الحوار المسرحي في (أهلاً جحا عفواً ممو زين)*

صبري رسول

العمل يتألف من مسرحيتين (أهلاً جحا، عفواً ممو زين). المسرحية الأولى تتألف من أربعة مشاهد، أطلق الكاتب على كلّ مشهد  لوحة؛ والمسرحية الثانية تتألّفُ من ثلاثة مشاهد، لم يسمِّها الكاتب بلوحة أو مشهد، أطلق على كلّ مشهدٍ ترقيماً رياضياً.

تتناول المسرحيتان قضيتَينِ ساخنَتَينِ من أهمِّ القضايا التي يعاني منها المجتمع السّوري المعاصر، بأسلوبٍ امتزجت فيه المباشرة مع الرمزية، إلى حدِّ تباين الخيط الأسود من الأبيض عند بزوغ الفجر. طَرْحٌ فيه الكثير من الجرأة، وكثيرٌ من السّوداية، إلى حدّ اليأسِ المثير من الواقع الأصفر؛ طرحٌ يستفزُّ القارئَ، ويضعُه أمام جملةٍ من الاستفسارات العاجلة المتأزّمة، لكن كون القارئ ((المفترض)) باتَ في عداد (الموتى- الأحياء) أسبغ عليه من صفاتٍ تُنْزلُه من المرتبة الإنسانية.
تعالج المسرحية الأولى (أهلاً جحا) معاناة الفرد (المواطن) المعاصر في التعبير عن رأيه تحت سطوة التسلّط السياسي، والدكتاتورية والاستبداد، فلا رأي له في اختيار مصيره، ويصوّر الكاتب العلاقة بين المواطن والتسلّط السياسي من خلال إسقاطاتٍ تاريخية فولكلورية، وبتعبيرٍ أقرب إلى المصطلح النّقدي، استعارَ الكاتبُ شخصية جحا، المعروفة بخفة الظّل، والبساطة، والصراحة، ونصرة الحقّ، من التراث الشعبي، المتأرجحة بين الحقيقة والخيال، لتواجه استبداد الأمير، مالك البلاد والعباد، الذي يجد تملّقاً ونفاقاً من مجتمعٍ اختزلَ مهامَهُ في التّصفيق، وترديد هتافاتٍ مؤيدة للأمير وحياته، في ظلِّ خوفٍ مستبدٍّ على الناس، جعل حياتهم عبثاً لا قيمة لها. بينما تعالج المسرحية الثانية (عفواً ممو زين) قضية سياسية وثقافية تخصّ الشعب الكردي، الذي يمثّل شريحة هامّة من المجتمع السوري، وتُشخّصُ التعبيراتِ السياسيةَ المتفرّقة التي أصبحَتْ ظاهرة مرضية، حيث الانشقاقات السياسية تضفي بظلالها على الفرد والأسرة والمجتمع، فيذهبُ كلّ فردٍ إلى تيارٍ سياسيّ مختلف. وفي الوقت نفسه، يعاني الوسط الثقافي العام من الاستبداد السياسي، فيُصبحُ كلّ شيءٍ ممنوعاً، معلّباً وفق مقاسات الرّقابة الخائفة من كلّ شيء.
ما يهمني في هذا العمل فنيًا الجانبُ الحواريُّ كأحد أبرز أدوات الكتابة المسرحية التي بدونها لا يقوم المسرح لا في إطار كتاب، ولا على الخشبة المسرحية.
الحوار يُغْنِي النّص الأدبي (مسرحاً كان أم قصة) ويُضْفِي عليه طابع الحيوية ويقضي على الرتابة  والملل، فالنّص الأدبي يسعى للوصول إلى التعبير الدرامي…. يرى (روبرت اس جرين) أن الحوار في ظاهره يبدو بين طرفين، وفي الواقع هناك طرفٌ ثالثٌ في عملية التواصل بينهما، وهو المتلقي(1)  ، فإذا كان الحوار يكتسب أهمية فنية في الفنون الأدبية، فأنه في المسرحية يكتسب أهمية خاصة لأنه وسيلتها الوحيدة في تصوير الشّخصيات وترجمة الفكرة، ويعطيها شكلاً فنيا مستقلاً بذاته، فإذا ذُكِرت المسرحية – حسب توفيق الحكيم- ذكرت معها كلمة الحوار(2)  .
من عوامل نجاح الحوار أن تكون اللغة الحوارية خاصّة بالشخصية، تعبّر عنها لا عن شخصية المؤلف، فكلّما كانت اللغة قادرة على التعبير عن المقاصد الشخصية المسرحية كلّما اتّسم الحوار بصدقية أكثر؛ وقد وفّقَ أحمد إسماعيل في هذا الأمر، فشخصية جحا (التراثية) تنطق في كثير من الأحيان بمفردات قاموسها الخاصّ، وعن أفكارٍ اشتهرت بها كما هو في التراث، مما يجعل الكاتب محايداً، فلا يفرض آراءه عليها، بل يجعلها شخصية مستقلة عن الكاتب.
((جحا: لا شكّ أنّ الأمير حاكم البلاد غافل عمّا يحدث في إمارته، ولا بدّ من إعلامه بذلك.
العجوز: غافل؟ (يضحك بسخرية).
الحمار: لا تكن أحمق يا جحا.
جحا: وهل أنا حمار؟
الحمار: الأحمق من يتفوه بمثل هذا الكلام يا.. جحا أيام زمان.
جحا: ماذا تقول؟
العجوز إنه يقول الصدق يا سيد جحا.)) من اللوحة الأولى ص16
يبتعد الكاتب عن شخصيات المسرحية بمسافةٍ تمنحها استقلالية عنه، وهذا ما نجده في شخصية جحا، التي تظهر بآرائها وأفكارها شخصية مستقلة، ليس للكاتب أي سلطة عليها، فهي تعيش بمعزلٍ عن الكاتب، وكذلك الأمر في شخصيتي (مم وزين).
ويأتي نجاح الحوار الفني في المسرحية من خلال صور الملائمة بين توافُقِ اللُّغة مع مزاج الشّخصية وانفعالاتها وطباعها أي أبعادها النفسية، وفق تعبير د . نوال السويلم(3)، وهذا ما يلاحظه القارئ في الحوارات القصيرة بين جحا القادم من زمنه الماضي، وحماره الباحث عن زمنه الحاضر، ورغم ترسيخ وحدة العاطفة بينهما، نجدهما مختلفين في الرؤية والموقف، وهذا ما يولِّدُ صوراً من الحوارات السريعة والقصيرة، وكأنّهما في عجلة من أمرهما، وهذه الصفة الحوارية تنسحبُ على معظم مَشَاهِدِ المسرحيتين.
وكما سبق أنْ أشرنا إلى أنّ الكاتب استخدمَ أسلوباً مزيجاً بين الرمزية(الشّكل العام للمسرحية، والشّخصيات في علاقتها مع الفكرة) والمباشرة التي تظهر في حوار الشخصيات ونقدها المرير للواقع، فأما كون الحوار مغلّفاً بالرمز، فيعود إلى قضية استلهام التراث، لأنه هنا يتجاوز الدلالة المسرحية المباشرة إلى الإسقاط على الواقع المعاصر والرمز إليه د. نوال السويلم (الحوار في المسرح …..
          وفي الحوار الفني يقوم الكاتب بمحاكاةٍ فنيةٍ ذكيةٍ مع إحدى مسرحيات الكاتب الدانماركي أندرسن الذي يجعل من الطّفلِ العنصر الكيمائي (عباد الشّمس) الكاشفَ الكيمائي للحقيقة، فيكتشف حقيقة لباس الإمبراطور، حيث يظهر عارياً أمام النّاس، فيصفّقون له قائلين (لباس الأمير من حرير) حتى يرفع الطّفل صوته: الأمير عارٍ، لا لباس يستره، فيتجرأ الجمهور وينطق بالحقيقة رغم معرفتهم بها، بينما هنا في مسرحية(أهلاً جحا) ينضمّ الطفل إلى الجموع المتحمّسة الهاتفة(عاش مولانا الحاكم) بتلقينٍ مجانيٍّ من أمّه.
 ((رجل: جاسوس.
فتاة: عدو.
عجوز: كافر.
جحا: إنّه دمية يابني، إنّه..
الطفل: كذاب.
جحا: لا، لستُ كاذباً.
الحمار: حاش سيدنا الحاكم.
الجموع: حااااش..))من اللّّّّّوحة الثانية ص32
فانضمام الطّفل للجموع، وتكذيبه لجحا، من علامات اليأس القاتم في المسرحية، فالفرد متَّهمٌ بالكذب، والكفر، والخيانة، حيث لا أمل في أيِّ شيء، حتى البراءة الطّفولية، رمز الطّهارة والصّدق، والأمل، هي الأخرى استُلِبتْ، وتمّ تدجين كلّ شيء، لأنّ الطّفل يُلَقَّنُ بغير الحقيقة، وبقول الكذب، والنّفاق، ويأتي تلقينه من الأمّ التي تمثّل له منبع الحنان ومدرسة الحياة.
ليست الطّفولة وحدها التي سُرِقَت، فالضّمير البشري والذّمة والصراحة والصّدق، و القيم النبيلة، كلّها ضاعت، حتى القضاءُ وميزان العدل قُضي عليه، فلم يَعُد القاضي يحكم بالعدل، بل يحكمُ بما يُملَى عليه.
(( جحا: لكن كيف سأؤدي دور القاضي وأنا ..؟!
المخرج: لا عليك. اجلس على هذا الكرسي فقط.
جحا: وهل يكفي ذلك؟!
المخرج: (يغمز الجمهور بعينه كمن يتحدث إلى مغفل) يكفي، طبعاً يكفي.
جحا:(باستغراب شديد) حسن. وماذا بعد؟ ماذا يفعل القاضي بعد ذلك؟
المخرج: لا شيء سوى تكرار كلام الملقن بصوت عال. من اللّوحة الرابعة ص56
يُلاحظ أنّ الحوار جاءَ مفعماً بالحيوية والتشويق، وكاشفاً للواقع المأساوي الذي يعيشه الإنسان، حتى باتَ يُحاكَمُ بلسانِ قاضٍ يردّدُ صدى المُلقّن. جحا الشّخصية القادمة من زمن الحكايات الجميلة، أصبح ظلاً لصوتٍ خفيٍّ يحكم على حياة النّاس، ولمَّا رَفضَ الأمر، كونه الصّوت المدافع عن الحقيقة، و حاولَ أنْ يحكم بالعدل، لقِيَ حتْفَه شنقاً على المسرح، هذا ما نلاحظُه من خلال حوارٍ تميّزَ بجملٍ قصيرة وملغزة.
((المخرج: عميل.
الملقن: متآمر.
الحاجب: غوغائي.
الحمار: حذار يا جحا. أعطِهم العصا.
المرأة: حذار يا جحا.
جحا: اكسروا هذه العصا. اكسروا يا ناس. لا بدّ من أن تكسرها. هيا يا ناس.)) من اللوحة الرابعة ص70.
وفي مسرحية (عفواً ممو زين) يختصر الكاتب معاناة الشعب الكردي في عرضٍ مسرحيٍّ أخذ قالب (مسرح داخل مسرح) حيث ينتظر الجمهور في إحدى الصالات المسرحية عرضاً مسرحياً، فيحاول بعض الممثلين تقديم شيءٍ للجمهور، بعد رفْضِ الرقابة لعرضهم.
(( المخرج: (بعد صمتٍ قصير، بضيق) لقد منعوا العرض.
الممثلة: والجمهور؟
المخرج: قالوا لي : دبر رأسك، اصرف الجمهور بمعرفتك)).من الترقيمة الأولى ص80.
وتتوالى الاقتراحات في تقديم مشاهد من العروض السابقة، ويعقبها الرفض، فمسرحية ( رشو داري) ممنوعة لأنها تنتقد الإقطاع، ومسرحية ( مهاباد) ممنوعة وكفى، و(سيامند وخجي) ممنوعة، لأنّهم سيفسرون تَمرُّدَ سيامند على الآغوات تفسيراً سياسياً.
(( الممثل: ممنوع، ممنوع، ممنوع تقديم شيء من فولكلورنا، ممنوع تقديم شيء من تاريخنا، ممنوع تقديم شيء عن حياتنا، ممنوع تقديم شيء بلغتنا!!
المخرج: اهدأ يا سالار، نحن في ورطة، ولا بدّ من مخرجٍ سريعٍ لها.
الممثل: إذا كنا نريد إرضاء الجمهور، وإزالة احتقانه، فينبغي أنْ نقدّم شيئاً يخصّه.
المخرج: هذا صحيح، لكن شريطة ألا يكون سياسياً.
الممثل: ولا عاطفياً، أليس كذلك؟ ص83….
وأخيراً يتمّ الاتفاق على تقديم مسرحية (ممو زين) القصة العاطفية المشهورة، ومن خلال حوارٍ يتأرجح بين استعارات مكنية وتصريحية، يطرح الكاتب قضية المجرّدين من الجنسية، ومعاناتهم الإنسانية، ويكشف عن الارتباك السياسي الكردي، المتفكّك، والمتشرزم، والمشتّت.
جاء الحوارُ موفّقاً في عرض مشاكل سياسية، وإنسانية، وثقافية، تهمُّ شريحة واسعة من المجتمع الكردي والسّوري. فالحوار هنا يدور بين الممثلين، فتمكّن الكاتب من الابتعاد عن الخطابية بوصفها خطاباً موجّهاً من الممثلين للجمهور وليس خطاباً بين اثنتين من الشخصيات. لا يشعر القارئ (المتلقي) بأنّ الممثل يوجّه خطابه للجمهور، الذي يُعدُّ الطرف الثالث في الحوار؛ فقدرة الكاتب في توظيف الحوار بهذا الشّكل كانت عاملاً من عوامل نجاح المسرحية.
أخيراً يحتاج هذا العمل الفني إلى مزيدٍ من الدراسات النقدية، للتعمّق فيما يطرحه، وهذه القراءة السريعة لا تفي في الكشف عن مكنونات الشخصية المسرحية، ولا تفي بتحليل النّص المسرحي نقدياً، لأنها قراءة فقط.

·        أهلاً جحا عفواً ممو زين ،العمل  المسرحي للكاتب القصصي والمسرحي  أحمد إسماعيل إسماعيل
·        صادر عن دار الزّمان ط1 عام 2009م
·        الإخراج الداخلي من تصميم دار الزّمان ولوحة الغلاف للفنان لقمان أحمد.
·        يقع العمل الفني في 112صفحة من القطع المتوسط.
=============  
1 – طه عبدالفتاح ، الحوار في القصة والمسرحيةص12 – مكتبة الشباب – القاهرة 1975
2 – ( د عزالدين إسماعيل- الأدب وفنونه- ص239 – دار الفكر العربي.
3 – نوال بنت السويلم، الحوار في المسرح الشعري، دار المفردات للنشر – الرياض ط1 2008م.

4 – المصدر نفسه.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…