صرخة على قمة الجبل !

هيثم هورو 
 -1-
خيم السكون في عتمة الليل، وبدأت الرهبة تتسلل الى أحشاء تلك القرية النائية، لا احد منهم يعلم ما الذي سيحدث تباعاً، وبات الأذن يسمع صدى تسرع خفقان القلب من شدة الهلع والذعر، وما مرت لحظات حتى تعالت الصيحات معلنة الإنتصار على القرية المسالمة التي استسلمت في جنح الليل على يد الغرباء الذين اضاؤا الأنوار المبهرة، واذيعت عبر مكبرات الصوت على الأهالي الخروج حالاً والتجمع في الساحة .
كانت سوزان طريحة الفراش مريضه، لا تستطيع النهوض إلا بمساعدة زوجها توريفار حينها قالت سوزان : يا توريفار يجب عليك الهروب حالاً فإن حياتك في خطر مؤكد فهؤلاء الغرباء سيقومون بقتلنا جميعاً وانا لا استطيع مرافقتك لذا اطلب منك ان تلوذ بالفرار الآن فأنت قادر على النجاة بحياتك، وانقاذ اطفالنا و ايصالهم الى بر الأمان، استغرب توريفار من طلب زوجته سوزان ثم رد عليها قائلاً : كيف لي أن اتركك يا عزيزتي؟ فأنت رفيقة عمري في السراء والضراء، نموت معاً أو نحيا معاً، ثم اردفت سوزان والدموع تفيض من عينيها قائلةً : نعم 
حبيبي  ! اعلم مدى اخلاصك ووفاءك لي، لكن الأمل مني معدوم فالمرض اجتاح سائر ارجاء جسمي، لا أدري في أية لحظة يفترسني الموت، وارحل من هذه الدنيا التي ظلمت وما زالت تظلم أناس كثيرون، لذلك يا زوجي الحبيب هيا خذ الأطفال، وغادر حالاً سأكون ممتنا لك .
 -2-
شعر توريفار بالقهر الشديد وودع زوجته باكياً ولاذ بالفرار مع أطفاله من القرية عبر تسلق الجبل، وسلك  الطرق الوعرة، حتى ابتعد مسافة جبلين وهو يطلق من صدره بخار انفاسه في الظلام الدامس، ثم جلس مع اطفاله للإستراحة على صخرة كبيرة شاهقة فوق قمة الجبل المسمى شعبياً( Bena Gewşa ) وكان يسود المكان الضباب الكثيف والمتقطع مع صدى صفير رياح قوية زمهريرية، وراح يتأمل شكل قريته من بعيد ويسمع اصوات الكلاب تضج في القرية، حينها شعر توريفار بأن الغرباء يقومون بتصفية كلاب القرية أولاً التي كانت تحرس منازلهم، لم يصمد توريفار طويلاً من شدة غليان دمه على لهيب نار ابراهيم الخليل، وأطلق بملئ حنجرته صرخة مدوية لا يسمعه سوى الجبال المحيطة به، تلك الجبال التي كانت دائماً ملاذهم الآمن وصديقاتهم على مر الزمن، وقتئذٍ نفذ صبره من هول ما يجري، ظناً منه بأن الغرباء يقومون بتصفية أهالي قريته وزوجته المريضة بينهم، فأستجمع كل قواه وقرر العودة ثانيةً، وعند وصوله هناك، ذهب الى جموع الغرباء المدججون بالبنادق الذين استولوا على قريته وقال لهم : انا من سكان هذه القرية بعد إلقاء التحية عليهم بكل أدب واحترام، لكن على الفور القوا القبض عليه وصفعوه صفعتين على وجهه كادت تثقب طبلة أذنه مع توجيه الكلمات النابية له من شدة حقدهم ولئمهم، وبعد ذلك القوه في السجن مع اطفاله .
 -3-
تفاجئ توريفار بأن جميع اهل قريته الذين منْ تبقوا فيها اصبحوا داخل السجن، وعلى الفور قال أحدهم ان زوجتك هي ايضاً معنا فأشار له انها هناك مستلقية على الأرض في تلك الزاوية مع نساء القرية، فتوجه حالاً نحو زوجته محطم النفس، منكوش الشعر، ويدير رأسه يميناً ويساراً، ثم ركع على ركبتيه، وعانق زوجته سوزان بحرارة وحنان، وسألها بحرقة حلقه الجاف، هل حصل لك اي مكروه ؟ اجابته سوزان : ان مرضي اشتد كثيراً والسعال لا يفارقني، والمكان هنا بارد جداً، واشعر بضيق كبير في صدري، ادعو الله الإسراع في اخذ امانته، واتحرر من هذا الجحيم الذي لا يطاق، وبالكاد اقف على ساقيّ، والقوا بنا الغرباء في هذا السجن اللعين ! لكن لماذا عدت يا توريفار ؟ ألم اقل لك انجي بحياتك، فأجابها توريفار : وهو يطلق من صدره الزفرات المثقلة بالآهات قائلاً : لقد اتقدت براكين الدنيا في عظامي المهشمة، وعلى طول الطريق كان ضميري يؤنبني، وكنت اخشى ان ينعتوني بالجبان، لأنني تركتك وحيدة بين براثن هؤلاء المتوحشون، لذا فضلت الموت الى جانبك على الحياة، وحينها بدأت تزرف الدموع من عينيها بتدفق شديد، وكما اغرورقت اعين نساء قريتها، على تأثيرهن من الموقف النبيل، عندئذٍ احتضن توريفار زوجته للمرة الثانية لتخفيف آلامها، ومسح دموعها اللؤلؤية والبريئة بكفوف راحتيه، وقال لها : حبيبتي اطمئني انهم سيطلقون سراحنا، فنحن أناس ابرياء ولم نظلم احداً في حياتنا، فإن الله مع المظلومين .
 -4-
عاش أهالي تلك القرية حالة غير مسبوقة، وعانى الكثير من الذل والإهانة على أيادي وحوش بشرية هائجة، وبعد مرور اسبوعين اطلقوا سراح العائلات، وبقي الشبان منهم الى اشعار آخر .
عاد توريفار وعائلته الى منزلهم وتفاجئوا ! تفوح من دارهم رائحة كريهة، وعلى الفور قام الزوج بالبحث عن مصدر تلك الرائحة، وإذ وجد في حقله الصغير جثة كلبهم متعفنة هناك، ثم حزن عليه كثيراً، فقام بإخراج الجثة، وأخذها بعيداً، ودفنها في الوادي احتراماً للكلب الوفي، ثم عاد الى منزله فوجد زوجته سوزان جالسة على كرسي وهي تضرب بكلتا يديها على ساقيها من جراء الحزن على مقتنياتها الثمينة المنهوبة والمحطمة التي ذهبت ادراج الرياح، ثم قال لها توريفار لتخفيف وجع الغضب عنها، سيعوضنا الله، فقام سريعاً بإيقاد النار في الموقد الحطبي، ثم أحضر المفرش الأسفنجي ووضعه بالقرب من الموقد و استلقت سوزان برفق عليه، والتي كانت تئن من وطأة المرض والبرد، ثم راحت تبكي على حالها وحال قريتها على ما تعرضت في تلك الليلة الظالمة . 
 -5-
بعد انتهاء توريفار من أعمال التنظيف والترتيب، أحضر طعام العشاء ووضعه الى جانب سوزان، لكن الذي حدث ظن توريفار بأنها غارقة في النوم، فمدّ يده على كتفها لاستيقظها، وبدأ يهزها برفق، وبعد عدة محاولات لم تتحرك ساكناً، كانت قد فارقت الحياة واصبحت جثة هامدة، فأحتضنها توريفار بشدة مع إطلاق صرخة مدوية أخرى نحو كبد السماء، وامطر عليها بوابل من قطرات دموعه الملتهبة التي كان يرافقها زفير نار الحطب المشتعل في الموقد، حينها سمع جيرانه صدى صرخته، فسارعوا إليه ووجدو بأن سوزان قد اسلمت الروح الى بارئها واطفالها الصغار يبكون على امهم المسكينة النبيلة، التي ودعت الحياة في ظروف تقشعر لها الأبدان، ويعجز اي انسان وصفها. 
-وهكذا استطاعت سوزان ان تقدم رسالة قوية ومميزة للعالم !!؟؟

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…