الراحل محمد سيد حسين يحل أبدياً في قريته، وقصيدة «تل عربيد»

ترجمة وتقديم: إبراهيم محمود
صاحب الظل العالي الكردي أصالةً محمد سيد حسين الذي ودعنا وهو في عمر الثمانين عاماً، في ” 11-2/ 2022 “، ودفِن في قريته ” تل عربيد “، ربما قلة قليلة تتذكر، أنه سطّر قصيدة مرهوبة الجانب، تحتفي بالمكان وأهل المكان، وتاريخ المكان، قصيدة ملحمية الأثر، معبّرة عن ذائقة رحبة له، تحمل اسم القرية ” تل عربيد ” وهي منشورة في مجموعته ذبول الشمس ” Gernejîna rokê- 2010 “، وقد ترجمت الكثير منها، إلى جانب مختارات أخرى، حيث نشرتها ضمن ملف نشر في أكثر من حلقة في صحيفة ” بينوسا نو “
أستعيد القصيدة تلك، لأهميتها، وأنا أعيش مع صورة هذا الإنسان الكبير، حين كان يتحرك في رحابة تل عربيد، في جنباتها، ويمنح القول بدعته الفنية الرحالة في الزمن.
قصيدة لا أظنها بعادية في كتابتها وقراءتها، لأنها بطابعها البانورامي تكاد تشكل سفْر الفاجعة الكردية في الهجر والارتحال، في انقلاب الأحوال، حيث يجري رثاء المكان وأهله .
وها هو الآن وقد أصبح منتمياً إلى عالم مقبرتها، مقيماً أبدياً فيها. ويا لها من فاجعة المفارقة .
أبو رشيد الذي تنقَّل بين الأمكنة، واحتفظ بها في ذاكرته، ولتل عربيد حيث اندفن فيها أعز أحبته: الوالدان وخلافهما، بدا، كما لو أن روحه كانت تحن إلى مسقط الرأس، إلى المكان نفسه الذي ألهم خياله، وأطرب روحه وحلق به عالياً، ليكون النزيل الأبدي كما سبقوه .
أحاول نشر القصيدة تلك كاملة هذه المرة، فقد نشرتها باستثناء بعض المقاطع لطولها وقتذاك، وهأنذا أترجم المتبقي منها، لتكون أكثر قابلية للقراءة تعبيراً عن ود، عن حب من نوع خاص، عن وفاء الاسم للاسم، عما هو مستحقه هذا المفعَم بثراء الأثر ورونق المحفوظ في الذاكرة .
أعيد نشر هذه القصيدة لأهميتها، عرفاناً بجميل ما أبدع فيه بروحه، وشجاعة روحه .
أقولها، وبي وجع القريب للقريب، الصديق للصديق وأكثر، شعوراً ذاتياً مني، أن تصرفاً كهذا، يخفف من وطأة الذاكرة، باسم واجب الذاكرة الكردية اسماً ومسمى .
وعيني تمضي بالقصيدة حيث أكون في دهوك، إلى حيث يكون رقاده الأبدي في : تل عربيد :
تل عربيد
أي نعم، يا قرية
كل فترة
بزيارة
أعود إليك
سوى أنه هذه المَرَّة
استطلعتك
بعين الشاري
تيارات الهموم الطفولية
جعلتْني نهْب السهام
دون استثناء كلما
عدتُ إليك
أراني على صدرك
وأنا بذكرياتي وتطلعاتي
حافياً عارياً
راعي الجداء والخرفان
***
الكمّان بالمخاط
الياقة مطيَّنة بالوسخ
الثوب المهلهل والبالي
الصدرية وهي بدبق
 الجبس والبطيخ
الساحات والأزقة
الطرق والأتربة
الألعاب الطفولية
أمسيات مضافة القرية
أحياناً جرّاء جمال
طبيعة قريتنا
أصبح هائماً بالورود
كوني تربَّيت
على صدر
 ربيع تلك القرية
وفي حضنه
كنت أتحسس
حبوَّاً
بالفم والشفتين
وسط الوادي
تينك ثدييك
أيتها الأم الرؤوم
***
عندما ألتفت
إلى تاريخ ميدان الهرج والمرج
التنافس، والتزاحم والتجاذب
العداوات المتبادلة
معها أيضاً حماس الكلة والرّكاب
وسط البيادر
الاختفاء وسط الحفر والخرائب
مقابل مزبلة
 أمام بيتنا
نبتات الحرمل في صدر التل
المتابن والبيوت المتداعية
دون أحد وراع ٍ
في استقبالي فتحت ساحات حروبها
حينها لكم تحسستُ
حيث حبك وذكرياتك
لا زالت مثل السابق
حيوية وحلوة
خاصة وأنت أيضاً
لكم تكونين في وضع صعب
***
تلّك ِ مثل شيخ عجوز
وسط سبعة أيتام
بشعر  مطموس وأسنان ساقطة
دون أي قيافة
الآثاريون الأجانب
حفروا في رقبتك
تلك بقايا الآباء والأجداد
الهوية التاريخية
الخرائب التي
هجرها أصحابها
الخرائب السبع التي
في محيطك
كانت ترعاك ليلاً
***
لا زالت ذكرياتك ونظراتك
تتخايل أمام عينيّ
وسط السراب
تظهر عائمة
محل تنورنا
مودعة الدجاجة ” بيضتها “
قوقأة الدجاجة الراقدة
مجمَّع ماء القرية والبئر
التي أمام بيتنا الخالية من الماء
تالياً الحمام والباشق
هجرا عشيهما
كلاب القرية وقططها
لجأت إلى المدن
وحدها المقبرة ذات الشطرين
مع الموتى والآثار
بقيت أبدية
شمال بيتنا
وسط الزقاق ، على البيادر
معابر وممرات قطعان الغنم
ممرات آثار حوافر الحيوانات
لم تعد لها قائمة كلياً
****
أواه يا قرية
ما كنت شجاعاً
ما كنت خائفاً
آثار تذكاراتك
تتحرك في ذاكرتي
توقظ أفكاري
أنفاس الحياة الطفولية
لصْق حضنك
أتذكر طفولتي
إنما كوني ولداً
جدتي، أمي وأبي
بجوار مكمن الجد
راقدون في المقبرة
كوني أخاً
عمي وابن عمي
حيث لم يتزوجا
هما أيضاً في
 حضن ترابك مقيمان
سوى أنني هنا
لا زلت أبحث عن الأحياء
***
الآن على قمة التل
أتحسر بعمق
ومأخوذاً بالعجيب في بيئته
أنظر إلى ولادتي
مثل مرآة قبالة الوجه
يمضي ربيع العمر
لا أحد يرجع
لذا إذا متُّ
ترى من سيهيل التراب
على قبري
ويقرأ الفاتحة المباركة
 والتلقين علي
***
آباؤنا وأجدادنا
هاجروا مع التاريخ
قبْلي أحفادهم
قُتلوا أيضاً
اللغة التليدة منهوبة
فقد تراب الوطن
معها عذريته
أحلامنا ذُبحت
وهي في المهد
أشعر أن نبض
قلبي يتسارع
كوني أراك مغموماً
هكذا دون أحد
قد فُرِغ من أهليه
***
” تل عربيد ” فرغت
من صراخ الأطفال
صوت خضخضة القِربة
زقزقة عصافير الصباح
نداءات الفلاحين ذات الصدى
صيحات راعي الغنم
أنة ناي حسو
صهيل الجواد الشبق
صلصلة خلاخيل
الفاتنات الجميلات
من دوران حجر الرحى
***
أسف، ومائة أسف
هأنذا أيضاً قد بعدتُ
إنما أعرف جيداً جداً
أن القانون الكوني ذات يوم
غير معلوم
سوف يعيدني إليك
على نعش
ضيفاً أبدياً
لهذا أتأمل
أن تفتحي قلبك لي
أن تحضنيني بعطف
إنما ألف أسف يا قرية
أنه لا زال في الأفق
حروب وأهوال
تخاض على رأسي ورأسك . صص 74-79

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…