الربع الخالي

  نسرين تيللو

امعن هزار في الغيمة الرمادية  الكثيفة التي حطت على غرته ونشرت خيوطها ذيولاً في جميع الاتجاهات ….
دنا نصف خطوة من المرآة تفرس في غضون وجهه الموغل في الشحوب , وعيونه الجياشة بطفولة بريئة رغم هالات الحزن الغفيرة من حولها فبان كطفل مستحاث.

 دبيب الذكريات يتسرب من الظلمات يتفاقم. كأنما يريد فتح لسانه المطوي … ماذا لو رتق طفولته الممزقة بأبر الآلم. ولكن أية خيوط تليق بهذاالتمزق …
وقع موسيقي خافت.. يتناهى من بعيد.. يدنو رويداً رويداً. ينبثق من جذور الدم … يتدفق من ثقوب طفولته المنهوبة …. فيضيئ طياتها وقع كثيف كالومض , يبرعم البنفسج قيعان الروح ينتشي بالآلم وتنطلق قوافل الالحان والاحزان , واسراب الحجل من قوس كمان ممو فيطير مع الجزري الى ذرى آلامه. وحبيبة ممو الزبدية تهرب تبعد … تتلاش تغيب
مذ نبت بكو بينهما وغيبها خلف الاسلاك … جسداً وضفائر بنية … لكنها علقت في اوتار  القوس وانسابت روهج الالحان تألقها..ممو يعتقنا لحظات وهو المصلوب على أعمدة الأعراف الحجرية ….
اتدري يا ممو أني لما كبرت قليلاً … قالوا إنك جاري وحسب حزنت بعمق لا يوصف , فأنت لصيق الروح وجزء من ملحمتي , موسيقاك الآن تبعد …. تبعد … وصوت العمة قادم … سيدة الاحزان بدأت .. تكر المآساة تعيد صياغتها لنساء الحي تسردها …. إن كنت بجانبها على البساط المائل , ترفعني من زيقي تقول هذا أكبرهم , وأنا وسيلة إيضاح حية, صلصال مفخور الأوصال .. إن كنت واقفاً بجانبها تضغطني من رأسي …. أتكور بجانبها أتلاش أذوب … أتسرب من دفات الباب الخشبي المترنح … ولكن إلى أين الشارع خيط والساحة نقطة ! اسير لصق الجدران لكن الأطفال يفاجئونني. حرام هذا يتيم .. رغم ان الجدران الطينية تمتص الاحزان تخزنها – لكنها فاضت وتدفق بعض ما فيها. حفظها الاطفال …. مذ ضاع أبي … وضاعت معه شاحنته الصغيرة …. في آخر صبح قلت له : أبي ضع الفاكهة في أكياس متينة  في مفترق البسمة وقف يسألني لماذا يا ولدي ..!!
رويت له حلمي ” رأيتك في الحلم  تتأبط كيس فاكهة …. وتمزق كيس الفاكهة وتدحرج مافيه في الطين.
مسح شعري  وقبل أخر خطوة قال لأمي : انتبهي للأولاد , الفاكهة في الحلم تعني الأولاد .
 وتدحرجنا في الدرب الموحل دخلنا نفق المجهول مذ غاب أبي زلزلت الأرض قليلاً ..لكنها وقفت مائلة .. وتوالت حبلى الأيام ..حرمان يتلو حرمان … وبعد خمس شهور خالتها أمي خمس دهور ..
القتنا فتلقفنا الموت الهائل … ووجدنا ثلاثة أطفال ؟؟؟؟ لهوله ..فكتمنا الصرخة واطلقنا دوي الروح.
أفردت عمتي اجنحتها الكسيرة على بؤسنا … وهاي سيدة الأحزان تعيد فصول الآساة وتحترق فصلاً … فصلاً ..
مذ ولدت طفلتها الأولى  … وبعد شهور يستشهد فارسها الأول .. فتهاوت من هودج عنفوانها  صارت أرملة , بيتاً مسكوناً بالأشباح. فمن يجرأ على السكن فيه ..؟؟
 وتوالى الزمن المر الفاقع ….فأقترنت بأرمل مكدود .. ماتت زوجته تاركة طفلاً للذكرى … وتوالف عمتي بين الأغراب الأيتام ونجيء نحن كي نكمل لوحتها الموغلة في التشاؤم.
وعمتي تبكي ولا تُبكي, تدخن , تسفي رماد التبغ في فمها فواصل. وتعب الشاي القاتم وتواصل رش الملح على طفولتنا المذبوحة للتو.
وزوجها الغريب ..أكثر من مديد .. وأقل من نحيل بقي الشمعة الأخيرة في طريقنا .. ونذر جهده لقلوبنا الكسيرة , وبقي مسكوناً بمصيرنا الغامض. داربعلقم قهوته على الأفراح والمأتم  ..أطعمنا ..علمنا …ولما كدنا أن نكبر داهمه السرطان , في منعطف النطق , ونصب حبال  الصوت للإعدام … ناداه السرطان .. واهٍ يا عبد المعطي شهر واحد حدده طبيبك. وهو أخر شهر في عمرك. دع للأطفال قروشاً يقتاتون بها , دعك من طرق الشام. صمت عبد المعطي ملياً.
أسبوعان عاد السرطان وناداه …هات قياد الروح أسلمها. حرام يا عبد المعطي لم تترك للدود مرعى. صمت عبد المعطي. أسبوع آخر عاد السرطان ….. وماذا يا عبد المعطي .. جابهه المعطي بلا صوت …. لن أستسلم , مادام بي دم يجري , المعطي يرسم في الصمت خاتمة اخرى للسرطان …. يتربص به في المنعطف المظلم يطعنه عدة طعنات ويسلم روح للحادث …. سال دم المعطي طويلاً صهل في كل الطرقات. همد السرطان وامتقع وتلاشت نبرته موتاً..
اتعلم يا عبد المعطي .. أني مازلت الوذ بك كلما تورم زمني بالويلات ..؟؟!!
رحلتَ وبيوار غضٌ وبيال ربيع الأيام ..أما عني ….رميت كتبي لأنقذهم.
اراك يا عبد المعطي ممدوداً , مفتوح الكفين تسير جنازتك امامي فيقفز قلبي خلف جنازتك  ويسير عدة خطوات ..
اراك تاؤم جموع الناس صباح العيد …. وتلتفت لتسألني أتراك هزمت سرطان العمر يا هزار.
وأنت أبي …! أكنت نبي …!!؟؟ …
اسميتنا هذي الأسماء اتدري أن الأفق يضيق بنا وبيتنا هذا قالوا انه ليس لنا.
وليس لنا في الدار موطن شبر …ونحن اشارات استفهام حية في ورق احمر.
عفوكم مالي اراكم تتوافدون ….هاانتم حولي كلكم أ أ يقظكم موتي المكتوم …؟؟؟ ولماذا موتي المعلن لم يوقظ قلباً حياً في الربع الخالي من الانسان.
هزار يهذي ….حمى كابوس لا أدري …؟؟…

ام غيض من فيض جرح ٍ حفرته فيه الأيام .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…

إبراهيم سمو

عالية بيازيد وشهود القصيدة: مرافعةٌ في هشاشة الشاعر:

تُقدِّم الكاتبة والباحثة عالية بيازيد، في تصديرها لأعمال زوجها الشاعر سعيد تحسين، شهادةً تتجاوز البُعد العاطفي أو التوثيقي، لتتحوّل إلى مدخل تأويلي عميق لفهم تجربة شاعر طالما كانت قصائده مرآةً لحياته الداخلية.
لا تظهر بيازيد في هذه الشهادة كامرأة تشاركه الحياة فحسب، بل كـ”صندوق أسود” يحتفظ…