(«وادي الـديازيـبام» لعـبـد الـرحـمن عـفـيـف) عراك أبديّ مع الخفوت والتوحّش اللامتناهي

  ابرهيم حسّو 

شيء واحد فقط في سرّ الشعر في كتاب الشاعر السوري عبد الرحمن عفيف ””وادي الديازيبام”” الصّادر حديثا عن ””دار التكوين”” في دمشق. شيء هو أشبه بالصوت الخفيض يظهر بين الجمل، ويركض فيها عاريا، أو مؤتزرا بملبس حظوته وصوته، هو هو، من دون أن يكون لهذا الصوت استدراج لمفاد قد يحيل الشعر على خلقته الترابية الأولى التي قد تظهر هي أيضا مبهمة أو متعذرة بخفوتها وتوحّشها اللامتناهي. ثمة شيء واحد يستدرّ رحم الكلمات، ينمّقها على شهوتها وجريانها المثير بين أن تثبّت اختياراتها أو تبطلها وتخلق جرسا آخر أو لذة شبقية تنتهي بافتتاحها.

ثمة سريان ما للشعر في زهرة البياض، تدافع بين اللغة وأبهتها الكلامية، بين ابتداع المعنى ومثوله، بين نطفة الهامشيّ المقتدر وبويضة الحضوريّ الراشد. ثمة جريان للشعر هنا، خلف مشهد لا يتكرر ولا يتزايد، خلف حياة يكتنفها الارتياع أو الإحساس به، خلف كائنات نورانية تبرق وتؤلّب الزوابع والغيوم وتثير فينا ذلك الصوت المشار إليه دائما، صوت الإيماء والحركة الاستثنائية للأعضاء المهجورة على جسد مهجور. ثمة شيء واحد يشبه الانقياد لزعيق العدم. شيء يتحرك في النص لينقذه من سكونيّته، يغلقه ويفضّه بمفتاح الزمن المتحرك جيئة وذهابا، يخلّصه من ضجر لا يبرح ولا يتلاشى، كأن الزمن هو النصّ الاحتياطي الذي يبعث اقتراحاته بمحض المكان الاعتباري ليخرج كلاهما منتصرين أو خاسرين متعة النصّ ذاتها. شيء يكاد يطفو على بياض آسر لا خاتمة له، يتفرّس ويتخيّل ويمتحن ذاته بذلك السكّين الوهمي الذي يخرط النص من جذره ويبدّده قربانا للامعنى، أو تعويضا لما هو لا شعريّ بحت. لغة آتية لا محالة، تغتال كلّ ما هو مرتهن بالنصّ أو خارج النصّ. اكتساح دمويّ لحجرات الجمل. ذبح في كلّ أرجاء النصّ الداخلية. قتل بدون الترجيح بين الأنا أو الأنت، بين الصفات المتدحرجة هكذا، في بهو البياض وذلك السطح المعجمي المتهاوي من تلقاء نفسه. قتل اعتباطي في مداخل اللغة الزجاجية الرخيمة، التي تنوء هنيهة بين أن تكون ماضية في اعتباطيتها وأن تكون راجعة من ذلك الصحن الصخريّ للمخيّلة المتراصّة، والمتأهبة برسوخ اللغة نفسها: ””عام يمضي/ في منتصفه هذا الحجر البنيّ/ بجانب الحجر/ أنا ممدّد/ لا أحد يعرف/ أأنا ميّت أم حيّ””.
يسجل ””وادي الديازيبام”” حشداً من التراكمات الصوتية لا شكل له إلاّ في فوضويته، ولا داخل له إلاّ في انسلاله عن المستتر والمخبّأ واللامرئي. سباق من أجل الحصول على المتعة المحرّمة، النجسة هنا، والمتعة المباحة، العفيفة هناك، في تضادّ أخلاقيّ، بالمغزى الأدبي الصرف. متعة القارئ الذي يتنافس مع مغيباته ومجتلبه، مع سلطة نص تحتّم عليه أخلاقيات جديدة، أصنافا من فلسفة لم يعهدها أو تواءم معها يوما. صك لفتح نوافذ عظيمة، بين قارئ امتهن الغياب في النصّ وشاعر امتهن الحضور في النصّ وخارجه، كأنّ الاثنين في عراك أبديّ مع المتعة، مع ذلك المخبوء وراء جدار العقل: ””أي صيف/ وأنت فيَّ/ مرح قاتل/ منار على الدرج/ تختلفين عني/ تشبهينني بالأوراق وهذا التردّد/ لماذا يتكسّر ما يتكسّر/ كالماء/ لماذا تهتزّ هذه الاقحوانة/ تبدين أكثر شاعريّة/ أكثر خدراً/ ليّنة مطواعة/ ويداي/ ماذا أفعل بهما/ في أيّ جانب/ في أي وضعية أصفهما لك””.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إلى أنيس حنا مديواية، ذي المئة سنة، صاحب أقدم مكتبة في الجزيرة
إبراهيم اليوسف

ننتمي إلى ذلك الجيل الذي كانت فيه الكتابة أمضى من السيف، لا، بل كانت السيف ذاته. لم تكن ترفًا، ولا وسيلة للتسلية، بل كانت فعلًا وجوديًا، حاسمًا، مزلزلًا. فما إن يُنشر كتاب، أو بحث، أو مقال مهم لأحد الأسماء، حتى نبادر إلى قراءته،…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…