الجَبلُ الزُّلاَلُ

ماجد ع  محمد 
1) رسّام
كانتِ الرّيشةُ تتمايلُ بينَ أصابعهِ من فرحِ الرّسمِ
وقبيلَ تقبيل اللوحة بفم الريشةِ كي يدمغها باسمه
نكزه بلا استئذانٍ طفله وقال
أبي هل لي بسؤال؟
هزّ هامتهُ الأبُّ 
وكأنه طيرٌ في الواحةِ راح يدنو مِن ماءٍ زُلال
هذي اللوحة توأمٌ لأخرى رأيتها بين ألبوماتك الولدُ قال
تمعّن الأبُّ في المرسومِ المُنجَزِ 
وكظل شجرةٍ وارفةٍ مالَ بكل حنانه عليه  
حضن الطفل بُكل أنظاره 
وأغمض من سُكر الحقيقة عينيه
ابتسمَ كصباحٍ خجولٍ أطلّ للتّوِ على عنقود الدالية 
طبعَ جبينهُ بعطر أنفاسهِ الصافية
ثم  بحبٍّ خطّ على اللوحةِ اسمَ من أشار الطفلُ إليه. 
2) شاعر
لم ينتظرْ الخواتيمَ عندما طعنَ بمكتوبه الظّنُ
ومن دون أن يُمهِل مِقصّهُ جُلبابَ قاضي الإنتظار
بسرعة سائقٍ نَزقٍ يسوق في البراري أحدثَ قطار
مزّق كل ما نسجه من حفيف الكلام في الفلاة
وما كان يتقطّرعليه كالغَمامِ مِن مزن الاستشعار
عقب يقينٍ بأن المُحرِّضَ للرّتقِ
لم يكن ملبساً ممزقاً
ولا كان مسمعاً
أو آثار مشهدٍ تداعى أمامه 
فاُسدلَ على سُكّانه حينها سِتارٌ من غبار
لا ولا كان المُسبّبُ حلقةً من عرضٍ مُزلّزلٍ
وعلى إثره تهيّجت المشاعر
لا لم يكنْ سببُ الانسكابِ 
مرأى شلال العبرات في خيمة العزاء 
ولا كان الذي أحدثَ الأثر تحليقَ سربِ النساء
إنما كلّ ما في الأمرِ 
أنّ الضيفَ الجميلَ الماكِر 
كان قِطعةً نضرةً من إحدى صروحِ قرينه الشاعر.
3) قاص
توقّف في ذروة إنفجار الأحداثِ بين يديه
لإمساكه كالمتحرِ الحاذقِ
بمتلصصةٍ من الكركوزات 
خلسةً كانت  قد هبطت عليه 
لابدةً رآها في عتمةِ النصِ 
متسللةً بمهارةِ السّارقِ انساقت إليه
فأقدم بلا ندمٍ على قصِ أذيالَ المتسلّقةِ
لا كرهاً بالضيوف 
أو نفوراً من الزّحمةِ في أيوان القَص
إنما بكونها مُلكَ يمين الجارِ كانت
وقد تكفل يوماً بتنصيبها ملكةً
على كل ما فوق الورقِ لاحقاً سيقص.
4) مُلحِّن:
كما ينقضُّ الباشقُ على زرزورٍ 
مِن هلعه يسارع للاحتماءِ بدريئةِ شقٍ رآه يتلألأ
ومن هول الفَزعِ في ظل نهدَي حلاّبةٍ ملهوفاً اختبأ
مطمئناً رأى الزرزورُ لديها الملجأ
ارتمى في ظِلال قُبّةٍ 
كادت تنافس بشموخِها سفوحَ قريتها النائية 
حيث كان حالُ المُلحِن في السقوطِ 
مماثلَ لحال الطيرِ وحالها 
فانقضت على خيمته من علٍ 
ومضَ معزوفةٍ عاتيه
ولكيلا تتملص شرايين الفكرةِ المنقضّة عليه
أمسك بتلابيبها 
وراح يُرتِّق النوتة على مهلٍ لديه
بينما وهو في أوج الإنشغال في الخلوةِ بما يجري في الخلاء 
فأوان انهماكه في ذروة حلبة الاختلاقِ
غافلته نغمةً لم يدري من أين برقُها جاء
حتى راحت رويداً رويدا 
تُخالط عفوَ الخاطر عوالمه 
تسربت الترنيمة كنسغٍ يمشي الهوينا في دمه
يُصيبُ العُمق من غير حمدٍ بأصباغِها الغائرة 
مكثت لابدةً في آخر رواقٍ من تلافيف الذاكرة
وفي لحظة إنتباه صائغِ الترنيمة على أبواب النضوج
لتداخُلٍ  مُقلِقٍ في رياضِ المُختلق
حزم أمرهُ 
امتشق بعد استنشاق هواء التفكير قرارهُ 
أوقفَ بلا ندمٍ نموَ النغمةِ قبل إيناعه
وبتر ذيلَ ما تناهى إلى مسمعه قبل إقلاعه
حتى وللأبد ينسى 
ولئلا يرديه أبد قدومَ وليدٍ مشكوكٍ بغبارِ طلعهِ
إلى مهاوي الأسى.
5) إنسان
كادَ منطادُ الخيلاءِ يطيرُ عالياً به
إلاّ أنّ جلَبةً ما أوقفته في طريق الصعود
التفت ليرى الخطبَ من علوه
وإذ بنورٍ صافٍ لا يشبه إلا الصدقَ
ماثلاً قِبالهُ
انحنى بخشوعٍ
 كناسكٍ بوذيٍّ يحملُ جبلاً من الزُّلالِ لهُ
حيّاهُ
وكادَ مِن الحبِّ
وكشوقِ ملاقاةِ العَبدِ للرّبِ 
أن يئن
ثم فجأةً تلاشى أمامهُ 
وكأنهُ لم يكن.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف

إلى أنيس حنا مديواية ذي المئة سنة صاحب أقدم مكتبة في الجزيرة

 

ننتمي إلى ذلك الجيل الذي كانت فيه الكتابة أمضى من السيف، لا بل كانت السيف ذاته. لم تكن ترفاً، ولا وسيلة للتسلية، بل كانت فعلاً وجودياً، حاسماً، مزلزلاً. فما إن يُنشر كتاب، أو بحث، أو مقال مهم لأحد الأسماء، حتى نبادر إلى قراءته، ونتناقش فيه…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…