·
صلاة لمقام التشوّف : سأضع رأسي على كتفه ! قالت ..
وسأمسّد على شلال شعرها الحريريّ ! قال ..
وسأغفو على إيقاع أنفاسه العابقة برائحة تبغه الرخيص ! قالت ..
على قلق انتظرَ ..
ولكنّه هو الرجل , وهو المُطالب بالبوح ! تفكّرت , فيما أنشأ أسى مُبرّح يفرد قلوعه على وجهها المغسول بالشجو والفتنة والغوايات المُلغزة ..
عاتبة كانت ومُوزّعة , فيما كان التردّد والحيرة يشمان حركاته !
همّ بالبوح , ثمّ أحجم تحت ضغط من التربية الزمّيتة , وحالت صورة المرأة في عالم مُخلّف بينها – هي أيضاً – وبين بوح شفيق كان يتخلّق على نحو ما , وعلى نحو ما بدا بعيداً ومهزوماً كراية مُنكسرة ، فيما بدت هي غاضبة ومهيضة ومُهانة !
انتظر وانتظرت ، ولمّا أعياها تفصيل المسألة , وأثقل الانتظار على أعصاب يفثها الحنين واللايُسمّى من الأحاسيس , ولمّا أرهقه الصمت إذْ تسيّد المشهد , نهضت بتثاقل غصن مُثقل ينوء بثمار ناضجة تتشوّف يداً مقتطفة , وتلجلج في جلوسه , من غير أن يسعفه وقوفه المرتبك بمخرج !
كليمة غادرت المكان على انفطار , يعتسفها شجن مُتأبّ على الرحيل , فراحت تداري دمعة حرّى ، أخذت تلوب باحثة لنفسها عن مجرى ! وبدا رهين غضب مُبهظ , لا يعرف له تصريفاً , فمضى وهو يكتم غيظه المُبهم الذي سيظلّ يبحث لنفسه عن مسرى !
· فصل الرحيل :
من جنوب منذور للهاجرة والنسيان كان قد جاء ، هناك حيث يعتصر حسّ الإثم الدينيّ – ناهيك عن حسّ العيب الاجتماعيّ – الحياة من المعنى والقيمة والجدوى , فيما حملتها رياح الفقر والحاجة من مشرق الجهات , غبّ أن غادرت أرمينيا خانة الاتحاد السوفييتي السابق , والتفتت إلى همومها وشجونها ، وكانت باريس مرفأهما الجديد والصارية والمنارة والسفين!
كانت هي قد أقسمت ألاّ تقارب عالم الرجال ، غبّ تجربة زواج مريرة , انتهت إلى طلاق بائن , وخلفتها للوحشة والتوزّع وارتطام الجهات , وكانت الطفلة التي تركتها وراءها في حضانة أمّها هناك ، ريثما تتدّبر أمورها في باريس ، جرحاً راعفاً ينزف صديداً وألماً لمّا يتوقف !
وهو كان مسكوناً بشوق قديم إلى امرأة مُضوّأة بالمسك والعنبر , امرأة تختصر في سناها سحر النساء وفتنتهنّ التي لا تبارى , امرأة حلم ربّما لأنّ المسألة بمُجملها كانت مُحتكمة إلى كبت موروث ومُتوارَث ، وهي كانت – كما لبوة جريحة – تتحسّس بغريزتها أنّ دواءها من فصيلة دائها !
كيف غادرها حذرها !؟ هي لم تعد تدري ! وكيف غادره خجله الذي رافقه عمراً كظلّ بسبب من تربيته المُتزمّتة ، هو الآخر لم يعد يدري !؟
هناك على ضفاف السين غيبتهما الأشجار الظليلة في عبّها ، كانت كنيسة القلب المُقدّس الناهضة على ربض من حيّ ” مونمارتر ” شاهداً على حبّهما ، وحول المُربّع الذي يضمّ رسّامي الرصيف ، وثقَ فنان يابانيّ علاقتهما في لوحة حيّة خالدة , ولأنّه لم يعتد التعبير عمّا يجيش في الحنايا من أحاسيس ، انتظر إلى أن غيّبتهما غابة بولونيا في كثيف ظلالها ، ليطبع على شفتيها قبلته الأولى , ولأنّها ابنة ثقافة أخرى علّمته – ذات ليلة صيف لا تتكرّر – كيف يُعبّر الجسد عن جذاذاته وبراكينه الكامنة ، وكانت الرحلة التي ضمّتهما على سفينة مكشوفة تهادت على صفحة السين تجربة لا تنسى بالنسبة لهما ، أمّا منظر باريس الساحرة من أعلى برج إيفل فسيظلّ مطبوعاً في مدخل قلبيهما كما وشم ، وكان من الطبيعيّ أن يباهى بـ ” التبولة ” اللبنانية التي قدّمها لها في الـ ” سان ميشيل ” !
لكنّ الدمعة الحرّى كانت جاهزة ، لأن تتلمّس طريقها عبر وجنتها نحو الذقن ، فلقد انتهت إجازته ، وحان موعد عودته إلى الوطن ، صامتيْن وعاجزََيْن عن النظر في عيني بعضهما وقفا في أرض المطار ، كانت نظراتهما تمرّان بالأشياء من غير أن ترياها !
هل سيُقيّض لها أن تراه ثانية !؟ هجست ..
ولأنّ الجواب أعياه هو الآخر صمت ..
وعندما أزفت لحظة الوداع مُمتقعة وحيرى – كما دجاجة تفاجأت بظلّ طير فوق مُتناثر فراخها -بدت ، فهل أخذت الطائرة – إذاك – قلبها معها إلى الأبد !؟
أمّا اليوم فإنّ الباريسيّون – ومعهم الغرباء أيضاً – ما يزالون يتساءلون عن سرّ دمعة مُقيمة استوطنت عيني امرأة ، كانت قد قدمت من مشرق الجهات ذات هبّة ريح ربّما ، وما يزالون يهزّون رؤوسهم بأسى ، آنَ تقع أعينهم عليها وهي ما تنفكّ تتردّد على الأمكنة والمعالم والزوايا التي لمّتهما في أمس القريب راح ينأى !
· لذاكرة الوجع :
عندما وقعت عيناه عليها ، أحمر وجهه حتى الأذنين ، وارتفع وجيب صاخب في الوتين ، فيما عرى وهن مُفاجىء الركبتين ، كانت صفرة شاحبة قد علت ملامحه البليدة ، تماماً كما حدث له حينما رآها في المرّة الأولى ، كان ذاك قبل أربعين عاماً ونيّف وستة أيام وسبع ساعات واثنين وعشرين دقيقة وثلاثين ثانية !
كان هو قد قصد سوق الخضار بهدف التسوّق ، وهي مهمّة أسندها لنفسه ، لا لشيء إلاّ ليشعر بأنّه حيّ ما يزال ، وهناك عند القفص الصدريّ نحو اليسار شعر بالوخزة ذاتها ، تلك التي ترافقت برؤيته لها للمرّة الأولى ، إذاك هتف هاتف مُبهم بأنّها هي .. ! هي من يبحث عنها ، لتندغم بفقرات العمر كصنو للروح أو كوشم!
وداخله حرج من نوع ما كما في أيام الشباب تلك ، ذلك أنّ عكازاً مقيتاً كان قد انضاف إلى ” كاركتره ” بعد آخر لقاء لهما ، لقاء وقع في مكان ما .. في زمان ما ، لكنّه لم يعد يتذكّره ، ناهيك عن ألم ألمّ بالمفاصل ، واشماً مشيته ببطء لافت!
وهشّت هي الأخرى لمرآه ، فتدوّر الوجه الذاهل ، ليُفصح عن ابتسامة ناحلة ، وشت بجمال راح يُغرّب تحت فأس السنين الظالمة المُتصرّمة لا تلوي على شيء !
عن الأحوال سألها وعن الأولاد والأحفاد ، فأنّت كقطة ركلتها قدم ، وهزّت كتفيها بارتباك أخفق في التعبير عن اللامُبالاة ، وكم بدت – إذاك – فاتنة وغرّيرة ، لتذكّره بماضيات الأيام الجميلة ، وما كان أقلّ منها ارتباكاً وخيبة في أجوبته اللاهثة المُتقطعة، التي راحت تشكو قطعاً في السياق المُبهظ بالذكرى والإخفاق والتعثر ، ناهيك عن أثر الأعوام العاصفة الضنّينة باللقاء أو – حتى – بالأمل – على إبهامه – في ذواكر أضناها الفراق والإحساس بالكبر!
وتمنّى وتمنّت ، أن تطول لحظة اللقاء كانت مُنتهى الأمنيات ، بيد أنّ التسويف والتباطؤ والإرجاء والمُماطلة لم تنجح جميعها في تأخير الفراق إلاّ بحدود !
يا قلب دع عنك المُكابرة ، والحق بها ، فأنت تعرف بأنّها ليست مُجرّد امرأة فحسب ، بل إنّها امرأة وحقبة وعمر ! قال ، لكنّ قدميه – ولسبب عجز عن تأويله – لم تستجيبا له في يبس ..
إلى أين أيتها الحمقاء !؟ عودي إليه .. إلى قلبك ، فالعمر انسرب كثيره على نحو مُخاتل ، ولم يبق لك إلاّ التشوّف الجارح ومظلة من الحنين والوجع والحزن والخيبة ، ناهيك عن الإخفاق في الإمساك بالزمان الهارب المتأبّي على الاصطياد !؟ قالت ..
ضمّد أحاسيسك في حضنها الدافىء يا رجل ، فالقادم لم يعد يُوازي الذي ولّى وانقضى ، ضمّد أحاسيسك ، إذْ ماذا يساوي عمر من الانتظار المُدوّي والحسرة ، الحسرة التي محضتك حزناً رهيفاً وكاشفاً !؟ قال بهمس ..
اندسّي في عبّه كقطة مُبتلة ، فإذا لم يُقيّض لكما أن تتعانقا كجدولين زماناً ، فلا تكوني كرماد بارد غادره ناره والسمّار ، وخلّفوه للتوزّع ، وهلمّي لمُعانفته عناق ذئبة جائعة ! قالت ..
املأ الفجوة بين الانتظار وكهف التدرّن بها ، ولا تتحرّج من الاعتذار ، وإلاّ فكيف لك أن تشبع ما بك من جوع إليها !؟ جوع صار يُقاس بما خلّفه في الروح من هتك وتلف ! قال..
انزعي عنك قناع الكهانة، وتطاولي نحوه كسحابة أو كمزنة أو – حتى – كنقطة ماء تدلف نحو جرن حجريّ ، فالماء علّمَ – زماناً – في أصمّ الصخر ، ولا تستسلمي لخلوّك المُؤلم منه ! قالت ..
ولأنّه لم يعد ثمّة ما يُقال في لجّة المقام تناءت على مهل وانكسار، ولأنّه لم يعد ثمّة ما يُقال وقف في مُنتصف المسافة كحصان أشهب أجرب وعجوز ، وعلى نحو ما بدت أكثر انحناءً وهرماً وحزناً ، وعلى نحو ما بدا عارياً كشجرة مُستوحشة فاجأها الخريف في مُنتصف المسافة !