فروة رأسي وشت بي !

هيثم هورو 

– 1-
اصبحت الساعة الحادية العشر والنصف ليلاً، انطلقتُ نحو مطار حلب الدولي، وبرفقتي والدي وأخي الأصغر قاما بتوديعي هناك، وشوقي للسفر انساني النعاس وبرد الأربعينية .
كان حصولي على تأشيرة السفر الى سويسرا حلماً مفاجئاً، وصعب المنال كوني شرقي المنشأ حيث قدمتُ مجموعة هائلة من الوثائق المختمة من كافة الدوائر الرسمية ذات العلاقة بالسفر الى الخارج .
في تلك الليلة لم يكن كل شيئ بالنسبة لي مألوفاً، عندما تقدمتُ نحو نافذة تسليم حقيبتي الكبيرة التي كنت أجرها حتى وصلتُ امام الموظف المسؤول عن استلام حقائب المسافرين، حيث قال لي مبتسماً ضع الحقيبة على كف الميزان، ومن شدة لهفتي للسفر لم اشعر كيف وضعتُ حقيبتي الثقيلة على الميزان، وبدأ المؤشر بالدوران حتى استقرت الإبرة على الرقم ثلاث وستون كيلو غراماً، مما آثار صدمة كبيرة للموظف مع إصدار صفير طويل من بين شفتيه الغليظتين 
قائلاً : هل انت مهاجر من البلد؟ 
اجبته : لا ، ثم صرح الموظف لي بأن الوزن المسموح به لكل شخص لا يزيد عن عشرون كيلو غراماً، وهنا اصابني القلق والحزن الشديد، وعبرتُ عن أسفي للموظف، ثم قلت في طيلة حياتي اسافر للمرة الأولى، ثم اردف الموظف قائلاً : لا بأس سوف تدفع مبلغاً من المال كغرامة عن الوزن الزائد، وعلى الفور كتب ايصالاً بالمبلغ، ودفعتُ له بعد أن ألصق لصاقتين واحدة على وجه الحقيبة والثانية على وجه دفتر جواز سفري، ثم ارشدني الى موظف آخر جالس خلف طاولة مركونة في وسط دهليز المطار وطلب مني ابراز الجواز وعلى الفور اعطيته برفق، ثم بدأ يتفقد مضمونه وشاهدته كيف يقوم باحصاء الرقم الطويل في اسفل الجواز، وكلما يصل الى منتصف الرقم يخطأ بالعد، ثم يكرر العد ثانيةً حتى تأكد في نهاية المطاف من سلامة دفتر جواز سفري، وألقاه امامي بوجه عابث .
 -2-
توجهتُ نحو شرطي جالس على كرسي عالي في كوة زجاجية، وقدمتُ له الجواز من خلال فتحة في اسفل الكوة ورحب بي بابتسامة عريضة، وهو يهز رأسه المغطى بقبعة كبيرة 
قائلاً : “الى أين أنت ذاهب يا طيب ” ، اجبته : بكل سرور الى سويسرا، ثم سألني مستغرباً وكيف حصلت على تأشيرة السفر الى سويسرا وهو مستجمع كل الغباء في رأسه امام براءتي كي يستدرجني للافصاح عن سر حصولي على التأشيرة، وكأنني اول انسان على وجه الأرض يسافر الى تلك البلدان، ثم صارحته بكل هدوء و بتفاصيل دقيقة جداً، وهو كله آذان صاغية حينها شعر الشرطي بأنه اقحم نفسه في دائرة الاستهزاء رغم قولي الحقيقة بالتفصيل الممل، ثم رد لي جوازي بعد أن تأكد من صحة مضمونه قائلاً : ” شو عمو جاي تحكيلنا قصة حياتك ” ، وبعد ذلك صعدتُ الدرج الى قسم العلوي وهناك تقدم نحوي أحد الموظفين وقادني الى جهة متطرفة وقال لي هيا فك الحزام، حينها شعرتُ بالخوف الشديد كأنني أضع حزاماً ناسفاً محشواً بمادة ” TNT ” المتفجرة، وكما قال ايضاً اخلع المعطف والحذاء وأخرج من جيبك كل الأشياء المعدنية، كان تفتيشي باتقان كبير وحفلة تعرية شبه كاملة ! وكأن شخصاً ما أبلغ عني بأنني سأخطف الطائرة، وعند الصعود الى الطائرة شعرتُ بالغبطة اللذيذة مثل شخص تمكن بنجاح باهر في تهريب لحمه وعظامه إلى بلاد الأحلام والعجائب .
  – 3 –
هبطت الطائرة في مطار زيوريخ، وبدأ الركاب بالنزول والتوجه نحو الكوات لختم جوازهم بأنه تم وصوله الى مدينة زيوريخ بسلام، وانا ايضاً ختمتُ جوازي، ومن ثم توجهتُ نحو قسم الحقائب، وتناولت حقيبتي التي كانت تدور على حلقة دائرية، وضعتها في سلة حديدية لها عجلات ثم دفعتُ بها نحو بوابة الخروج من المطار وهناك كان اخي بانتظاري ورحب بي ترحيباً حاراً، ثم ساعدني بوضع الحقيبة في سيارته وهو مندهشاً من ثقلها وحجمها الكبير .
وصلنا الى منزل أخي، استقبلتني زوجته السويسرية استقبالاً حاراً وسرتْ كثيراً من زيارتي، وفي اليوم التالي بدأ أخي بجولة افساحي في مدينة زيوريخ التي تتميز بسهولها الواسعة، وغاباتها الخضراء، وجبالها الشاهقة المكسوة بالثلوج، وابنية بهندسة فريدة منقوشة بزخارف ملونة وجميلة، واقنية ممتدة من سفح الجبل لجريان مياه الثلوج وتمر من اطراف المدن والقرى، حقاً حضارة ورقي مذهل .
بعد مرور اسبوع من زيارتي اقترح علي أخي على الذهاب إلى مدينة لوكارنو، انها مقاطعة ايطالية تشتهر بفطائر البيتزا، له صديق هناك سيقوم باستضافتي في يوم عطلته، قلت له حسناً انا جاهز .
في صباح يوم التالي انطلقنا الى محطة القطار ( بان هوف ) واشترى لي أخي تذكرة السفر ثم ودعني وذهب الى عمله كالمعتاد،  سار القطار بي مسافة ثلاث كيلو مترات تقريباً، وبينما انا جالس في مقعدي كاسائر الركاب الذين في القاطرة اتصفح صور مجلة اجنبية، تفاجأتُ عندما تقدم نحوي رجلان بملابس مدنية ضخمان، تتنبئ عضلاتهما المفتولة عن طبيعة مهنتهما، ظناً منهما انني احتفل بمناسبة خطفي للقطار، وامامي مائدة عشاء فاخرة، واحتسي النبيذ في كوب على شكل جمجمة بشرية، نطق الأول ببعض كلمات بالألمانية التي اجهلها، بينما تولى الآخر حراستي !   
تخيلتُ بأنني كائناً غريباً ومخيفاً، يبعث الرهبة واثارة الذعر والهلع في تلك القاطرة، لقد اصاب الرجل بتوتر شديد مع جحوظ في العين عندما لم استجب له حالاً، ثم نطق مرة ثانية لكن بنبرة عالية باللغة الإنكليزية ”  Give me  the  passport ” , وعلى الفور ادركت انه يطلب جواز سفري، وبكل لطف مددتُ يدي الى جيب معطفي، وأخرجتُ الجواز وتناول الرجل مني وتفقده جيداً، ثم رد لي جوازي بكلمة “Thank You”
وانا شكرته بكلمة  “Dankechün” ، استغرب الرجل  وهو لا يعلم تلك الكلمة الألمانية الوحيدة التي حفظتها هناك ظناً منه كنت استخف به طيلة الوقت، ولم اشعر بالغضب بتاتاً عندما غادرا الرجلان القاطرة من دون ان يتفقدا هوية بقية الركاب، وقلتُ حينها في قرارة نفسي نعم، فروة رأسي هي التي وشت بي!
وانا اعتبرها هويتي الربانية ! التي وريثتها من آبائي وأجدادي .
_ ربما هم حريصون أكثر منا على بلدانهم، حتى من خلال فروة الرؤوس وكأن شر الدنيا كله يكمن في الشعر الأسود !!؟؟ 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شعر: محسن قوجان

الترجمة من اللغة الكوردية: محسن عبدالرحمن

 

في مواعِدِك،

مابينَ المَنارةِ و القِبَب

ثعلبٌ

أكلَ هويتي

هذا الموعدُ

أغنيةٌ غير مكتملة،

في حلق الطفولةِ متعثرة.

لم تبقَ قوةٌ

في أضلاع الصخور لتخرجَ

وتركُضَ تحتَ الحالوبِ،

خلفَ هويتي

على فضلاتِ الرغباتِ الهشًة.

يرعى التيسُ البريٌ

ذات موعدٍ قلتِ لي: لاتتغافل

ليس لجبل كارة(1) الوقت لأن يناقش وادي سبنة(2)،

أو أن يهرب من هجوم الحالوب.

لذلك سبنة دائماَ زعلان،

ونحو البحر يتجه.

في فترة مبكرة،…

ألمانيا- إيسن – في حدث أدبي يثري المكتبة الكردية، صدرت حديثاً رواية “Piştî Çi? (بعد.. ماذا؟)” للكاتب الكردي عباس عباس، أحد أصحاب الأقلام في مجال الأدب الكردي منذ السبعينيات. الرواية صدرت في قامشلي وهي مكتوبة باللغة الكردية الأم، تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، وبطباعة أنيقة وغلاف جميل وسميك، وقدّم لها الناقد برزو محمود بمقدمة…

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…