تَشْغَلُ ثِيْمَةُ الحَرْب بِحَقْلِهَا الدِّلاليِّ أَحْيَازَاً كبيرةً من نُصُوص المَجْمُوَعة بل إنَّ هذه الثيمة قد خطفتِ المَجْمُوْعَةَ الشِّعرية خطفاً حينما استحوذَ عنوانُ أحَدِ النُّصوص(حين أضاعت الحربُ طريقَهَا) على التَّسْمِية العَامة للمَجْمُوعة، وفي ذلك تبئيرٌ واضحٌ للقَصْدِيةِ المتوخَّاةِ في عَمَليةِ العَنْوَنَةِ ذَاتَهَا، كما إنَّ إلقاءَ نظرةٍ خاطفةٍ على مَسْرَد العَنَاوين تؤكِّدُ جموحَ ثيمةِ الحَرب في حُضُورهَا السِّيْميَائيِّ: (بعد أن تنتهي الحرب، لا أحد يعرف كيف يسكت الحزن، حنين لم يغسله ملح المنفى، وخز على نافذة الحرب، حين أضاعت الحرب طريقها، ثمة حرب هناك، كفانا خراباً، حِداد)، هذا فضلاً عن تغلغل المعجم الدالِّ على الحَرب في التَّفَاصيل النَّصيّة لِكَثِيْرٍ مِن القَصَائد.
للغيابِ حضور ٌوأشكالٌ؛ وفي نصوص المجموعة يرتبط هذا الغياب بالفقدان، سواء تعلَّق الأمر بالذين خطفهم الموت غيلةً، أو تغييب الحرب عنوةً لفضاءات محبّبة للذات ومن ثمَّ نسف الحضور الشَّخْصي للكائن في مكانه؛ لينهض المنفى معضوداً بطبقات كثيفة من الحزن والحسرة كتعويض عن فقدان هذه الفضاءات، على أنَّ صورة الأب الغائب تهيمن على ثيمة الغياب فضلاً عن صورة الوطن المفقود في قصائد عدة (في الذكرى الرابعة لرحيل أبي، وخزٌ على نافذة الحرب،…إلخ)، هذا إلى جانب تغلغل ثيمة الغياب بأشكالها العديدة في ثنايا النُّصوص الشِّعرية؛ وَيَهمُّنَا، هنا، التوقف عند أقسى حالات الغياب في المجموعة وهي غياب “الأب”، فمن قصيدة (في الذكرى الرابعة لرحيل أبي):”كان الوقتُ مساءً حين انتظرتُ أبي ليستيقظَ من موته/ يقرأ لي نصاً من كتابٍ في السياسة/ أو يفتح لي نافذةً في قصيدة/ أعجزُ عن مجازها/ أو يمسح عن جبيني ملامحَ للحب الذي أتعبني، ص47″. يتكىء المقطعُ الشِّعريُّ على تقنيةِ السَّرد للاستحوذِ على المشهد واقتناصِ الحضور الذي كان يمثّلُهُ الأب في حياة الشَّاعرة التي لاتنفك رهن انتظار الأب، فحضورُهُ حضورٌ معرفيٌّ (يقرأ لي نصاً في كتاب السياسة) وجماليٌّ (يفتح لي نافذةً في قصيدة) أو عاطفيُّ عبر المشاركة في تخفيف وطأة الحبِّ التي تستبدُّ بالذات المتكلمة. هكذا يتخثر غياب الأب حضوراً رغم الغياب:” صار عمري أربعَ سنوات يا أبي/ وما زلتَ نائماً في سريركَ/ ومازالت أمي تهرول بجمجمةٍ محروقةٍ بالذكرى. ص48″. أما في قصيدة (وخزٌ على نافذة ِ الحرب)؛ فتقدِّم الشَّاعرة شذراتٍ شعرية يضئيها غياب الأب المثقل بالألم الممضّ:”هي الحرب يا أبي/ تدفنُ نفسها بين ذراعيكَ/ كظلالٍ موحشة، ص92“، تقلب الشَّاعرة المفهوم المعتاد للحرب من حيث طَاقتُهَا المهلكة على الإفناء، لتنتزع فاعلية الهَلاك والموت المرافقين لها، فتغدو مجرد وحشة مدفونة بين ذراعي الأب المغدور به. إنَّ المنفى لهو شكلٌ من أشكال الغياب الحادة حيث البيوت الأولى المفقودة، وحيث البلاد المدفونة تحت الخراب، البلاد التي تستدعي الحنين إليها، حنينٌ مُتَخَثرٌ لا يقوى ملح المنفى على غسله:” أُخفي حنينَ الأمكنة في صناديقَ صغيرةٍ/ أحملها كجرحٍ عتيقٍ يئنُّ بالغياب/ أقلِّمُ أظافرَ الموت المعلق من رأسه/ ساعةَ الحزن، ص83″، هنا تمضي حركة الصُّور من المجرَّد إلى المحسوس فترفع من حدة جمالياتها:(الحنين =شيء مخبأ في صناديق صغيرة)أو(تلك الصناديق الصَّغيرة الشبيهة بجرح عميق(=كائن حي) يئنُّ بالغياب(=الألم)، أظافر الموت (=كائن)، فالأمر يرتبط بحنين للأمكنة تحت وطأة غيابٍ قاسٍٍ، فكلما اشتدت وقدةُ الغياب يغدو الحنين جرحاً عميقاً والمنفى جحيماً لايطاق.
الحبُّ القَدَرُ الذي لابدَّ منه، الحَدَثُ الذي لابدَّ للقصيدةِ منه، الحَبُّ يمثِّل ذلك الذي يسمِّيه الفلاسفة بالتخارج أي ذاك الرفض للتفاف الذات على ذاتها بداعي الانغلاق، ولذلك يأتي التخارج لتحطيم هذا الانغلاق والانفتاح على ذاتٍ أخرى؛ فالحبُّ ضيافةٌ، استضافةُ الجسد لجسد آخر، ومن ثَمَّ استضافة الكلام لكلامٍ مغاير ومختلف، كما لو أنَّ المشروع السَّردي للحبِّ يكمن في الوصول إلى هذه اللحظة القصوى من الاختلاف والمغايرة. وبالعودة إلى المجموعة الشِّعرية تغمر موضوعات الحبِّ الفضاء النُّصوصيّ (يسقط الحبُّ مقتولاً، إذا لم أكن يوماً حبَّاً، للعاشق، الهدنة في الحب مرهقة أكثر، وحده الحبُّ يبقى بعيداً، ندبة الحبِّ التي في وجهكَ، لاأجيد إلا الحبّ، نحن العشاق، حبٌّ وحيرة)، ولاشكَّ فهذا الحضور الكثيف لثيمة الحبِّ يمنحها القيمة المهيمنة على بقية الموضوعات الأخرى التي تشغل عالم النُّصوص الشِّعرية، لكن كيف يأخذ “الحبُّ” ماهيته في إطار لعبة السيمياء شعراً…؟ تكتب الشاعرة في قصيدة (إذا لم أكن يوماً حُبَّاً):”وحين أكونُ أنا/ عليكَ أن تأتي كمطرِ فجائي/ يغرفُ من الروح كلَّ غياباتِ المدن الباردة/ يمتدُّ بي كظلٍّ يرقصُ؛ رقصة زوربا/ على مساحاتٍ من ضوء/ تعبرُ هذا الجسد/ عليكً أن تتعلم فكَّ سرِّ الضّفيرة/ ليعبرَني هذا الحبّ، ص 22″، يكشف المشهد السِّيميائي لنا عن أن “الحبَّ” لا يكون إلا تبادلياً كما يرى جاك لاكان، فالتبادلية هي التي تَهَبُ “الحبَّ” البعد الكينوني، ومن ثَمَّ فالتبادلية لا تعني الاشتراط بقدر ما تمنح للحبِّ أرضية التأسيس في أن يتجلّى كحدثٍ مرئيٍّ؛ فالحبُّ لا يكون مشروطاً البتة مثل الضيافة تماماً؛ فـ”أنا أحبكَِ” يعني بكلِّ بساطة أن أمنحكَ نفسي، لحمي، أمنحك ما تفتقده انطلاقاً من قرارٍ ذاتيِّ يتقوّض الإكراه تحت عنفه وطاقته. غير أن المشهد الشِّعري لدينا لايشتغل إلا وفق منطق الاختلاف، أي يمضي بالحبِّ، بالتبادلية الجسدية لتكون “حدثاً”، دمغةً”، فَالحَبُّ حتى يكون اختلافاً/ مغايرةً لابدَّ أن يُغادرَ الصُّورة الاعتيادية له، ومن هنا انبثاق هذه الاشتراطات التي لابدَّ منها لإنجاز البرنامج السَّردي للعاشق، ولذلك ينبغي أن يكون “مطراً فجائياً(المدهش)، زائحاً غيابات المدن الباردة (الحضور البهي)، مبتكراً للرقص(الفعالية)، لكن المغايرة في العشق لا تتحقَّق إلا بمعرفة “السرّ” الذي تُواري به الأنثى سرَّ عشقها واقترابها؛ فلا يمكن للحب أن يعبرَها، يعبر فضاءها إلا بمعرفة السرِّ الذي يكمن في لغز هذه “الضفيرة”، فالضفيرة كلُّ خُصلةٍ تُضفَر على حِدة، والضفيرة الحائط يُبنى في وجه الماء، ولكي يتسنَّى إيصال الماء إلى شعر المرأة لابدَّ من حَلِّ الضفيرة وفكفكتها، هكذا لايمكن للحبِّ أن يعبر إلى هدفه إلا بتفكيك طبقات العرف والعادة حتى يكون حبَّاً! تقدِّم المجموعة صور الحبِّ ضمن عالم من سيمياء المرئي، كما لو أنَّ لايقينَ للحبِّ إلا أن يكون مرئياً:” أيُّ شيءٍ يُقال تحت المطر/ أشبه بقبلةٍ توقظُ ليل الجسد. ص33″، تأخذنا الشَّاعرة إلى فعالية الحبِّ، ففي الحب تنتقل الذات من وطأة الانغلاق إلى حالة الانفتاح، فدخول الجسد في السُّبات مرهون بغيابُ الحبِّ وفقدانه، إذ الجسد بمنأى عن الحبِّ يحيا شتاءه، انغلاقه ووحدته، بل إنَّه يحيا الكراهية المتخثّرة التي تحيط به، لذلك حين يأتي “الحُبُّ” تقويضاً لهذه الدائرة السلبية؛ فإنه يستعيد كينونته ويتناءى عن كراهية الذات التي اعتاش عليها في وحدته. تنسج الشاعرة صورة شعرية عبر توليف بين مكوِّنات/ عَلامَات تضربُ جذورَهَا عَميقاً في الفنَِّ الشِّعريِّ: المطر، قبلة، ليل، الجسد، فهذه العلامات التي تأتلف تقيم عالماً سيميائياً موازياً أو افتراضياً تدفع بالجسدين العَاشقين أن يكونا في العَالم، جزءاً منه لينقلب ليل العالم المحتفي بجسدي العاشقين إلى حالة الفعل/ اليقظة فلا خير في كلام المحبوب إن لم يشعل هذا الليل، العالم، الجسد من الغفل ويضعه قاب قوسين أو أدنى من البهجة والمتعة. الحبُّ هو الفضاء الذي تتخذ فيه الأحداث معناها ودلالاتها، لكونه يهب المعنى للوجود والعالم، تكتب الشاعرة في قصيدة “كعشبٍ أخضر”: ” بالحبِّ أزيلُ النُعاسَ عن قلبي/ وبصوتي أُكرِّرها لك/ Bi evînê xilmaşiyê ji ser dilê xwe radikim/ بالشِّعر أزيلُ وحشة الحياة/ وكلَّ الأغصان المتعفنة التي تحتضنُها الحرب/ وبكَ أنتَ../ أستلقي على العُشب بينَ أشجار الكستناء/ وهي تتأرجح/ كغمزة عينٍ ساعة الحبّ. ص 45″. هكذا بمواجهة الاحتجاب القسري للكينونة بفعل انسحاب الكائن(النُعاس) واستيحاش الحياة(غياب الشِّعر) وفقدان الحبِّ (غياب المحبوب) يَتَنَادى الحبُّ مع الشِّعر والمحبوب في صور تُعيدُ للكينونة ألقهَا وحضورَهَا البَاذخ في العَالم، وفي هذا يكمن رنين الشِّعر الذي يتخذه الوجود مسكناً للنِّداء!