شفيق اشتي يحول الحلم إلى ملحمة تراجيدية

غريب ملا زلال

لا يمكن أن تتمالك ذاتك وأنت تعوم في بحار شفيق اشتي ( 1958- السويداء ) وعوالمه، لا يمكن أن تبقى سائحاً عابراً وأنت تجوب فضاءاته، بل لن تحافظ على توازنك مهما كنت واثقاً من عمل الحفريات المعرفية فيك وفي ملامحك الحاملة لكل مفاتيحك وأنت مقبل على فتح صناديقه السوداء، لا يمكن ألا يتلون دواخلك بالغضب حيناً، وبالقهر في حين آخر وبالعجز في أكثر الأحيان وأنت تقرأ ملحمة شفيق اشتي وتراجيديته، بخصوبة ملوناتها وسحرها، وبالصبغة المعاصرة لأشكالها وتكويناتها، وبالكم المتدفق من مأساتها التي تقول وليوم الدين معزوفته الخالدة عن آلامه الداخلية وآلام شعبه الداكنة بكل حركيتها ومحتواها،
 فإذا كانت تلك الملحمة بوصفها لسان حاله ولغته المليئة بالإرتفاعات والإنخفاضات، المليئة بالمتاهات والتداخلات، بوصفها آداته الأكثر تعبيراً عن أشكاله الخاصه التي ستوحي بأحاسيس ما من الطموح والكشف التي بها ستزداد قناعاته بأنه من الممكن توظيفها في توسيع دوائر فلسفته وذاكرتها، فهي قاموسه البصري بها يشحن الخيال بواقع فقد كل ملامحه، وحدها رؤياه المليئة بالأوجاع بقيت قادرة أن تلتقط التلاحمات المقامية التي تثور منها تجاورات مبتكرة ويشعل أعواد ثقابها حتى تومض في المعابر كلها، فتولد تراجيديته بنماذجها غير المعلبة، والمنجزة بدقة متناهية حتى تتكامل بما يناسبها من مساحات رحبة ومفتوحة على التداخلات الإنسانية وتغييراتها بقيمها المعرفية، بخصائصها التعبيرية التي تكاد تفسر وجود الحركات الحزينة وإنكساراتها بدينامية ترتبط بالرؤية وعلاقاتها بالتعبير وحالاته ضمن تصنيفات لها دلالاتها الرمزية بعد أن تخفي ما تحتاجها من تفاصيل وأحاسيس توزعها بين كرّ وفرّ في دواخلها لتضعها فيما بعد كأساس حقيقي لذاتها المتحركة، ولمداها بتحولاتها السريعة والتي ستشكل إنتقالات غير آنية بل مركبة يدخل فيها أكثر من عامل بما فيها أبعادها الخاصة التي تحمل أحكامها الجمالية في عمق محدداتها إتساقاً وتفضيلاً، وهذا ما يجعل منتجه حاضراً كأحد الكنوز الفنية التي لا يمكن تجاهله أوتركه في إحدى الزوايا مهملة، فالخصائص الشكلية لعمله وحدها كافية لحدوث فعل الحضور وفاعليته مع إبراز أهمية المعايير الفنية التي ينحاز إليها، إن كانت ما تميز كائناته المتطورة التي تساهم في مقارناتها بالكائنات الأعلى تطوراً، والتي ستؤثر في رسم فردانيته بالإنتقال من سلوك يعكس توقعاته إلى سلوك إستكشافي به يرتقي بمهاراته وقدراته والتي ستجعل تفضيلاته الجمالية خاصية مميزة له، خاصية ترتبط بمفاهيم الخبرة لديه كعمليات مفترضة تسمح للشعور بالطغيان عليها، فالأمر هنا مستمد من التمعن في التفكير الذي يجعل المرء ساعياً نحومناطق الخطر لمواجهة التحديات الجديدة والإستمتاع بالإنتصار عليها، والتي ستولِّد نوعاً ما من الإشباع الإنفعالي، فكل تلك المشاعر التي يصعب التعبير عنها في الواقع يحولها اشتي إلى حالات خيالية تحقق بعض حاجاته المهمة وتفتك بمخاوفه المختلفة حتى يبلورها بوسائله المعينة والمخبوءة بين إستثاراته وقيمها الإيجابية في البحث عنها وعن مظاهرها أقلها عمليات الإرتياح التي يحصل عليها، فهوالحالم الذي يحول الحلم والأشبه به إلى ملحمة تراجيدية بصرية .
يهتم شفيق اشتي بالجماليات التجريبية وبكيفية حدوث استجاباتها، وهويثير خصائصها التي تتسم بالإيجابية والمزدحمة بمستويات مختلفة، والمكسوة بالأسى والزفرات والتنهيدات العميقة، وإذا ما حاولنا أن نفحص إستراتيجياته عن قرب فسنرى أنها تأكيدات حاسمة لفرضيات عليها تنطوي حضوره دون إنتهاكات للذات، ودون الزعم بأن ما يحدث هي فصول يصعب فهمها، أوهي مفاتيح لإيماءات يعتقد بأنها قد تكشف النقاب عن ستائر دواخله بوصفها الدعوة الصريحة عن الكشف عن مكامن الألم دون أن يرتب النتيجة، وعليها فإنه ينسق إختلافاتها كمسائل في غاية الصعوبة، فما يتضح في الحضور قد لا يتضح في الغياب، أوالعكس، وما يظهر في الأسلوب قد لا يظهر في المضمون، أوالعكس، فهوينسج ظلال محتفظة بمفاهيمها الخاصة، وإن كانت مسكونة برؤية صارمة قادرة أن توعز التبعية لها، فالمسألة هنا هوالتعامل مع الخصائص التي يعيد تحريكها بدافع جمالي وبما عليها من رموز، فيبدأ بتفكيكها وهذا سر من أسراره، ثم بطريقة ما يبدأ بجمعها من جديد وهذا سر آخر من أسراره بوصفه إحالات إختلافية من سلسلة تعطي لمشهديته تقييماً عاماً ومميزاً، إن كانت بدلالاتها الإستبدالية أوبصورها المختلفة والعائمة بين الواقع المستغرق فيه والخيال المستيقظ فيه، فينبغي عليه أقصد على شفيق اشتي ألا يغفل هذه اللحظات بل عليه أن يقتفيها لا هرباً من متاهة قد يطلب منه صياغتها، وإنما أن يحاول الإمساك بخيوطها التي تشبه خيوط النسيج الموجود في ملحمته التراجيدية حيث كل شيء فيها قابل للتساؤل والتوسع فيها حتى تنساب من شبكة ألوانه وكأنها في هجران أبدي من صفحاته البيضاء أقصد من مساحاته التي باتت طرقاً منها يتحسس الممرات الكثيرة التي قد تخرجه إحداها إلى حيث الشمس المشع بالرماد والسواد .
أعمال شفيق اشتي غير هادئة، بل صاخبة إلى حد الألم، ورغم ذلك فهي مشحونة بكم هائل من الطاقة التي تذهب بها وبتكويناتها الفائقة التركيب نحودينامية هي التي ستمزج كل القوى النشطة فيها، بل ستمزج كل مستويات تركيباتها الفنية والتي ستتطلب بالضرورة وجود قدر كبير من الخبرة ولا يخلوذلك عند اشتي، فله باع طويل في ذلك بما فيها إعتماده على أصالة أحكامها الجمالية ضمن أنساق مختلفة لكل منها مظاهرها الخاصة، وإنتماءاتها الخاصة، ومركزيتها الخاصة التي ستحمل ثقلها بلحنها الذي سيثير في حواسنا إمكانات الإحساس بالشكل وبالقدرة على إطلاق العنان للخيال، بلحنها الذي سيثير فينا كمّاً من الإنفعالات العاطفية التي ستكون مدخلاً لتنشيط مجالات للإستمتاع الجمالي مع تحفيز كبير لعمليات التذوق مع ظهور تنويعات مختلفة تتردد على تحديداته البسيطة منها والمعقدة دون أي إتكاء على المعايير المألوفة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مصدق عاشور

مصلوبةً بخيوطِ شمسِ محبتك

يا من كشفتِ لي

سرَّ التجلّي

ووشمَ الحنين على جبينِ الانتظار

أنتِ ميناءُ روحي

قولي: متى؟

قولي: لِمَ البُعادُ

في حضرةِ ثالوثِكِ السرّي؟

رياحُكِ تعبرُني

كأنّي فرسُ الطقوس

وفي قلبي

تخفقُ فراشةُ المعنى

قولي لي متى؟

قولي إنكِ

فراشةُ رؤياي

وساعةُ الكشف

أرسِميني في معموديّتكِ

بقداسةِ روحكِ

يا من نفختِ الحياةَ في طينِ جسدي

حنينٌ

كمطرٍ أولِ الخلق

كموجِ الأزمنةِ الأولى

يتدلّى من ظلالِ أناملكِ

 

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…