّ، الحق والخير والجمال، لذلك انفتحت نصوصه على أفق إنسانيّ وسيع، تنتصر لتلك القيم وتعليها!
بهذا المعنى ستحضر القرية في تلك المناطق بتفاصيلها الصغيرة، ليتبدّى الاشتغال على المكان في مستويين، مستوى يتحدّد في حضور واقعيّ، حضور يبيّىء النصوص، فينسبها إلى بيئة مُحدّدة، وآخر نفسيّ، ثمّ أنّ حضوراً ثالثاً سيطلّ برأسه في غير نصّ، حضوراً سحرياً عبر عناصر أسطرة تتبدّى في تلك النصوص، ما يحوّل المكان فيها إلى فضاء قصصيّ يندغم بمصائر شخوصه، ويقف إزاءهم كندّ، أي كبطل!
ولأنّ التركيبة بطريركيّة أبويّة تعاني المرأة في متون سيدو من اضطهاد الزوج، بل أنّه يتجاوز الزوج إلى حميها وحماتها، إذ أنّ تحويراً يطال الحماة، فتتماهى بدور الرجل تماهي الضعيف بالقوي، ذاك الذي قال به عالم الاجتماع الجليل ابن خلدون، وتنهض هي باضطهاد بنات جنسها، على نحو يفسّر مدى التشوّه الذي يصيبها في مجتمعات كهذه!
لكنّ سيدو ينتصر للحبّ، ينتصر له كقيمة، بعيداً عن احتمالات الربح والخسارة، ولذلك فإنّ أبطاله سيقعون فيه المرّة تلو الأخرى، وينافحون عنه أيضاً!
أمّا في أنماط السرد أو تقاناته فإنّ سيدو يجرّب إمكاناته في قديمها وحديثها، لذلك سيحضر السرد التقليديّ، ذاك الذي يُنفّذ بدلالة الفعل الماضي، في إحالته إلى ضمير الغائب الشهير “هو”، على ألاّ يُفهم ممّا سلف أنّنا نروم نسخ السرد من ملكوت القصّ، ذلك أنّه تجاورَ وأنماط أخرى حديثة، ثمّ أنّه – أي السرد بحسب الشكلانيّين الروس، تشيرنشيفسكي مثالاً – بنية مُعقدة، تحكم زاوية الالتقاط، كما تحكم علاقة الأجزاء ببعضها، وعلاقتها بالكلّ، فإذا أحْسِنَت التوليفة جاء النصّ غاية في الجمال!
ثمّ أنّ القاصّ مدرك أنّ السرد – لوحده – قد يشم متنه بالملالة، لذلك فهو يعمد إلى التقطيع الفنيّ، على نحو يتيح له اللعب على التقديم والتأخير، ما ينسخ عن الزمن نسق التعاقب، ويحيله إلى خانة المنكسر منه، عداك عن أنّه يضخّ في النصّ توتراً درامياً ضافياً، أي أنّه يلعب على التشويق عبر التقديم والتأخير للأجزاء، فينأى به عن الملل!
وقد يعمد إلى مونتاج مزدوج، فيتتالى النصّ في خطين يلتقيان في الخواتيم، في تقنية تتشبّه بتعدّد الأصوات أو تعدّد الضمائر، ما يتيح له – بالتضافر مع التقطيع – أن يقدّم زمن الفكرة، الذي قد يخرج عن تعريف القصة القصيرة بما هي حدث شديد الضبط في الزمن، ذلك أنّ زمن القصّ يضبط زمن الفكرة ذاك! بل أنّ تعدّد الضمائر أو الأصوات يحضر بوضوح في بعض متونه، فتحضر الكنة، ويحضر الحمو، وتحضر الحماة مثلاً، تاركاً لشخوصه أن رحل قبل عدة أشهر أحد مبدعي حلب وسورية تنمو وفق منطقها الداخليّ، من غير أن يلوي عنق الحدث، أو يتدخل فيه على نحو قد يخلّ بالبناء القصصيّ، ويفقد الشخوص قدرتها على الإقناع، ناهيك عن اعتماد الخطف خلفاً أو التداعي أو التذكّر، على نحو يشي بتملّكه لتقانات القصّ المختلفة!
فإذا وقفنا بلغة سيدو، وجدناه يمزج التعبيريّ منها بالتوصيف، على هذا سيحضر الشاعريّ بحدود، ليخلق انزياحات في لغة القصّ، وذلك بما تنطوي عليه تلك الانزياحات من أفياء وظلال وتوريات، لتوحي وتومي وتقول، مع الشاعرية سيحضر ميزان دقيق، لكي لا تغيّم حدثه القصصيّ أو تغيّبه، هي لغة تتسّم بالجمال إذاً، وهي إذ تشتغل على التوريات تظلّ لغة فياضة متدّفقة، لكن من غير أن تتقعّر أو يكون لها ضجيج!   
وفي تلمّس العلاقة بين الشكل والمضمون سنلاحظ انسجاماً واتساقاً بيّناً بينهما، فسيدو يشتغل بدلالة مبدأ الحذف والاصطفاء، هو يصطفي الجوهريّ – بحسبه – ويحذف العارض، وبذلك يحمي متونه من الترهّل أو الاستطالات والزوائد، إنّ نصوصه مشغولة بتكثيف شديد، تكثيف يتاخم هذا المفهوم في قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر! 
بقي أن نشير إلى استعارة غريبة قام بها سيدو في بعض نصوصه، إذ لجأ إلى عالم الحيوان في ترميز قارب فيه تخوم الأسطرة، وإذا كان الوقوف بحيوانات مُدجّنة وارداً ومُتاحاً، إلاّ أنّ سيدو سيذهب إلى الحيوانات غير الداجنة كالذئاب، وهو إذ يجترح هذا الذهاب يجترحه باقتدار لا يتأتى إلاّ لفارس أو بدويّ أو عاشق! 
وبرحيل عبد الرحمن سيدو فقد المشهد القصصيّ في سوريّة قاصاً مهمّاً، كان يعد بالكثير، أمّا على المُستوى الشخصيّ فلقد فقدنا برحيله الفاجعيّ زميلاً وصديقاً على قلة لقاءاتنا وتباعدها، ربّما لاتساق بين نصوصه وسلوكه!……. وداعاً عبد الرحمن سيدو، وداعاً أيّها النسر الجسور، وداعاً أيّها الذئب الجريح.. 
ناهض حسن 
  المبدع عبدالرحمن سيدو… 
ذكريات وملاحظات نقدية وقصيدة ذاوية
المتميزين في كتابة القصة القصيرة وفي الرواية: إنه القاص عبدالرحمن سيدو، عضو اتحاد الكتاب العرب، وأعتقد جازماً أن المرحوم سيدو الذي خلف لنا أكثر من خمس مجموعات قصصية، وأشهرها مجموعة «الذئب» المتميزة إبداعياً ورؤيوياً ولغوياً وفنياً، إضافة إلى مخطوط رواية.
هو علامة فارقة في القصة السورية عموماً، ومن حق حلب أن تفخر أنها أنجبت أديباً وقاصاً متمكناً من فنه وأدواته بهذه السوية، إلا أن من واجبها أيضاً تكريم هذا الأديب والتعريف الدائم بإبداعه وفنه، فليس من المعقول مطلقاً أن تمر ذكرى مبدعينا الراحلين، ومنهم سيدو، دون أن نفتح لهم نوافذ قلوبنا، ودون أن ننوّه بما أنجزوه وقدموه من إبداعات وعطاءات. ولعل ما يحزّ في النفس حقاً أن مبدعاً مثل سيدو مر رحيله قبل فترة قصيرة، إلا أن أحداً لم يذكر فضله أو إبداعه، أو ما قدمه لهذه المدينة التاريخية العريقة تحديداً!! 
هل هذا معقول؟ أين ذهب أصدقاؤه وزملاؤه من كتاب القصة والرواية في حلب، أين نقاد القصة الذين أثبتوا تمكنهم النقدي في الساحة السورية والعربية؟ هل يسمع صوتي الآن بعضاً من الأصدقاء والنقاد والأدباء من أمثال: نذيرجعفر، وفيصل خرتش، والدكتور أحمد زياد محبك، ومحمد أبو معتوق، والدكتور فايز الداية ..إلخ .. وهؤلاء كتاب ونقاد أحترمهم وأحترم نتاجاتهم الإبداعية والفكرية. وهنا لا بد من التنويه بما كتبه الدكتور نضال الصالح عن الراحل.
وفي الحقيقة فإن الإهمال لم يطل ذكر ىسيدو في رحيله بل شمل ـ إلى حد ما ـ قامات كبرى في النقد الأدبي السوري والعربي، قامات تزهو بها مدينة حلب، وترفع بهم رأسها عالياً بين المدن العربية العريقة والفاعلة في الأدب والفكر. هل ننسى الناقد الكبير محمد عزام الذي قدم ثلاثين كتاباً نقدياً، وكان يقدم بصمت ملفت دون ضجيج وصخب؟ وهل ننسى شيخ النقاد الدكتور نعيم اليافي رحمه الله؟ هؤلاء رحلوا في السنوات القريبة الماضية، وأنا لا أقول هنا أننا أهلنا التراب على منجزاتهم بشكل كامل فما زال هناك بعض الأوفياء في هذا العالم المتهالك، ولكن ما قدمناه لذكراهم ولعطائهم لم يكن كافياً بأية حال من الأحوال! 
ظاهرة النسيان وعدم الوفاء ظاهرة مدمرة، وإذا كان ذلك قد حصل «نسبياً» مع أسماء غادرتنا قبل سنوات عدة، فما الذي سيحصل مع أعمدة الأدب الحلبي والسوري في المستقبل؟ ما الذي سيحصل مستقبلاً للقامات التي أسست الأدب الحلبي ـ العربي ـ في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي من أمثال: 
أورخان ميسر، وعلي ناصر، وخيرالدين الأسدي، هؤلاء لم يكونوا رواداً لقصيدة النثر السورية قبل محمد الماغوط فحسب، بل كانوا رواداً لقصيدة النثر العربية، هذا غيض من فيض، والله من وراء القصد!!. ما أثارني الآن هو ذكر ىسيدو لأنه الراحل الأقرب إلينا زمنياً، إن الأديب المبدع الذي امتهن الحرف، ودافع عن نقاء الكلمة والفكر يلوح أثره الفاعل بعد رحيله بنقطتين جوهريتين رئيسيتين: 
أولاً: القيم الإبداعية والفكرية التي وسمت إبداعه وفكره. 
ثانياً: القيم الأخلاقية والروحية التي تحلى بها أثناء حياته وأثرها في نفوس وأبناء مجتمعه. 
وأستطيع التأكيد أن فقيدنا الراحل، سيدو، حاز الاثنين معاً، إبداع فاعل ومؤثر في مجال القصة والثقافة عموماً، وخُلق كريم تجسد بسماته الأخلاقية الرفيعة: الوفاء للصديق، الكرم، الإنسانية والمحبة، احترام الناس وعدم الانتقاص منهم أو اغتيابهم. 
في مطلع التسعينيات وهو تاريخ حضوري وعيشي في هذه المدينة الطيبة «حلب» حضرت أمسية أدبية أقامها اتحاد كتابنا في فرع حلب لمجموعة من الأدباء، وكان من بين فرسانها، فقيدنا الغالي. حينما فرغ المرحوم من قراءة قصة «الذئب» التي تحولت إلى عنوان لإحدى مجموعاته القصصية، أدركت للتو واللحظة أنني أمام قاص مبدع حقاً، وأبديت إعجابي به. ومنذ تلك اللحظة التاريخية، بدأت رحلة صداقتي الطويلة معه وحتى لحظة الفراق المر في مطلع عام 2011. أي أن الإبداع كان هو المفتاح ونقطة البدء في هذه الصداقة الكريمة. 
مما لفت انتباهي في قصصه كسمات فنية ورؤيوية ولغوية وبشكل خاص ذلك التوتر العالي الذي كان ينبض داخل نسيج هذه البنية الدرامية ويمنحها وهجاً دلالياً وألقاً إبداعياً يأسر القارئ ويخلب لبّه، ويجبره على التفاعل مع الحدث وكيفية تناميه وتطوره، وإنني أزعم هنا أن فقيدنا المبدع كان يعيش أجواء ومناخات أبطاله النفسية، يرصدها ويتمثلها بصدق، لذلك فهو يرسمها على الورق بشكل ساخن، وكأن أبطاله انتقلوا تواً من حرارة الواقع إلى سخونة الورقة البيضاء، وأزعم أيضاً أن المبدع سيدو كان يتأزم هو الآخر في أثناء كتابته عن أبطاله، لذلك فإنه كان يسفح توتره الداخلي المعبر عن توتر أبطاله ومناخاتهم التراجيدية على الورق، فيغدو النص الفني في هذه الحالة مكافئاً ومعادلاً موضوعياً للواقع وأبطاله وشخوصه الذين صنعوه ومنحوه الحياة والتشكل والصيرورة. 
بمعنى آخر .. إن هناك تفاعلاً منتجاً وفعالاً بين الذات المبدعة وبين نصها يتجسد بانتقال التوتر من الفرن الروحي للذات المبدعة إلى نصها الفني المتوهج بالدلالة، والنابض بالحرارة والسخونة التي هي ليست إلا سخونة الحياة، وسخونة روح المبدع ذاته. هذه السمة الفنية رصدتها أيضاً في قصته التي أظن أنها كانت بعنوان «موسى الحلاقة» وتحكي عن ندبة وجرح بليغ في وجه البطل الرئيسي أو المحوري في القصة، والذي تعرض لضربة مباغتة بالموسى تركت علامة فارقة على وجهه ستظل ملازمة له طيلة حياته، ولعل الجرح الغائر في الروح نتيجة لهذه الضربة الغادرة هو الأمضى من الضرر الجسدي. هذه القصة كانت مشحونة بأجوائها السريالية الغامضة، حين سمعتها شعرت بشكل خاص بالأجواء الكافكوية وغموضها والرعب الذي تثيره في نفس المتلقي. 
ـ السمة الفنية الثانية التي كانت تميز بها قاصنا المبدع الراحل في أغلب نتاجه القصصي، ولا أقول كله، هي محاولته الدؤوبة لأن يتميز في رؤياه، وأن يكون له زاوية رؤية خاصة في تعامله مع الواقع والحياة ومع شخوص وأبطال قصصه وحكاياته. صحيح أنه بدأ متأثراً بأجواء وعوالم همنغواي، إلا أن خصوصيته الفنية كانت تنبع من ارتباطه المباشر بهموم بيئته الشرقية والوطنية، وهذا يعني أنه تأثر وتفاعل مع الإبداع البشري والحضارات البشرية الأخرى لكنه لم «يتغربن» وشتان ما بين التأثر والتغربن.
ـ أما السمة الفنية الثالثة فهي لغته الشاعرية الجزلة والمتينة والمشرقة، الموحية والمجازية غالباً. إن تمكنه من هذه الأداة الحاسمة في العمل الإبداعي والفني عموماً وفي العمل القصصي وهو المجال الفني الذي أبدع فيه، كان السبب الأساسي لنجاح نصوصه القصصية وتميزها، وأزعم أيضاً أن لولا هذا التوتر والحرارة والتوهج في لغته لما استطاع شحن قصصه وبنيتها الدرامية. بهذا التوتر العالي، إضافة إلى توتره النفسي الواضح في أثناء لحظة الكتابة الإبداعية، استفاد المرحوم من إمكانات الشعر في تشكيل وبناء لغته وصوره وقد أبدع في استخدامه لتقانة السرد الشعري. 
رحم الله أديبنا الراحل سيدو، وأنتظر اليوم الذي تنصفه فيه هذه المدينة التاريخية العريقة.‏
نضال يوسف
  عبدالرحمن سيدو”..
توهم أن الكتابة هي الخلاص
تجربة الأديب “عبدالرحمن سيدو” هيمنت على التجارب الأدبية الرائدة في النسيج القصصي السوري، وقصصه تمثّلت فيها الإنسانية على نحوٍ جليّ وخاصةً في طبائع أبطالها.
الأديب “فواز حجو” يتحدث لموقعنا عن الأديب المرحوم “عبدالرحمن سيدو” وتجربته بالقول: «لقد عرفتُ الأديب “عبدالرحمن سيدو” منذ عقدين من الزمان، وذلك من خلال أول قصة استمعت إليها في إحدى الأماسي الأدبية، هذه القصة كانت بمثابة همزة وصل بيني وبينه إذ أعجبتُ بها وعلَّقتُ عليها في تلك الأمسية، ومن ثمَّ كانت الصداقة بيننا فجعلت منه إنساناً قريباً من القلب.
لقد حظي “سيدو” بحبّ واحترام كثير من الأدباء في الوسط الأدبي لما كان يتَّصف به من دماثة أخلاق وحسن سيرة ونقاء سريرة، وهذا هو رصيده الأخلاقي في الوسط الأدبي وفضلاً عن ذلك كان إنساناً لم تخطئ شمائله مزايا الإنسانية وهذا ما حبَّبه إلى الناس وحبَّب الناس إليه، فمن يقرأ مجموعاته القصصية وما عالجته من قضايا إنسانية في شخوص أبطاله الذين حملوا قيماً سامية يلحظ بجلاء تلك الروح الإنسانية تتراءى هنا وهناك في قصصه ولذلك فإنّ أدبه أدب إنساني وهو صورة صادقة عن إنسانية صاحبه وكيف لا وقد انحاز هذا الأديب إلى حياة الناس البسطاء في الريف بكل ما يمثله من قيم نبيلة كانت شغله الشاغل إلى جانب شغله الفنّي في أدبه».‏ ويتابع “حجو”: «ولد “عبدالرحمن سيدو” في قرية فريرية منطقة عفرين في العام 1951م، ‏تلقى تعليمه بين قريته و”عفرين” و”حلب”، عمل مدَّة في حقل التدريس، حصل على الإجازة في الحقوق ومارس المحاماة بين “حلب” و”عفرين”، كان عضواً في اتحاد الكتاب العرب- جمعية القصة والرواية، وكان عضواً في نقابة المحامين بحلب.
‏كتب القصة القصيرة والرواية ونشر نتاجه في الصحافة المحلية والعربية‏ وأول قصة نشرها كانت في مجلة “الموقف الأدبي” في العام 1976م وهي بعنوان “صرخة ‏في رماد الأرز” ثم نشر في مجلة “الأقلام” العراقية، كما نشر في جميع أعداد مجلة “الموقف الأدبي- الخاصة بالقصة، توفي في العام 2011م في “عفرين” ودفن في قريته “الفريرية” التابعة لناحية “جنديرس”».‏ 
الأديب “أحمد خيري” يقول عن أعماله الأدبية وتجربته بالقول: بقعة ضوء في ذاكرة مغبرة، غناء البنفسج، الذئب، درجة ضغط 18″ هي لوحات قصصية مذهلة في النسيج القصصي السوري لقاص كان له حضور هائل على الساحة القصصية السورية، فهو واحد من جيل الثمانينيات، خرج من الأرض الجبلية الصلبة، من سنديانة الزمن المر ومن رائحة البنفسج وعبق الريحان، من ذاكرة مغبرة حاول أن يرش بقعاً من أضوائه عليها، خرج من البنفسج وبيارات الزيتون، من عواء الذئاب ولوحة “جمشيد” و”آرتين”، ومن أحاديث النساء القرويات، من “خجو” و”زينو” ومن أزقة ذاكرة مغبرة ممحوة بالنسيان.
طاف بين الحقول ولم يترك زهرة إلا ونشر رحيقها بين ثنايا قصصه، فهو الذي حمل عبق الأرض ونسائم الريحان ورماها في وجوه الأحبة والأصدقاء وعلى ذرا الجبال حيث أشعل نيرانه قافزاً فوق شراراتها محترقاً بلهيبها، رمى علينا جمراته وانكساراته واحتراقاته ومضى، دون أن يبخل بالرشاقة التي أفاض بها علينا.. فكانت قصصه كلها شرارات وجمرات واحتراقات». 
وتابع: «كيف ننسى قصة “الذئب” وهو يصارع الكلب ويغلبه والراعي مستمتع، ولكن الذئب لا تعجبه تلك الأخلاق، أخلاق الراعي فيتذكر قولة أمه: أي بني لا ترحم الراعي الذي لا يبالي بموت كلابه، أهلك خصيتيه ببأس وانتظر موته بسعادة ثم ابكلذي قتلته، وكيف ننسى “لوحة جمشيد” ببأس وانتظر موته بسعادة ثم ابكلذي قتلته، وكيف ننسى “لوحة جمشيد” التي خلدها في تصويرة “خالد بديع” وغناء بنفسجاته التي تعبق برائحة الأرض والتراب والخلود، إنه “عبدالرحمن سيدو” الذي نزف قهراً وسفراً بين “عفرين” مدينته التي ولد فيها وترعرع و”حلب” التي تركنا فيها ورحل حاملاً معه زوادته من خبز وطين وملح وأغان. 
لقد كان الأديب “عبدالرحمن سيدو” من جيل توهم أن الكتابة هي الخلاص وهي الطهارة وهي الفردوس. فتح عينيه على حالة عايشها هو وأبناء جيله وهي أن الكتابة هي الملاذ من هجير الواقع وهي الخلاص من الفقر والظلم ولكن ذلك العالم ظل يعاند أحلامه وأحلام جيله وأصبح كالسراب».
ثم أنهى حديثه بالقول: «ابتعد ونأى عن ذلك العالم وتمرس في حل المشكلات العالقة في أروقة المحاكم ولكنه لم يترك لحظة حلمه بذلك العالم الزاخر بالخلاص والطهارة والفردوس. وعندما عاندته شرعية الوسط وخذلته عوالم الأدب ابتعد تاركاً المساحة والساحة لهؤلاء للذئاب والخراف، لم يكن يرغب بأي حراك أو عراك ثقافي ولأجل ذلك نأى بنفسه عنه وعن ذلك الوسط الذي صار صراعاً من أجل البقاء والوصول وتحقيق المكاسب ورضي أن يبقى بعيداً عن ذلك البقاء. لقد مات “عبدالرحمن سيدو” الذي عرفته المنابر وصفحات الجرائد قاصاً من الطراز الأول، وعلى امتداد الفضاء الشاسع للقصة السورية».
حيدر محمد هوري
   صوتٌ يشي بالماءِ
  إلى روح القاص عبدالرحمن سيدو
(1)
ويقولُ عرّافُ المدينةِ:
سوفَ يولدُ حالماً أو شاعراً أو عارفاً،
فإذا دنا ميعادُ مولدهِ أعينوا الأرضَ،
وامتدحوا كمالاً يعتلى وجهَ الوليدِ، وأنصتوا لبكائهِ،
فبكاؤهُ كلماتهُ..
فيها المعاني قبلةٌ لمشيئة الأجدادِ ..
تتبعهُ السماءُ؛ حقيقةُ الأمواتِ صارخةً:
(أعيدونا إلى شفقِ الحياةِ ..
إلى اعتدالِ الروحِ في الأطيانِ إن ثارَ الخرابْ.)
سيشيلُ من جوعٍ تدابيرَ الحياةِ .
كواثقٍ بالأرضِ يحيا،
فانحروا جملاً إذا بلغَ الفطامَ،
لكي يغضَ القبرُ عن دمهِ انتباهاتِ التُّرابِ عن التّرابْ.
(2)
تتثاءبُ الشرفاتُ بعدكَ.
من سيقلقُها جسَ الكلماتِ مثلكَ،
بعدما أعلنت للحرفِ الوداعْ.
سأعدُّ في عجلٍ أصابعَ رحلةَ الأيّامِ
في يدكِ التي نقشتْ تفاصيلَ الحياةِ
على جذوعٍ أسلمت للرّيحِ مجذافَ الخطا..
طفلاً عدوتَ على البيادرِ
حول أكياسٍ تقدُّ ضلوعَ جوعِ الأهل من قُبُلٍ ومن دُبرٍ،
وما اكترثتْ خطاكَ لسطوةِ النائينَ عن خبزِ الجياعْ.
وبدأتَ تنمو كالسنابلِ في العيونِ..  
مشيتَ خلفَ العمرِ
حتّى عانقتْكَ هواجسُ التفّاحِ في سنِّ الشبابِ
فطوّقتكَ عيونُ من شردتْ بماءِ القلبِ،
وانسكبتْ خيالاً في رؤاكْ..
حتّى بلغتَ مقامَ هاجسها،
فصارتْ سرّكَ المخبوءُ حبّاً في أناكْ
تستقرئُ الأنثى النفوسَ.. 
مكائداً تجتاحُ هدأتها،
وتسعى دائماً لتصيرَ صوتاً في صداكْ.
تتثاءبُ الكلماتُ بعدكَ،
كلّما نأتِ الحروفُ عن اليراعْ
تغزو (حواكيرَ) النفوسِ إذا (تشيطنتِ) الهواجسُ
واعتلتْ صمت المكانِ..
وأسقطتْ عن متنِ ذاكرة الحياةِ دفاتراً /صوراً
لماضيكَ العجولِ..
تفيضُ بالأحلامِ
مثلَ حمائمٍ تقفو سلامَ الأرضِ إن ضلَّ الشراعْ
 (3)
وتكاثف تْسُحبُ الدّخانِ بغرفةٍ آوتْ سعالكَ.
بعدما غادرتها .. 
راحتْ تفسّرُ سرّكَ المنقوشَ
في تعبِ الحكايا والقوافي،
مثلما أنثى تفتّشُ في ثنايا القلبِ عن نبضاتها،
ليعودَ صوتكَ قائلاً:
قصّي عليّ حكايتي،
فلقد نسيتُ معابرَ الأسماءِ من حولي،
وضاعتْ عن مقاماتِ الحياة ملامحي.
نزفتْ عيونٌ حينَ ودّعني الطريقُ،
وأودعتْ في الرّوحِ (صُرّةَ) سرّها..
أنا لا أجيدُ سوى الحنينِ إلى مواطئ ظلّنا،
لكنّنا صرنا سراباً… 
هل نعيشُ بما تركنا من تواقيعٍ على ورقِ الحياةْ
روحي تشي للجالسينَ على يقينِ الموتِ:
أنّيَ ميّتٌ،
لكنّهم لا يعرفون حقيقتي .
ملكوتُ هذا الطينِ أضيقُ من عبوري،
والفضاءُ أمامَ روحي ضيّقٌ..
لكنّني أحيا بأوراقي،
لأمضي نحو شمسٍ تعتلي كلّ الجهاتْ.


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…