خليل عبدالقادر يوقظ مدينة Sandviken السويدية على أصوات مخلوقاته الساحرة

علي ملا

 إن الفن التشكيلي لغة بصرية مستمرة منذ عصورٍ، اعتمد في الأساس على الطبيعة الخارجية، التي يعبر من خلالها الفنان عن أفكاره ومشاعره وأحاسيسه، ويسعى لتحويلها إلى أعمال مفعمة بالألوان، معتمداً من خلالها إلى حاسته البصرية والخيال الحسي وقدرته على وضعِ بصمته بأسلوبه، لإظهاره المعاني لها، وهذه البصمة نستطيع أن نميز عمل فنان عن الآخر.
 معرض الفنان التشكيلي “خليل عبدالقادر” الأول في السويد.  المكان: مملكة السويد – مدينة Sandviken التاريخ: 2022-04- 23 وسوف تقام له معارض في سبع مدن أخرى في السويد. كانت القاعة تتكلل بباقات ورود ومزهريات فوق المنصات وعلى أطراف الباب الرئيسي. كؤوس ممتلئة بالنبيذ الأبيض، صحون ممتلئة بالسكاكر والمعجنات، فتاة خلف منضدة وأمامها كتالوكات الفنان وباقات الورود من كل الاتجاهات. 
قدم مدير الصالة “خليل عبدالقادر” للزوار، وسرد عن رحلته الفنية الطويلة، ثم قامت عريفة الحفل بتقديم البرنامج الاحتفالي لافتتاحية المعرض: الذي تضمن غناء وعزف على الجيتار وعزف منفرد على الناي حيث كان “خليل عبدالقادر” منسجماً مع ألوانه ليرسم على مرآى من الزوار الذي ظل يحلق حوله في تجربةٍ تفاعليةٍ ثريةٍ، على تقاسيم من آلة العود يعزفها “جوان فرحان” كان الجميع في قمة الاندماج والانسجام، صفق له الحضور بعد انتهائه من ملامح اللوحة الأساسية شاكرينه على ما أبداه من جهد وتعب وانفعالات مباشرة في تقديم نموذج حي وصورة جميلة. بدأ الزوار يتجولون في أروقة المعرض متابعين أعماله، مع عازف الناي الذي تجول في مدارات الصالة بعزفه الشجي الحزين يبحر في خيالات موسيقاه لتندمج مع اللون إلى البعيد متجولاً بهدوء وبخطواتٍ بطيئة في أرجاء القاعة، يبهرُ الجمهور في أدائه المتميز، تحت أضواء الصالة التي تعطي إضافة جميلة لتلك الأعمال. كانت فرحتي كبيرة عندما دخلت الممر الطويل المؤدي إلى صالة المعرض المزينة بلوحاته، انتابني شعور غريب، أعادني أكثر من أربعين عاماً للوراء، عندما حضرت آخر معرض له، في المركز الثقافي في مدينة الحسكة، بحضور حشد كبير من الزوار وأصدقائه الفنانين والمهتمين بالتشكيل، لاأزال أتذكر أعماله في تلك المرحلة الكلاسيكية بخطوطه الدافئة وتفاصيلها الدقيقة المتدفقة بالألوان، ولوحته التي اشتهرت في تلك المرحلة التي كانت بعنوان “الغرباء يشربون القهوة بعيداً” كانت تمثل الفنان “شڤان وگليستان” في غربتهم بتفاصيلها الدقيقة والجميلة وهما يسيران في درب غربتهم البعيدة يتابعهم حيوان أليف خلف ضباب التضاريس البعيدة. 
خليل عبد القادر القادم من حقول القرية “حسي أوسو” في الشمال السوري حمل أوجاع القرويين لينتقل مع عائلته إلى حي تل حجر في الحسكة؛ الحي الذي انطلق منه أشهر التشكيليين مثل “عبد الرحمن دريعي” و”عمر حمدي مالڤا” و”عمر حسيب” و”مدحت عيسى” و”فؤاد كمو” وآخرون… مارس الفن منذ صغره، بجهوده وتأثيرات الطبيعة الخلابة بأشجار الحور والصفصاف والكينا والكرمة وحقول القطن والقمح والشعير على أطراف نهر الخابور، شريان مدينته بجانب تلك الناعورة القديمة في حقول “مراد ماري” رسم لوحته الأولى. قدم نفسه كفنان تشكيلي في أواسط السبعينيات من القرن الماضي بمعرضه الأول في مدينة “مصياف” ومن ثم في تدمر وحلب ودمشق… بدأ يشق طريقه، حيث توالت نجاحات معارض. لم يسلم تشكيليٌ سوري من سطوة تجربة الراحل “عمر حمدي” مالڤا لما كانت لهذه التجربة من عمق وبصيرة. هذا ما قاله عن صديقه “مالڤا”، فنان حمل هموم بلاده بنسائه الساحرات الغارقات في الأحزان، الفاتنات العاريات بصدورهن الجميلة الهائجه، الراقصات في الدبكات الفلكلورية والأعراس الشعبية في سراب الأمكنة ومطارح البدايات، حمل ألوان بلاده بسمائه وأنهاره وحقوله الخضراء وملامح نسائه وكائناته إلى غربته، متابعاً التجديد والإبداع في صورتها الأساسية، يغازل نساءه بريشته، وربطة عنقه بمزاجه العصبي أحياناً، عندما يسرح إلى البعيد ويتذكر أصدقاءه الذين رحلوا وغابوا في الفضاء، وهو يقول ما بين نفسه: ليتهم كانوا معي لكان للمعرض نكهة أخرى. تنسجم ريشته مع الموسيقى التي ترطب مزاجه الفني في شرفته المطلة على الغابة لتغدو صورة واضحة على قماش اللوحة بضرباتها الجريئة يضع المشاهد في حيرة وتشتت وهلوسة أمام عمله وتجلياته في تجربته الدسمة الهامة والثرية. يعتبر هذا المعرض نافذة إلى عالمه الحسي والروحي والمعرفي والجمالي لتفاصيل حياته ورحلته الطويلة التي قاربت أكثر من خمسين عاماً، مهرولاً وراء اللون وتدجينه بايقاعه الجديد وصياغته الجديد. ١٣٧ لوحة تزين أروقة المعرض في هذا اليوم بأحجامها المختلفة، لوحة “نساء في الحديقة ” 160/200 لوحة “الحالمة” 100/120 لوحات الطبيعة 80/60 وقياس أكبر أيضاً؛ لوحات من نسج خياله تروي لنا الجانب الإنساني لحياة شعب مزقته الحروب، وذاكرة مهاجر قد بلغ غربته أكثر من ربع قرن، إنه امتداد المسافة والمكان التي ودع فيها أحلامه، وأهله وأصدقاءه وسماء بلاده، نقل من خلالها تجربة الاغتراب التي تحمل حلماً وهَمّاً انسانياً. أصبحت المرأة من تناغمات ألوانه وعشقه الأبدي الذي لايفارق هواجسه الدافئة والطافحة بالعذوبة، حيث طغى على أكثر أعماله، وكذلك الطبيعة في حالاتها المختلفة والمزهريات. إن المرأة هي الخصوبة وهي الاستمرارية في الحياة بكل أشكالها، ولذلك لا تشاهد غير المرأة في أعماله، وهذه هي فلسفة في الحياة. لكل لون من ألوانه خصوصيته الجمالية وحاجاته الضرورية في مكانه المناسب على القماش. طائر يحوم في غربته ينقل هواجسه المشتتة على السطح الأبيض ليجسّد من خلالها الانسان والحياة والأمكنة. لايهتم بالنسب الكلاسيكية وقواعد التكوين، يرسم بأسلوبه المميز وريشته العفوية الجريئة وألوانه الساحرة. طائر الغراب أو العقعق الذي يظهر في بعض أعماله أضافهُ درامياً على كائناته، يعبر عن الفرح والحظ وفي بعض الأحيان عن الكآبة في الميثولوجيا الشرقية، طائر صامت ينقر في سماء اللوحة، فوق رؤوس كائناته وعلى أكتافهم، كأنه رفيق دربه الطويل يتبادلون أطراف الحديث بصداقة قوية، ومساعداً حكيماً مخلصاً لهم وإعطائهم الأمل في بلوغ أمانيهم، غرابه الذي يتابع مسيرته خلسةً أحياناً، يتم العثور عليه في القصص الخيالية والأساطير، انه طائر غامض. لوحة غابة أشجار الزيتون في عفرين، تلك الانفعالات النفسية التي يتعرض لها الفنان يترجمها بريشته وشاعريته في صنع أسطورته اللونية؛ حالة إبداعية تعبر عن الوجدان وتجسد الثقافة والأصالة ويخلق فسحة كبيرة لدى المشاهد في التأمل في تفاصيلها. هناك علاقة وثيقة بين لوحاته وسرده الخرافي، تحس أنك أمام كاتب متمكن يدخل البهجة والسعادة في نفوس الآخرين بأسلوبه الجميل الساخر، لما لتلك النصوص من حبكة ومفاجآت وفكاهة: “كانت أمي تشعل قنديلها وتحت ضوء الأسى كنت أرسم جمال وجهها البشوش والمملوء بالفرح والسعادة، بدأ الزمن يحفر أخاديد على وجهه، الحلم مساحة الفرح التي أنشر من خلالها إنسانيتي”، ويتابع ويقول: “لعنتي، هي بقائي وخيانتي الأولى”. هذا ما صرح به فناننا التشكيلي في لقاءٍ قديم لإحدى الصحف. لوحته الدرب إلى الغابة تلك اللوحة المتميزة يصطحبنا من خلالها في متاهاته الجمالية بجميع الأطياف اللونية يرصد تفاصيلها بعدسته ميثاقاً تخيلياً يعطي المشاهد إحساساً بالارتياح، غابة كثيفة بأشجار الكستنا والبتولا والصنوبر العملاقة، وكذلك أشجار الحور التي تظهر على يسار اللوحة بلون لحاها الأبيض ذات الأوراق القلبية الشكل تتلألأ مع النسمات اللطيفة بخيال متميز، غابة غنية يجتذبه النباتات والطفيليات وأوراق الورود المتساقطة بلونها الزهري والأصفر والمندثرة على الدرب، تحمل نسمات بلاده البعيدة، تسلل الضوء بين الأغصان لمسة انطباعية فتح نوافذ جديدة بتدرجات ألوانه، تمنحنا اللذة والراحة النفسية.
تأثر “خليل عبد القادر” بالمدرسة الانطباعية الذي كان رائدها الفنان العالمي الفرنسي”كلود مونيه” الذي أعتبر من الأسطوريين في المشهد التشكيلي، الذي تمرد على قواعد الفن التقليدية في القرون الماضية، حيث جماليات لوحاته وشحناتها الانفعالية وسحر ألوانه المتدفقة والهائجة كالبركان. رحيق زنابق “خليل عبد القادر” المائية تحلق في فضاءات أيقونات “مونيه  وتداعياتها وتداعبها للبحث عن الذات في بحيرة زنابق حديقته الخيالية المتدفقة بالألوان، فلا يرتوي من عطشه، فيغدو في جمالياتها الأبدية إلى البعيد البعيد، ليصنع خلطته التشكيلية، بعمق ودافعاً للخيال. 
ودع الزوار وأصدقاء الفنان القادمين من المدن البعيدة الصالة بانطباع جميل وفرح وسعادة، وقد صور البعض منهم معه صوراً تذكارية. زار المعرض فنانون وشعراء وأدباء وسياسيون والمهتمون بالتشكيل واللون. هذا المعرض الذي أقيم تحت رعاية بلدية Sandviken  وإدارتها والقائمين عليها، هي لفتة كريمة في تعزيز الثقافة والفن التشكيلي. حقق المعرض نجاحاً باهراً نظراً للإقبال الكبير من الزوار في يومه الأول، وكذلك في الأيام الأخرى التي كانت تضج بمجموعات كبيرة من طلاب المدارس، وكذلك الزوار والمهتمين بالفن. نشر أخبار المعرض في صفحات الجرائد المحلية ومقابلات مع الراديو، وخبر عن المعرض في صحافة البلاد الرئيسيتين والأكثر شهرةً Expressen  و Aftonbladet  كما أذاع Art Tv  مقطعاً عن الحدث، ومقابلة مع التشكيلي “خليل عبدالقادر. يتراوح سعر اللوحات ما بين 1000 يورو و 3500 يورو وأكثر. ريع المعرض يذهب مساعدة إلى الشعب الأوكراني، بسبب محنته الأخيرة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ألمانيا- إيسن – في حدث أدبي يثري المكتبة الكردية، صدرت حديثاً رواية “Piştî Çi? (بعد.. ماذا؟)” للكاتب الكردي عباس عباس، أحد أصحاب الأقلام في مجال الأدب الكردي منذ السبعينيات. الرواية صدرت في قامشلي وهي مكتوبة باللغة الكردية الأم، تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، وبطباعة أنيقة وغلاف جميل وسميك، وقدّم لها الناقد برزو محمود بمقدمة…

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…