هيثم حسين
إنّ محاولة القراءة في كتاب “في نظريّة العنوان – مغامرة تأويليّة في شؤون العتبة النصّيّة”*، للدكتور خالد حسين، لَهي بحدّ ذاتها قراءة مغامرة، وذلك لأكثر من سبب، فالسموت التي يستطيع القارئ أن يقرأ منها متعدّدة، فالكتاب ضخم بأكثر من معنى، من حيث مضمونه، وجِدّة المعروض، وكذلك من حيث لغته، دقّتها، “وعورتها”، تمرّدها، فلسفيّتها،..ورقّتها، وهي تحتاج جهداً كبيراً، لأنّ الجهد المبذول في سبيل إنجاز المُنجَز كبير، واستنفد من الكاتب بضع سنوات، لذلك ستأتي قراءتي، قراءة قارئ يبحث عن اللذّة في المقروء، وواجدها في هذا الكتاب؛ الشاقِّ القراءة، الممتعِ في آنٍ..
إنّ محاولة القراءة في كتاب “في نظريّة العنوان – مغامرة تأويليّة في شؤون العتبة النصّيّة”*، للدكتور خالد حسين، لَهي بحدّ ذاتها قراءة مغامرة، وذلك لأكثر من سبب، فالسموت التي يستطيع القارئ أن يقرأ منها متعدّدة، فالكتاب ضخم بأكثر من معنى، من حيث مضمونه، وجِدّة المعروض، وكذلك من حيث لغته، دقّتها، “وعورتها”، تمرّدها، فلسفيّتها،..ورقّتها، وهي تحتاج جهداً كبيراً، لأنّ الجهد المبذول في سبيل إنجاز المُنجَز كبير، واستنفد من الكاتب بضع سنوات، لذلك ستأتي قراءتي، قراءة قارئ يبحث عن اللذّة في المقروء، وواجدها في هذا الكتاب؛ الشاقِّ القراءة، الممتعِ في آنٍ..
وأسمح لنفسي أن أستعير مقولة كتبها الكاتب في بحثه عن “سليم بركات”، أجدها تنطبق عليه أيّما انطباق، وتتلبّس كتابته تلبّساً جميلاً: “لايحفل “الكاتب” بالمنطق الدلاليّ السائد بين عناصر العالم، بقدر ما يسعى وفق رؤيته التفكيكيّة إلى تقويض البنية المنطقيّة لعلاقة اللغة بالعالم من جهة، والدالّ بالمدلول من جهة أخرى..”. وهنا، (في الكتاب) بحسب رأيي، الكاتب استطرد في التأويل الذي أضفى عليه رغبته بأن يكون المؤوَّل بحسب ما يؤوِّله، ويبقى كلّ تأويل مفتوحاً على تأويلات محتملة أخرى، في حلقة استيلاد، وسلسلة مهما استُطرد فيها، تنتج جديداً يضيف إليها، ويضفي عليها تآويل قد تقترب أحياناً وفي بحر الدراسة من الغرابة، من حيث إلباسها الكثير من الرموز والدلالات، لتكون قراءته مفتوحة ومتشظّية، كما قرأ هو قراءة متشظّية، من حيث ترْكه – في بعض التطبيقات- المفكَّك على حاله مقترباً ومحقّقاً فكرة استحالة الجمع، لأنّ القراءة، وفق المنطق المعتمد، لا تأبه لأيّ تجميع، وهذا ليس من مهمّتها.
ومن جميل التأويل في الكتاب ربط الدراسة، أو إيجادها رابطاً لا مرئيّاً بين “غرفة الشاعر” للشاعر السوريّ رياض صالح حسين، وبين “بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح”، للشاعر والروائيّ سليم بركات، وهذا الرابط هو تأويل الغرفة = لغة، وكذلك الشباك = لغة، ليشرك الشاعرين في شراك التأويل، ثمّ التوقّّف عند كلّ مقطع والتأويل المعزّز الداعم للفكرة، وتقوية الدراسة التطبيقيّة الشعريّة بروابط بين المؤوّل من هنا ومن هناك..
ولاشكّ أنّ ما يمنح العنوان أبعاده الحقيقيّة، ودلالاته المتعدّدة، النصّ الحامل لمجموعة من الأفكار والقيم التي يكون العنوان المؤشّر الدالّ عليها، غير المُغني عنها، وعن هذه العلاقة بين العنوان والنصّ، لم يتعمّق الكاتب في مقدَّمته التنظيريّة الغنيّة، لكنّه استدرك هذا الأمر في التطبيقات البحثيّة، وبشكل خاصّ عند تحليل وتفكيك قصّة “الوسواس الخنّاس” للقاصّ عبد القادر ربيعة، لتأخذ هذه الدراسة من الكتاب أكثر من دراسة مجموعة عناوين زكريا تامر كلّها، والتي اقتصر فيها على العناوين..
تقترب الدراسة في لغتها، في بعض المقاطع، من الرواية الشاعريّة، عندما يضفي الكاتب رؤيته على النصّ في تأويله، ملبّساً إيّاه ما ليس فيه، مقوّلاً نصّه في استنطاقه رأيه هو، (مثلاً ص196 ، عند الحديث عن الوطن، هو رأي المؤوِّل ذاته)، وفي بعض آخر، من الشعر للشعر، وكذلك هي دراسة فكريّة تنظيريّة، عمادها الفلسفة، وموسوعيّة الاطّلاع البادية بجلاء أثناء القراءة.. وهي بذلك تكسر وتتجاوز مفهوم “بربريّة التخصّص” الذي طرحه “خوسه أورتغا إي غاست، في كتابه “تمرّد الجماهير”، إذ سخّر الكاتب الكلّ في سبيل تخصّصه، فجاءت رسالته، جامعة لأكثر من تخصّص، صابّة المعارف المكتسبة في إطار معرفيّ رابط بينها.. يعكس ذلك العدد الكبير من المراجع المعتمَد عليها، المثبتة في نهاية الكتاب. (251 مرجع باللغة العربيّة، خمسة مراجع بالأجنبيّة).
تبقى هناك ملاحظة، وإن كان الدكتور خالد قد أشار إليها في بداية بحثه، وهي سعيه لكسر الصرامة الأكاديميّة بتفجير اللغة النقديّة، وتوحيد اللغة بالإعلاء من شأن النقديّة وبثّ روح الشعر فيها، بغية تحريرها من الجفاف الذي يسمها، “يذمّها”، ويبقيها في الأرفف بعيداً محجوراً عليها باسم الأكاديميّة، ومحاولته تثوير لغته لتكون خاصّة به، مبرّراً: “لأنّ الخطاب النقديّ لم يعد يرتضي دور “اللغة الثانية”، في أن يتولّى عمليات التوصيف والتفسير فحسب، وإنّما يتوق إلى مقارعة “اللغة الأولى” ذاتها، لتكون له شعريّته وكينونته الخاصّة”.ص (11). ولكن ما أثقل كاهل الدراسة في بعض الأحيان القليلة، ما قد يشعر به القارئ، بل أقول، ما شعرت به في حالات معيّنة، من تكرار مفردة من المفردات المستهواة من قبل الكاتب، على سبيل المثال: الفعل بأّر، واشتقاقاته، أو البروتوكول، الاستراتيجيّة..
كما أنّ هنالك نقطة، تحسب للدراسة، وهي الكتابة من ضمن اللغة بلغة تخصّص بها، لتكون “ثورته” اللغويّة في هذا المضمار، مرتكزة على الاشتغال على استخراج واستخدام المصادر غير المستخدَمة، والنحت فيها بتصريفها، وإن كانت مصطلحات، وتعويمها، تمهيداً لتعميمها. وقد غامرت الدراسة في هذا الجانب، وتجاوزت العتبة، لأنّ المغامرة كانت جديرة باسمها، والتأويل كان مطواعاً لفكر ولغة الكاتب.. رغم أنّه لم يلزم نفسه في دراساته التطبيقيّة بالمنهج ذاته، بل نوّع، فأغنى، ولم يقبض فيه على النصّ، مفجّراً فيه، مشظّياً، ساهراً متجاوزاً “جحيم الكتابة” (بحسب لغة الكاتب)، ليبقي أبواب التأويل مفتوحة على مصراعيها.. أي عند الانتهاء من القراءة، يحتاج القارئ إلى إعادة القراءة، مهجوساً بهاجس يؤخَذ به، وهو التنقيب في التأويل، لتأويله.. مرتحلاً مع بول ريكور في نظرية التأويل، التي تواكب الدراسة في مختلف تطبيقاتها..
الكتاب يرغم القارئ على اتّخاذ تدابير الحيطة والحذر عند الاقتراب من العنونة، أو عند المغامرة، بعنونةِ نصٍّ ما، لأنّ العنوان “في نظريّة العنوان” مبتدَى الكتاب، وسدرة منتهاه، والكتاب بدوره محتاز الأهمّيّة التي تؤهّله لذلك.. وهو يستحقّ أن يقرأ كثيراً، لأنّه مغامرة، “خطيرة”، لذيذة، بامتياز..!
————–
· صدر الكتاب عن دار التكوين بدمشق،/2007/ ط1، 522 صفحة من القطع الوسط.
ومن جميل التأويل في الكتاب ربط الدراسة، أو إيجادها رابطاً لا مرئيّاً بين “غرفة الشاعر” للشاعر السوريّ رياض صالح حسين، وبين “بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح”، للشاعر والروائيّ سليم بركات، وهذا الرابط هو تأويل الغرفة = لغة، وكذلك الشباك = لغة، ليشرك الشاعرين في شراك التأويل، ثمّ التوقّّف عند كلّ مقطع والتأويل المعزّز الداعم للفكرة، وتقوية الدراسة التطبيقيّة الشعريّة بروابط بين المؤوّل من هنا ومن هناك..
ولاشكّ أنّ ما يمنح العنوان أبعاده الحقيقيّة، ودلالاته المتعدّدة، النصّ الحامل لمجموعة من الأفكار والقيم التي يكون العنوان المؤشّر الدالّ عليها، غير المُغني عنها، وعن هذه العلاقة بين العنوان والنصّ، لم يتعمّق الكاتب في مقدَّمته التنظيريّة الغنيّة، لكنّه استدرك هذا الأمر في التطبيقات البحثيّة، وبشكل خاصّ عند تحليل وتفكيك قصّة “الوسواس الخنّاس” للقاصّ عبد القادر ربيعة، لتأخذ هذه الدراسة من الكتاب أكثر من دراسة مجموعة عناوين زكريا تامر كلّها، والتي اقتصر فيها على العناوين..
تقترب الدراسة في لغتها، في بعض المقاطع، من الرواية الشاعريّة، عندما يضفي الكاتب رؤيته على النصّ في تأويله، ملبّساً إيّاه ما ليس فيه، مقوّلاً نصّه في استنطاقه رأيه هو، (مثلاً ص196 ، عند الحديث عن الوطن، هو رأي المؤوِّل ذاته)، وفي بعض آخر، من الشعر للشعر، وكذلك هي دراسة فكريّة تنظيريّة، عمادها الفلسفة، وموسوعيّة الاطّلاع البادية بجلاء أثناء القراءة.. وهي بذلك تكسر وتتجاوز مفهوم “بربريّة التخصّص” الذي طرحه “خوسه أورتغا إي غاست، في كتابه “تمرّد الجماهير”، إذ سخّر الكاتب الكلّ في سبيل تخصّصه، فجاءت رسالته، جامعة لأكثر من تخصّص، صابّة المعارف المكتسبة في إطار معرفيّ رابط بينها.. يعكس ذلك العدد الكبير من المراجع المعتمَد عليها، المثبتة في نهاية الكتاب. (251 مرجع باللغة العربيّة، خمسة مراجع بالأجنبيّة).
تبقى هناك ملاحظة، وإن كان الدكتور خالد قد أشار إليها في بداية بحثه، وهي سعيه لكسر الصرامة الأكاديميّة بتفجير اللغة النقديّة، وتوحيد اللغة بالإعلاء من شأن النقديّة وبثّ روح الشعر فيها، بغية تحريرها من الجفاف الذي يسمها، “يذمّها”، ويبقيها في الأرفف بعيداً محجوراً عليها باسم الأكاديميّة، ومحاولته تثوير لغته لتكون خاصّة به، مبرّراً: “لأنّ الخطاب النقديّ لم يعد يرتضي دور “اللغة الثانية”، في أن يتولّى عمليات التوصيف والتفسير فحسب، وإنّما يتوق إلى مقارعة “اللغة الأولى” ذاتها، لتكون له شعريّته وكينونته الخاصّة”.ص (11). ولكن ما أثقل كاهل الدراسة في بعض الأحيان القليلة، ما قد يشعر به القارئ، بل أقول، ما شعرت به في حالات معيّنة، من تكرار مفردة من المفردات المستهواة من قبل الكاتب، على سبيل المثال: الفعل بأّر، واشتقاقاته، أو البروتوكول، الاستراتيجيّة..
كما أنّ هنالك نقطة، تحسب للدراسة، وهي الكتابة من ضمن اللغة بلغة تخصّص بها، لتكون “ثورته” اللغويّة في هذا المضمار، مرتكزة على الاشتغال على استخراج واستخدام المصادر غير المستخدَمة، والنحت فيها بتصريفها، وإن كانت مصطلحات، وتعويمها، تمهيداً لتعميمها. وقد غامرت الدراسة في هذا الجانب، وتجاوزت العتبة، لأنّ المغامرة كانت جديرة باسمها، والتأويل كان مطواعاً لفكر ولغة الكاتب.. رغم أنّه لم يلزم نفسه في دراساته التطبيقيّة بالمنهج ذاته، بل نوّع، فأغنى، ولم يقبض فيه على النصّ، مفجّراً فيه، مشظّياً، ساهراً متجاوزاً “جحيم الكتابة” (بحسب لغة الكاتب)، ليبقي أبواب التأويل مفتوحة على مصراعيها.. أي عند الانتهاء من القراءة، يحتاج القارئ إلى إعادة القراءة، مهجوساً بهاجس يؤخَذ به، وهو التنقيب في التأويل، لتأويله.. مرتحلاً مع بول ريكور في نظرية التأويل، التي تواكب الدراسة في مختلف تطبيقاتها..
الكتاب يرغم القارئ على اتّخاذ تدابير الحيطة والحذر عند الاقتراب من العنونة، أو عند المغامرة، بعنونةِ نصٍّ ما، لأنّ العنوان “في نظريّة العنوان” مبتدَى الكتاب، وسدرة منتهاه، والكتاب بدوره محتاز الأهمّيّة التي تؤهّله لذلك.. وهو يستحقّ أن يقرأ كثيراً، لأنّه مغامرة، “خطيرة”، لذيذة، بامتياز..!
————–
· صدر الكتاب عن دار التكوين بدمشق،/2007/ ط1، 522 صفحة من القطع الوسط.
عن صحيفة النور- 339 (30/4/2008)