الرَّغِيف

د. محمد زكي عيادة

 في ذلكَ الصباحِ كلُّ شيءٍ كانَ مختلفًا، فعلى الرغمِ مِن اعتيادِهم صوتَ القذائفِ ورائحةَ السُّمومِ، وإدمانِهم مسلسلَ التشييعِ وقصصَ الموتى، إلَّا أنَّ كلَّ شيءٍ يبدو أعنفَ من المعتادِ، أُوصِدَتْ أبوابُ البيوتِ، وسكنَ شغبُ الأطفالِ في حِجْرِ مَن تبقَّى مِن ذويهم وأصابعهم المرتعشةُ مغروسةٌ في آذانهم.
أمُّ محمودٍ كمعظمِ نساءِ البلدةِ، غيَّرتِ الأحداثُ لقبَها مرارًا؛ أمُّ الأبطال، أختُ الرجال، الثكلى، الأرملة…
لقدْ خطفتْ سنونَ الحربِ العجافُ أجملَ أرواحِ ذويها، منهم مَن شهِدتْ دفنَهم بزغاريدها المعروفةِ، ومنهم مَن غُيِّبوا عنها مِن دونِ أثرٍ، وآخِرُ جراحِها زوجُها الذي قضى -كما الكثيرين- بالألغامِ التي تُسَوِّر البلدةَ، وتمنعُ عن أهلها الماءَ والهواءَ، وإنْ كانتْ ثمّةَ فرصةٌ لنجاةِ جريحٍ منهم إلَّا أنَّ بلوغَ المشفى اليتيمِ في البلدةِ المجاورةِ باتَ أمنيةً تُدفَن مع أصحابها! 
 لم يبقَ لها سوى ولدِها ذي السنين العشر، وابنتها القريبةِ البعيدةِ التي يفصلُها عنها عشراتُ الحواجزِ الملوَّنةِ بشاراتِ الطوائفِ والمِلَل.
احتضنتْ أمُّ محموٍد في ذلكَ الصباحِ الملتهبِ صغيرَها في زاويةٍ أسفلَ درجِ البيت، فهي أكثرُ الأماكنِ أمانًا حينَ القصفِ، وكلَّما سمِعا دويًّا؛ ازدادَ الصغيرُ التصاقًا بها، وازدادتْ هي انحناءً؛ لتحتويه، وهي تتلو ما تحفظهُ مِن آياتٍ وأدعيةٍ طلبًا للنجاةِ، وكلَّما غابَ الهديرُ، وسكنَ صوتُ الدَّمارِ؛ هدَّأتْ من روعهِ بكلماتِ الحُبِّ والصبر، ويقطعُ ذلك عودةُ كابوسِ الحِمَمِ المنهمرةِ ورائحةُ الموت. 
تُلصِقُ الأمُّ خدَّها بوجههِ الغارقِ بالدموعِ، تهزُّهُ بكيانَها المنهكِ، مُغمضَةً عينَيها فرارًا مِن العجزِ والوهَنِ إلى ذكرياتِ الماضي القريبِ، وفي رحلةِ البحثِ تلكَ يعتلجُ في صَدرِها اليأسُ والأملُ، والخوفُ والأمنُ، والرضا والسخطُ، وكأنَّه حوارٌ بينَ النعيمِ والجحيمِ، تعودُ فتُقبِّله لعلَّها تُسكِنُ رعشتَه، وتُمنِّيهِ بالنجاةِ:
– لا تخفْ حبيبي، أنا معك.
يصدرُ من بينِ يديها صوتٌ خافتٌ من شفتَينِ ضعيفتَين: 
“لا تتركيني أُمِّي” 
قالَها مطأطئًا رأسَهُ، يبتلعُ مرارةَ اليُتمِ والخوفِ والجوعِ.
بُنَي، هانتْ، ها هيَ الأصواتُ تتلاشى، والبارحةَ جارنا (أبو يحيى) حصَّلَ خبزًا، سآتيكَ بشيءٍ منه.
“أحبُّكِ أمُّي”، قالها بعيونٍ يكادُ ينطفئُ فيها الأمل.  
بعد فترةٍ وجيزةٍ هدَأتِ الأجواءُ، وفجأةً استرخى ابنُها في حضنِها! داهمها الفزعُ، وانتابها خوفُ الفقدِ؛ صرختْ باسمِهِ… تُحَرِّكُ وجهَه الشَّاحبَ “لا تتركني وحيدةً أرجوك” 
ووسطَ النحيبِ المرِّ ولوعةِ الفقْدِ تحركَّتْ شفتاهُ وأهدابه؛ فسكَنَ قلبُها الملتاعُ، وتبسَّمَتْ ملامحُها الباهتةُ بعدَ أنْ أدركتْ أنَّهُ استسلمَ كرهًا للنومِ، تحاولُ منعَ دموعها المنهمرةِ عن وجههِ، ففي تلكَ اللحظةِ مُلِئتْ روحُهُا المتعبةُ بالرضا، وكأنَّ القَدَرَ أعادَ لها كلَّ شيءٍ. سارعَتْ إلى الوسادةِ تدسُّها تحتَ رأسهِ المزدحمِ بالأحلام، تأمَّلَتْ وجهَهُ الملائكيَّ، وانحنتْ تُقبِّلُ جبهتَهُ بدموعها الحانيةِ. 
همَّت بالخروجِ، استرقَتِ النَّظرَ إلى السماءِ، وشمسُ الضحى تجثمُ على بقايا سقفِ بيتها الراكعِ. 
إنَّها اللحظةُ المناسبةُ، وجَّهتْ بصَرها نحوَ الطريقِ، ثمَّ انطلقَتْ بكاملِ عزمها تقصِدُ الرغيفَ، لم تشعرْ بالأزيزِ المتربِّصِ، ولا بآثارِ الحُطامِ بين خطواتها، وجدَتْ نفسَها على عتبةِ بابِهم، دفعتهُ وألقتْ جسدَها تنادي: 
– يا أهلَ الدارِ، يا أمَّ يحيى.
– ما الخطبُ يا أمَّ محمود، أينَ ولدكِ؟ هل حدثَ لهُ مكروهٌ لا سمَحَ الله؟ 
– لا، هوَ بخيرٍ الحمد لله، لكنَّهُ الجوعُ، لمْ يأكلْ شيئًا منذُ يومَين، أرجوكِ أريدُ شيئًا مِنَ الخبزِ.
 غابتْ أمُّ يحيى في كواليسِ بيتِها، تقلِّبُ كفَّيهِا، وتهزُّ رأسَها، عادتْ بسرعةٍ تحملُ ما يشبِه رغيفَ الخبز.
– هذا ما تبقَّى لدينا، انتظري حتى يهدأ القصفُ لتعودي بأمانٍ فالأصواتُ بدأت تصدحُ في الخارج.
– سَلِمتِ، لا أريدُ أنْ أتركَ صغيري وحدَه، تركتُهُ نائمًا، وقد يستيقظُ في أيِّ لحظةٍ. 
خطفتْ نظرةً إلى السماءِ، ثمَّ شقَّتْ طريقَ العودةِ بكلِّ ما أكسبتْها الحياةُ مِن قوَّةٍ وجَلدٍ، فما هيَ إلا خطواتٌ وتكونُ معه. 
صاحَتْ بنبرةِ المنتَصرِ: “بُني، قُمْ لتأكل”.
فتحَ الولدُ عينيهِ على صوتها الدافئ الذي مُزِجَ بهديرٍ عاصفٍ هزَّ المكان، أطبقَ دُخانٌ مُرٌّ الأنفاسَ، لم يقوَ على النهوضِ، غابَ عن الوعي ليجترَّ أحلامَه الناقصةَ، وبعدَ لحظاتٍ استيقظَ مفزوعًا يتلمَّسُ جسَدهُ الغضَّ، وصيحةُ أُمِّه لا تزالُ تدوِّي في كيانِه، زحفَ صوبَ البابِ ورائحةُ البارودِ تملأُ الأجواءَ، ها هيَ ذا… لكنَّها مُمدَّدةٌ على الأرضِ يكسوها الغبارُ! ويدُها شاخصةٌ صوبَ البابِ قابضةً رغيفًا مغمَّسًا بالدماءِ!
انكبَّ عليها، يحاولُ إيقاظَ جثَّتها، صراخُه يشقُّ السماءَ، ودموعُه تقطرُ دمًا، وبنبرةٍ مفجوعةٍ:
 “أمِّي… أمِّي، قومي أرجوكِ، لمْ أعُدْ أحسُّ بالجوعِ أبدًا، فقط عودي إليّ”…
المصدر: مجموعة قصصية بعنوان (على دروب الأماني)، د. محمد زكي عيادة- دار آداب للنشر: تركيا- ط1-ص 25.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…