محمود درويش .. سيرة شعب واختزال قضية في كلمات، تلك التي ظلت موضع الاتفاق، بين التي تقاتلت وتناحرت وتباينت واختلفت، أو تلك التي انحازت إلى تعبيرات القرقعة ومسارات الأنفاق المظلمة، حين كانت تتكئ على الزناد وأكتاف الميليشيات، وتدخل معها مقدسات القضية ضمن خنادق التجاذبات أو المواجهات، وفق ما كانت ترسم لها أجندات القوى، التي كانت وما زالت، تتحكم بمفردات معادلة القوة والتوازنات، حتى باتت تلك الكلمات – قصائد درويش – تاريخاً دون كل التواريخ، تسطر قضايا الوجود، وتذهب بعيداً في الحقائق، لترسم لنا لوحة الانبعاث ضمن خارطة، ابتليت بثقافة، كان العنوان الأبرز لها؛ أن الحياة لا تستمر إلا عبر موت الآخر، وأن ديمومة الأنا مرهونة بفناء كل ما من شأنه أن يعرقل تضخمه، ويحد من سلطته وسطوته، تلك الثقافة التي حولت الحدائق إلى منصات لاختبار القوة وأشكال الترهيب، حين أصبحت تحتضن المشانق عوضاً عن الورود والزهور، وجعلت من الواحات ملاذاً أخيراً لكل من كانت الأصابع توشي بأنه يقف على مسافة من الـ (نعم) للقائد أو الرمز أو الأسطورة، حتى لو كان رضيعاً ولا يفقه الكلمة، فباتت الأجساد تتكدس وتتراكم على أنغام ثقافة المقابر الجماعية، والأشلاء تتناثر وفق مقتضيات الأمن القومي، والقصبات تتحول إلى ساحات لممارسة طقوس الموت البطيء، حين كان الخردل والسيانيد يفتك بالأرواح، ليس لسبب سوى الاختلاف في الانتماء ..
هي الثقافة التي تمرد عليها درويش حين واجه القتل بالكلمة، وجابه الطغيان بالقصيدة، دون أن ينسى في كل ذلك، رسالته الإنسانية، وإنسانية رسالته، كونه صاحب قضية، وسفيراً لها، ومنها أدرك، وعبر التجربة ومعايشة الواقع، أن الظلم والشقاء ومخاضات الولادة بين الأزيز والهدير ومشاهد القتل والرعب والتشرد، تتجاوز في معانيها وصورها ودلالاتها، كل ما هو مخطوط في الكتب والبيانات، أو ما هو من رسم الخيال وانطباعات المشاهد، وعلى تلك المشتركات في المعاناة والهدف، كان له وقفته مع شركائه في التاريخ وجيرانه في الجغرافيا، عبر قصيدته (كردستان)، وإن كان ذلك يشكل في جانب منه وفاءً للقدس والتاريخ، كون الذاكرة المقدسية ما تزال تحتفظ بصورة ذاك الفارس الذي تقدم لنجدتها، ونقش في وجدان كل من قرأ التاريخ بلغة الحقيقة، تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الناصر صلاح الدين وحطين وتحرير القدس ..
هو محمود درويش .. طراز من نموذج الوهم أو اللا منطق، حين نفتش عن مكنونات الواقع في بقاعنا المترامية، التي تعج بما هو آسن وخارج عن دائرة ما تم تلقيننا إياه، على أننا ننتمي إلى مهد الحضارات، أو حين نبحث عن أبجديات المنطق ذاته في واقعنا الذي أنتجنا على شكل بيادق، لا بد وأن تكون منقادة لأوامر أولي الأمر وطاعتها، وهو نفسه أسطورة الخصوبة التي تمد التواصل مع حضارة الإنسانية، حين نبحث في المستقبل عن هويتنا ورسالتنا، لا بل هو ذاك الفارس الذي أبى أن يكون مع الذل شريكاً أو إلى العدم انتماءاً، وإنما ظل شامخاً وسط انكسارات القيم وانتكاسات الدهر، وعورة الشعارات التي كانت تعتاش على قضيته، التي ظل جزأً منها ومنتمياً إليها، تلك الشعارات التي من أجلها وفي ظلها، كانت المقاصل تحصد الرؤوس، والزنازين تستقبل قوافلها، والهدف أولاً وأخيراً، هو خدمة البقاء للأنظمة التي تهاب شعوبها وحركة التاريخ ..
هو درويش .. من يقرأ سيرته ورحلته مع القصيدة، يستغني عن قراءة فلسطين، ومن يتعرف عليه، يلم بتفاصيل القهر والظلم، ويدرك جيداً أن ذاك العملاق قد رسخ فلسفة تتلخص فحواها، بأن الشخص قد يرتقي بالقامة إلى مصاف القضية نفسها، حين تكون القضية مجبولة فيه هويةً وانتماءاً، ويجعل من قضيته قضية غيره، حين يمسك بخيوط التوظيف، ويلم بمفردات التواصل، وإن كان الرجل لم يبخس الغير حقه، كونه يعي أن التاريخ لا يتوقف عند رؤية أحادية، أو موقف منفرد، وعليه فقد دعا في آخر قصائده الآخرين إلى متابعة المشوار، يقيناً منه أن الانتقال من ثقافة الدم إلى ثقافة الإنسان، لا بد وأن تستند إلى عامل التواصل وعنصر الاستمرارية ..
لقد عودتنا ثقافة الدم في الجغرافيا التي ننتمي إليها تجنساً، أن نودع الكبار – غالباً -، إما رؤوساً دون الجسد، أو أجساداً دون الرؤوس، أو نصطف أرتالاً – في قرارة أنفسنا – لنستقبل الجنازة وهي تودع الزنزانة، ونودعها بدورنا ضمن خريطة نجهل إحداثياتها وتفاصيلها، وإذا كنا مع درويش نعرف اللحظة والحدث والإحداثيات، إلا أن العجز هو نصيبنا في أن نشاركه مراسيم الوداع .. وداع ذاك الثائر الذي – هكذا أعتقد – ننتمي سوية إلى هوية الانحياز إلى الكلمة، والاختيار للكلمة، والتمسك بالكلمة، كسلاح أقوى من كل الترسانات في مواجهة الخلاف والاختلاف، أو في التواصل بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات، ولأن العجز هو نصيبنا في الوصول واجتياز نقاط التفتيش عبر أكثر من جواز سفر، لا يسعنا إلا أن نبرق لفلسطين ولكل من يتخذ من رسالة درويش نبراساً، وفي يوم الوداع، بأننا سنبقى شركاء التاريخ والجغرافيا، وسنبقى مدافعين عن إنسانية الإنسان، غير آبهين للكلمات، سوى تلك التي تؤسس للحب والجمال، وتساهم في بناء الحياة وفق نسغ، لا طريق إليها ولا مسارات للدخول فيها عبر أدوات الفتك وإهدار الدماء، بل لها طريقها الوحيد، طريق التآلف والتعايش والانتماء إلى الهوية الإنسانية، وعليه نمد بأيدينا عبر فضاءات معتمة، لننثر بعضاً من أقحوانة جبالنا المحروقة، على ذاك النعش الذي سوف يبقى مخلداً في ذاكرة كل من أراد القول بأننا ((نحن نحب الحياة إن استطعنا إليها سبيلاً)) ..
13/8/2008