أيمن ملا
على ما يبدو أن المناخ الكوني العام سوف لن يترك البشرية أن تعيش في أمن وطمأنينة ، فعلى رأس كل مائة عام وأقل يتفاجأ الإنسان إما بحروب واصطدامات بشرية شرسة تشتت شمل المجتمعات عن بكرة أبيها ، أو أن وباء فتاكا يظهر فيزمجر ويهيج في وجه الإنسان إلى أن يبدل صورة التكييف المجتمعي في العالم برمته ، كمرض السلّ والطاعون والأيدز والأنفلونزات المتعددة وغيرها من المايكروبات المعدية التي ظهرت قديما وحديثا ، وفي كل مرة كان ناقوس الخطر يُدق من قبل الحكومات وأنظمة الصحة العالمية لتفادي الخطر والخروج من المبارزة بأقل الخسائر ، أما هذه المرة فإن جرس الإنذار قد قرع من قبل الكاتب الكردي إبراهيم اليوسف من خلال روايته الجديدة ” جرس إنذار ” التي صدرت حديثا من قبل مؤسسة أروقة للدراسات والنشر في مصر في يناير /2022/ .
هذه الرواية تشبه الروايات أو الأفلام البوليسية إن صح التعبير من حيث حجم المعاناة في كيفية التعامل مع الفيروس الكوني الساحق كوفيد 19الذي انتشر بجنون وهمجية ، ومشاهد الرعب الكوروني الذي قلب موزاين التعامل ما بين الإنسان رأسا على عقب، وكان للراوي تصويره الدقيق حول مجريات الأحداث الكوفيدية في البلد الأوروبي الذي يقيم فيه وتماشيا مع القوانين الصارمة التي اتخذت لضمان السلامة العامة ، حيث أن الحذر قد رافق الراوي منذ البداية الأولى من الرواية حين وُجه إليه إصبع الاتهام بالخوف من قبل أحد أبنائه لعدم ذهابه إلى موعده المحدد في أحد المراكز الطبية بعد انتشار الخبر الكوروني عالمياً، وكأن هذه الخطوة هي بمثابة تطبيق المادة الأولى من الرواية والمتمثلة بعنوانها المثير ” جرس إنذار ” ، ثم بدأت القصة من فنجان القهوة الصباحي الذي كان يتناوله مع صديقة الطفولة آلا وابنة البلد مهاباد وتردده في تحطيم جدار تلك الجلسة الصباحية التي تعود عليها منذ الصغر، مرورا بعد ذلك بالمصعد ودرج العمارة التي كان يسكنها الراوي والتي فاجأته المصادفة ذات يوم بأنها تحمل رقم” الكوفيد19 نفسه ، وهنا بدأ الحك والشك يهيمنان عليه، ويبدو توجسه وخوفه من لمس أي شيء خارج أسوار التعقيم المنزلي .
فالرواية هي حكاية تعتمد السرد بما في ذلك من وصف وحوار وصراع بين الشخصيات ، وقد يلاحظ القارئ ما بين دفتي “جرس إنذار” أن علاقة متناهية موجودة ما بين الروائي والراوي وكأن الروائي تعمد إسناد الراوي في الصراع الذي بينه وبين مجريات الحكاية الروائية لتحقيق انتصاره والهزيمة الحتمية للكوفيد المقزز، وقد حاول الكاتب هنا إيصال رسالة توعوية إنسانية لقرائه داعياً خلالها إلى عدم الاستهانة مع هذا المايكروب الخطير الذي بدأ بالغزو مخترقاً حدود الأعراق والملل، بل وحدود الزمان والمكان خلف ظهره، كما أن العادة والهدف من الروايات هي المتعة وتحقيق هدف إنساني نبيل ، فتطبيق قانون التباعد الاجتماعي كان من القضايا الأكثر إزعاجا بالنسبة للراوي في الوقت الذي كان يدعو فيه إلى التقارب والتلاحم ما بين المجتمعات والملل، لكن كل شيء تغير مع الكوفيد الآن، بل أن الرعب أوصله إلى حد التخلي حتى من هاتفه النقال، خشية أن ينتقل إليه الفايروس من خلال الذبذبات المرافقة للشبكة .
فالرواية وبالرغم من كثافة وتكرار التعبيرات والتحذيرات الهائلة التي تضع القارئ في أجواء كابوسية، وهو يقرأ ويتذكر بدايات هذه الحرب الكونية كما سماها الكاتب، إلا إنها تبهجك في الوقت ذاته وهي تجتذبك من خلال مشاهد وأحداث و وطرائف تشحذ همتك للاستمرار في القراءة ومعرفة ما سيحصل مع شخصياتها مثل ” الجو في الخارج ماطر وإلا عرضت موبايلي للتشميس في الشرفة ، كما ثيابي ” . وكذلك ” عندما أفتح الأبواب فأنا أخاف أن يتسلل الميكروب من الخارج – يجيبه أحد أولاده – الميكروب لا يطير ، هيئة الصحة العالمية تقول إنه يبقى معلقا في الهواء لساعات ” وغيرها الكثير.
وعنصرا اللغة والوصف في هذه الرواية كانا حاضرين معاً والذي بإمكانهما أن يحققا المطلوب ويصيبا الهدف، إذ لا يمكن للوصف وحده سواء الوصف الداخلي أو الخارجي أن يحقق شيئاً خارج إطار اللغة، وبالرغم من أن الوصف وسيلة مهمة وتقنية من تقنيات البنية التكتيكية للرواية لما له أكثر من دور في طول وعرض الرواية سواء من الناحية التوثيقية أو الجمالية أو غيرها، إلا إن ذلك لن يتحقق البتة لو لم يكن لدى الروائي الشاعرية في اللغة والقدرة المعرفية على تشخيص الأماكن والأزمنة، وخلق التلاحم ما بينها وبين شخصيات الرواية وعناصرها .
فالتجربة الإبداعية من كل زواياها كانت حاضرة في رواية” جرس إنذار” من خلال المضمون والهيكل، وطريقة السرد الممتعة، واللغة المبسطة التي يحبذها الجميع، وتصوير فضاءات الحكي، بحرفية الكاتب المتمكن، وكذلك إقحام الحكاية الشعبية في النص، وذكر بعض الطرائف والعادات الاجتماعية من بيئة القارئ نفسه والتي هي سمة من سمات الكاتب كما في رواياته السابقة كجمهورية الكلب وغيرها، كل ذلك هي شواهد حية تدل على أن بقايا تلك الذكريات في وطنه المسلوب حريته قد بقيت ملصقة بجدار ذاكرته أينما حل وارتحل، وأنها تعمل على إنتاج طاقة فكرية ونفسية محبذة لدى القارئ تدفعه على إكمال ما قد بدأ به، وكأن الكاتب عمل على نسج عملية مسح تاريخي واجتماعي وحتى سياسي في بعض الأحيان للتركيبة الاجتماعية الكردية في روژ آڤا ” غربي كردستان ” مما جعل الرواية أن تكتمل شكلاً ومضموناً .
من الممكن أن العنصر أو الحضور الفكري العميق ربما غاب عن الرواية مما كان سيضيف للنص مشروعية الاجتهاد والتأويل أكثر، إذ أن العمق الفكري في نص ما يحمل الرسالة الأدبية المراد إيصالها للقارئ ، وبالتالي بإمكان القارئ الوصول إلى محتوى أو القالب العام للنص من خلال المدلول الفكري عبر وسيلة الخطاب واللغة ، إلا إن طبيعة القصة في هذه الرواية هي التي فرضت هذا الطابع .
تهدف الرواية- من سطرها الأول وإلى النهاية- إلى تنبيه الإنسان للوقوف في وجه كارثة تكاد تنقض على وريد المجتمع ووأده ، فالذخيرة المعرفية لدى الكاتب جعلته ناجحاً في خلق واقع حيّ حتى لو كانت القصة الروائية خيالية لكانت قابلة للتصديق وقادرة على
خلق أثر في نفس المتلقي .