مشاغبو ما قبل الضربة .. قصة قصيرة

فرمز حسين
مع انتهاء كل ليلة من تلك الليالي المضطربة الطويلة وسماع  آذان الفجر ثم قدوم الصباح و انتشار بواكير أشعة الشمس كانت تنتابني على الدوام  رغبة جامحة بأن أغط في نوم عميقٍ خالياً من الأحلامِ و الكوابيسٍ معاً , نوماً يعيد إلى جسمي المتكسر بعضاً من قواه المنهارة, لكن تحقيق ذلك بدا أمراً شبه مستحيل ففي بلدتنا أطفالاً يعشقون الحياة , يفيضون نشاطاً و حيوية , لا يعرفون شيئاً اسمه التعب أو الخوف و لا تعرف نفوسهم التشائم على الرغم من ذلك الحصار اللانساني الطويل الخانق , يفيقون عادة  في الصباحات الباكرة و يملؤون الدنيا صخباً, أنا شخصياً فكرت و تساءلت كثيراً في أمر هذه الظاهرة و لم أتوصل إلى إجابة مقنعة سوى احتمال أن قوة التحدي تكبر عندهم توازياً مع سلوك الكبار الذين لايأبهون لما آل اليه حالهم و ربما تكون لبطونهم الخاوية دور في كل ذلك , لكن بصورة أو بأخرى كان شغبهم فيه تأكيدٌ على أننا لازلنا على قيد الحياة.
مضت ليالي كثيرة و أنا أعاني قلة النوم و حتى كلاب البلدة لم تكن  تنقطع بدورها عن النباح . كنت أشعر بأن هناك خطر ما في المحيط القريب من تخومنا و ظننت بأن الكلاب أيضاً كانت تحس بالخطر نفسه لذلك كانت قلقلة و تنبح دون انقطاع في كل ليلة تبدأ مع أفول الشمس و حلول الظلام و تستمر حتى بزوغ أولى خيوط الفجر من جديد و يكون التعب قد نال من الجميع ,حينها يغفو كل في مكانه في نوم خفيف متقطع شبيه بنوم فترة القيلولة على الرغم من التعب و الإرهاق. أنا أيضاً كنت أشعر في الأوقات المتأخرة من تلك الليالي الطويلة بأن قواي قد نفذت تماماً  لدرجة أنني لم أكن أتمكن من الانتقال الى الفراش و بالكاد كنت استطيع سحب الغطاء ليدفىء قدمي الباردتين, أتكورُ على نفسي و أرفعُ ركبتيّ حتى تلامسا جسدي و أضغطُ الوسادة الصغيرة على عظام صدري و كأن أحداً ما يريد أن يسلبني إياها وحين أصبحُ على وشكِ أنْ أغرقَ في نوم شبهِ عميق يبدأُ صخب الأطفالِ المعتادْ !
الليلة الماضية دون غيرها كان عواء الكلاب فيه شي من النحيب الحزين و كأن الكارثة واقعة على البلدة لامحالة , استمر النباح طويلاً رتيباً دونما انقطاع و في وقت متأخر جداً من تلك الليلة الثقيلة أغمضت عينيّ بعد أن غلبني النعاس! استقيظت على صوت عنيف لطائرات حربية هدرت في سماء بلدتنا على ارتفاع منخفض هزّتْ الأرضَ و أسقطتْ كل ما هو قائم و حين ابتعدت خيّم صمتُ مطبقُ على االمكانْ . لا أعرف بعد ذلك إن كنت قد غفيتُ مرةً أُخرى أَم أُغمي عليّ, كل ما أعرفه أن هناك فراغ ما…  فسحة من الزمن بين لحظة دويّ تلك المقاتلات و يقظتي الأخيرة ,ظننت بداية بأنني كنت أحلم , و أن كل ماحدث مجرد تهيؤات!
غريب!!
لماذا الكلاب لم تنبح اذاً؟ 
قلت مناجياً نفسي, كما أنني لم أسمع صوت إمام الجامع الرخيم وهو ينادي لصلاة الفجر و من بعدها و لأولِ مرةً منذ زمنٍ بعيد لم أسمع صيحات الأطفال المرتفعة التي كانت توقظني باكراً كل يوم !
 حاولت النهوض  لكن ركبتيّ خذلتاني , حاولت الصراخ ليأتي من يساعدني لكن صرختي لم تكن سوى حشرجة أبت تخرج على الملأ!! بقيت مستلقياً في فراشي و شيئاً فشيئاً زالت الغشاوة عن عيني  وعلى مسافةٍ ليست ببعيدة ٍمني رأيتُ الأَطفالَ المشاغبين كانوا  مستلقين على ظهورهم و أعينهم مفتوحة تحدقُ بنظرةٍ جامدةٍ لا حياة فيها  في اتجاه عرش السماء فيما آثار زبد أصفر كثيف قد سال من أفواههم و أنوفهم الصغيرة!
 كانوا صامتين…… جميعاً !
فرمز حسين
ستوكهولم
2017-04-23
Farmaz_hussein@hotmail.com
Stockholm-sham.blogspot.com
Twitter.com/FarmazHussein

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف

إلى أنيس حنا مديواية ذي المئة سنة صاحب أقدم مكتبة في الجزيرة

 

ننتمي إلى ذلك الجيل الذي كانت فيه الكتابة أمضى من السيف، لا بل كانت السيف ذاته. لم تكن ترفاً، ولا وسيلة للتسلية، بل كانت فعلاً وجودياً، حاسماً، مزلزلاً. فما إن يُنشر كتاب، أو بحث، أو مقال مهم لأحد الأسماء، حتى نبادر إلى قراءته، ونتناقش فيه…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…