إمرأة من الزمن الجميل – الصعب (الى السيدة بهية عبد الرحمن علي يونس)

بيوار ابراهيم

ها أنا ذا أكتب اليك رسالتي- المرثية, أنت التي رغبت العيش بين جدران الصمت. أعرف أنني لن أستطيع قراءتها لك و أنك لن تقرأي دموع الحروف التي تتراصف جنباً الى جنب كي تحمي الأمل الذي عانق الألم مدى الحياة و اليوم يحرر الموت قيود الألم و يفرش السلالم الحجرية بالوشاحات البيض التي نسجت من خيوط وشاحك الأبيض الناصع.
ما أدهشني فيك, هو قوة الصبر التي امتلكتها. و كأن لسان حالك كان دائم القول: كيف لصرخات الألم و حسرات الأنين و الوجع أن تنال من ابنة الجبال التي لم تركع, تلك الجبال التي كانت حاضرة في روحك و قلبك و جسدك الذي قهر الألم و المرض.
من الجبال المستعصية, التي لا تأهب الخوف و لا تركع بقامة. من أعماق الزمن الجميل – الصعب, نزلت بصمتك المدثر بالأنين لكن أعماقك, كما أعماق جبال ساسون لم تعرف البكاء و لا الأنين و لا الصرخة.
عرفتك كإمرأة بعيدة من وراء المدى, ذات ابتسامة خجولة و أحببتك كجبلٍ لا ينهار امام الزلازل, في الحزن تبتسم و في الفرح توزع السعادة. لم تحتاجي يوماً الى الحنان من أي كائن, لأنك كنت بحراً من الحنان.
بابتسامتك الصامتة و دعواتك المستفيضة, أيقن كل قلبٍ عرفك ان الصدق نبعٌ يفيض من قلبك. في زيارة بعيدة و قريباً من الشرفة النصف المغلقة و عبر سؤالٍ عابر سألتني:

– لماذا تختفين هكذا يا ابنتي, كم أفرح عندما تزورينني؟
 
عرفت مبتغاي, عبر سؤالٍ خرج من قلبك و استقر في جرح هو لك و لي و لنا. حينها أشرت لك بإصبع الشهادة نحو الملعب البلدي الذي يجاور منزلك, كاد أصبعي ان يخرج من الشرفة النصف المفتوحة لكن الجواب أوقف الأصبع المسكين الذي رضخ للحديث. قلت لك:

– عندما أعبر هذه البوابات المدججة بالحراس حتى أثناء غيابهم, اشعر بغصة نارية تلهب أحزمة هموم وطن اسمه كوردستان و تجرح واجب مسيرة اسمها الكوردايتي. أشعر أن قامشلو تنتحب على أولادها و انا صامتة مقيدة, دمها يفور مع دمي و دموعها تهطل من سماء أحزانٍ لا تذبل.


 
 أدرك أن الأفواه المكتومة بلجام الفقر ترفض الخنوع و تقاوم بالصمت , تصرخ صامتة بكفرها و فقرها و كتمها, تصرخ في وجه الزمن الذي يركع لزمن ليس بزمن, تتحدى الصبر الذي بات يفقد صبره. اللعنات التي تنهال من دون رحمة فوق رؤس الصامتين الصارخين, باتت لعنة على نفسها, من يخبر الأمس عن بطولات دونكيشوت مع الطواحين و من يخبر الغد عن اسراب الوهم التي ترفرف في سماء هو لأولئك الصامتين الصارخين ؟ هو انا و انت و كلنا شعاع لهذا الأمس و ذلك الغد , ليوم يأتي و يبقى عندما يكون جميلاً و عندما يكون في متاهات ألم ٍ ما, فإنه يقترب من بوصلة قلب الموت ليدفن الألم في ذلك القلب حتى لا يعود مجددا.
كنت المعروفة (بالأم) و بالفعل, كنت أماً لكل من عرفك و منذ أن عرفتك لم أستطع أن أطوي الأيام و أجعل منها وسادة لسردك الحكايا و الملاحم و الحكم. لم أستطع أن أدون كل دمعة أبت السقوط فوق خدك و كل حسرة خجلت من شموخك و بقيت صامتة في أعماقك.

أيتها الأم, التي أعطت الحكمة للألم و السعادة للحزن و الصبر للفجيعة. عشقت الظل لكن النور حملك بين ذراته الى الأبد.

لتكن جنات الفردوس منزلاً أبدياً لك

10.09.2008

 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…