«أغان على الدرب»

محمد قاسم

إنه اسم لديوان شعر للشاعر:محمد مصطفى عبد الرزاق

وصلني هذا الديوان عن طريق أخي الصغير محمد سعيد ولا ادري كيف وصل الديوان إلى يديه..فقد وجدته من بين ما ترك من كتب بعد سفره إلى السويد..في 5/12/1989 ..ومن المؤسف انه لم يكن كاملا..فقد فقد منه الصفحات الثمانية الأولى..والصفحات ما بعد المائة وثمانية عشرة أيضا مفقودة..ولا ادري كم صفحة هي حتى الآن..وهو من القطع  الصغير..
لماذا اهتم بالديوان؟!
 في الحاشية التوضيحية لقصيدته المسماة”رميلان” في الصفحة 44 من الديوان:
((رميلان هذه القرية الهادئة الرابضة على سفح التل الذي أخذ اسمها منه، هذه القرية تقع إلى الشرق من مدينة القامشلي على مسافة 75 كيلومترا على طريق/ القامشلي اليعربية-الموصل/ ففي عام 1957 كنت معلما بهذه القرية….))”1″
وكنت انا تلميذا في هذه المدرسة ..وكان سني صغيرا “2”
هذا الشاعر-المعلم كان ذا شخصية مؤثرة ..ولها حضورها ..فقد كان جلب معه من موطنه -وقيل السلمية- كل ما يحتاجه من فرش وعدة طبخ وما يتعلق بها.. وكان يعتمد على نفسه في طبخ طعامه وشرائه.. خلاف الكثيرين جدا من المعلمين الذين كانوا يتكلون على أهل القرى الفقراء.. بل ومنهم من يحمّلهم أعباء أكثر من طاقتهم ..بطلب الدجاج والبيض والسمن وغير ذلك.. أما شاعرنا هذا فلم يقبل شيئا من احد. وإذا احتاج شيئا دفع الثمن مقدما عنه..
لم أكن أدرك هذه الأشياء حينها فقد كنت صغيرا.. ولكني كلما كبرت كنت ادرك ما يتمتع به هذا الشاعر- المعلم من قيم.. ومبادئ..
لقد دعاه شيخ القرية الإقطاعي إلى مائدته ولكنه أبى.. فقد كان ذا موقف من الإقطاع. كما استطاع إن يقبض على متهم بالتجسس .. وسخّر سيارة الإقطاعي لنقله إلى الجهات المختصة.. ولا زلت أتذكر الموقف.. وضع المتهم في البيك اب بجانب السائق وركب هو إلى جانبه مما يلي الشباك، ويقال إن المتهم هذا حاول القيام بحركة طائشة بقصد إيجاد مخرج للهرب.. فداس البنزين.. لكنه –او السائق-استدرك الأمر..
وكان بعض الطلاب كبارا –وما أكثرهم حينذاك- فقد كان يوجد بين الطلاب من كان ذا شارب ومنهم المرحوم “حاضر صالح العبو”. و”خضير الصالح” وغيرهما فاختار من بينهم طالبا حيويا ذكيا اسمه “حسن  الخشة” من قرية مجاورة اسمها واري زيف -ربما وار الضيف.. ومعرب اليوم إلى “خراب البوغالب” ويقال لها الصبيحية أيضا.
 فكان يكلفه ببعض الخدمات منها طبخ الطعام له وترتيب الغرفة.. في أوقات لا تؤثر على الدراسة.
وكان هذا يدعوني -وأنا صغير في الصف الأول أو الثاني – لمساعدته.. ولا انسي مذاق شوربة العدس التي كان يطبخها -حينئذ-..وكنا نأكل منها ما يزيد عن حاجة المعلم..!!
كنت ألاحظ  أستاذي وفي يده –غالبا- دفتر صغير وقلم رصاص يكتب به .. وكنت أرى أحيانا بعض ما هو مكتوب بخط ناعم بدا لي –حينها- جميلا جدا.. ولكني لم أدرك سر هذا الدفتر وذاك القلم إلا متأخرا عندما وقع في يدي ديوانه.. فعلمت انه كان يكتب شعرا إذ ذاك..!!
لست ادري- طبعا عن هذا المعلم الشاعر أكثر من هذا.. فقد انتقل من القرية… ولم اعد اعرف عنه شيئا.. وحتى هذه اللحظة..
زعم احد تلامذته -هو زميل لي- أنه التقى شبيها له في السلمية اخبره بأنه أخوه.. وان الأستاذ محمد مصطفى قد توفي.. ولكن لم أعلم من مصدر غيره.. خبرا كهذا..!
في كل الأحوال أدعو له بطول البقاء –ان كان لا يزال حيا.. وأدعو له بالمغفرة والجنة –ان كان الله قد توفاه إليه.. وأنا آمل من كل من  يعلم عنه شيئا أن يمدني مشكورا بما يعرفه عنه..
فقد وجدت من بعض التقدير لأول معلم تعلمت على يديه الحروف والكلمات ، وحزت على أجمل انطباع عن المعلم والتعليم… أن اكتب كلمات متواضعة تذكّر به وبديوانه –وربما له دواوين أخرى  ..!- لعلنا نستعيد ذكرى رجل أحسن في أدائه عمله.. التعليمي –على الأقل – في الفترة التي عرفتها عنه… بل وإن مضمون ديوانه يشعر بهذا..!
عناوين قصائده هي :
نحن جند الحق -أيها اللحن المدوّي-نحن- فهنا وهناك- لا تعذليني- الجبل الخضر-الجزائر-وطن الأباة- نحن عبّدنا طريق الشمس-غاية الحر- درب الخطر- عزة المرء—خفي-هلمي- رميلان- هو الزمان- هذا سبيلي- سبيل المجد- خاطر- يا سرايا الوحدة الكبرى-  قنبلة- اصغريك- وتمضي الحياة-  نأينا عن منازل- لا تلمني- ترّهات السياسة-  انطلق للخطر- تنحوا- محال- الأضواء- ههنا رينا( ربما تكون ربينا)-شعاف الذرى- الأفاك-ترهات- الحرف المسطور- صحوة الإثم-  لقاء مع إبليس- ربي-ترّهات المقاصد- مع القهر عمري- نار وظل- عرف الحجر- ويك يا ليل الحياة- اعلم الأنفس- حلم تذرى-مآسي الحياة- يا كياني- في خاطري –رحماك- أنعود- في ضميري- مضلات- الضياع اللانهائي-نعيش السؤال- تشرد- عبدت أيامي- ناولني اليراعا- تشابهت أيامنا – بدور- ما الحياة- سراب- أصداء عمري- في عباب المحال- عتاب- رحلة-موجدة على وهم- عبثا-  ترفق ايهذا القلب- الجمال- يا أخي   -الحب من ألم-  ضياع-
وبملاحظة هذه العناوين نلاحظ ان سمة الجدية غالبة على موضوعاته، ومعظمها –كما يُلاحظ- وطنية- قومية… وفيها من الحكمة الباقي إلا بعض مناجاة جد قليلة في موضوعات أخرى كالحب هي أيضا فيها الحكمة أكثر مما فيها من الشعور..
وربما كان أطول قصائده هي تلك الوطنية مثل:
نحن جند الحق 61 بيتا-أيها اللحن المدوّي أكثر من 90 بيتا –نحن عبّدنا طريق الشمس  80 بيتا- يا سرايا الوحدة الكبرى 62 بيتا ..وهناك فقط بيتان او ثلاثة أبيات او خمسة أيضا مثل: دعاء-محال-مآسي الحياة بدور- كل منها فقط بيتنا..
رحماك- في ضميري-معضلات-حلم يتكسر  بين 3-5 أبيات…
وبينها قصائد تفاوتت قصرا وطولا واغلب الباقي اقل من عشرين أبياتا ما عدا قصيدة إبليس وهي مناجاة تحد مع إبليس..فطولها 48 بيتا ..
ومن الملاحظ أن الكثير من قصائده على نمط رباعيات الخيام-او إذا شئنا الدقة نظام “الدوبيت” المؤلف من أربعة أشطر..
..كما يمكن ملاحظة انه تنقل بين أكثر من مدرسة في الجزيرة .. فهو يضع تاريخ 1957 لقصيدته رميلان – حيث كان معلما في قرية رميلان الباشا- وقد سبق شرح ذلك.. وفي عام 1962 كان في رأس العين حيث كتب قصيدته “أيها اللحن المدوي” الأطول، وفي العام 1963 كان يعلم في “اليعربية” وهو اسم معرب من “تل كوجر” كما سبق القول أيضا.. حيث كتب قصيدته الطويلة “نحن عبّدنا طريق الشمس” ..
ويمكننا استنتاج أنه كان في الفترة ما بين 1957- و1963 كله معلما في الجزيرة متنقلا من مكان إلى آخر.. ولا ندري هل بناء على طلبه ام انه نقل خارج عن إرادته..
ما يمكن القول هو:
إن هذا المعلم كان نبيلا وشاعرا وعصاميا.. ويبدو انه لم يكن حزبيا بدلالة قصيدته “ترهات السياسة” ص 59 ، والتي يقول فيها:
أعيذك يا نفس من ترها=ت السياسة والافك لا تُخدعي
ومن قولة نفثتها الأفاعي=ومن طغمة غثة المنزع
ومن معشر من أناس صغا=ر عضاريط كالحمر في المرتع
وخلّي الحقائق درب الحيا=ة وذرّي الأباطيل في البلقع
فما الخلق بالظلم أن تقبلي=ولست من العزم إن تركعي
ولكن كلمة ترد في قصيدته “يا سرايا الوحدة الكبرى” تشير إلى اتجاه اشتراكي لديه.. وهذا ما حدا بالبعض –بعدئذ-أن يصنفه بين البعثيين.. ولكن لا يبدو شيئا من ذلك في سياق قصائده ربما كان الميل قويا الى العروبة –قومية- والحرص على الوحدة العربية.. والشعور بآلام الأقطار الأخرى كالجزائر التي قال فيها أيضا قصيدة بعنوان الجزائر عام 1955 .. وقصيدة “الجبل الأخضر”..وغير ذلك..فظن الناس ما ظنوه متأخرا..
يقول كل عبارات الحمية القومية والوحدة واسترداد الجزاء المغتصبة ويدعو للاشتراكية ويشيد بثورة آذار ولكن لا ترد كلمة بعثي في كل القصيدة ولم ألحظها في القصائد الأخرى ايضا..!
انه يجاهر بكونه عربيا وحدويا مثله مثل كل أبناء الشعب العربي الذين يطمحون إلى الوحدة ونتائجها الايجابية دون أن  يبدو عليه منتميا إلى حزب بعينه.. ولكن كل خطوة يظنها تصب في غاياته فهو يقدرها..
كما أن الميل الفلسفي متجل في مناجاته وفي بعض قصائده ، فمثلا يقول في قصيدة “عبثا”:
عبثا تمر بي السنون وتمّّحي في ذاتيهْ
عبثا تضجّ بي الشجون تثور في أعماقيهْ
عبثا أُيقّظ نفسية لكنها متغافيهْ
..وهذا تفلسف واضح..
وفي قصيدة “أصداء عمري” يقول:
أمسي ويومي وغدي=أصداء عمري المجهدِ
ليلي،نهاري مغلقان=على إطار ٍ أسودِ
أعيش في ظلا=م أزلي سرمدي
ما مشرق الشمس وما=مغربها لا اهتدي
قد ضل يومي في ضبا=ب الحزن خلف تهجّدي
ويحٌ لأمسي وغدي=واها ليومي المربد
رحماك يا خلاّق هل=لي في اللظى من منفد
وفي البيت الأخير إشارة واضحة إلى إيمانه بالله تعالى ولجوئه إليه طالبا الرحمة..
وهناك إشارات أخرى إلى تفلسفه..فكريا إلى جانب كونه شاعرا..ولكن الشعر كان الأغلب بالتأكيد.

“1” رميلان اسم تشترك فيه قريتان إحداهما رميلان الباشا أو رميلان الكبير أو رميلان تحتاني…وهي التي كان الشاعر يعلم فيها، ويسكنها شيخ قبلي اسمه باشا العواصي..ويقصده الشاعر في قصيدته..والقرية الثانية اسمها:رميلان الشيخ أو رميلان الصغير أو رميلان فوقاني…وكنت احد الذين يذهبون من رميلان الشيخ مع عدد من التلاميذ إلى رميلان الباشا للدراسة في مدرستها..على يد هذا المعلم الذي كان وحيدا..وكان الدوام في المدرسة،  على وجبتين :قبل الظهر يبدأ من الثامنة صباحا وينتهي الثانية عشرة إلا ربعا..وبعد الظهر يبدأ في الثانية إلا ربعا وينتهي حوالي الرابعة. وأما اليعربية فأسمها الأصلي هو “تل كوجر” ثم حرف مع التداول الى تل كوجك،واخيرا عرِّب بدافع سياسي  الى “اليعربية” لعزلها عن معنى “الكوجر” وهي كلمة كردية تعني البدو..الأكراد..وكانوا يتنقلون ببين هذه المناطق من سنجار الى” زوزان” في الجبال الشمالية لكرستان تركيا..ورميلان هي ذاتها التسمية التي اطلقت على مركز انتاج البترول والذي غيِّر الى حقول الحسكة..كنوع من التعريب ايضا.

“2”  قبلت في المدرسة بدون ضوابط قانونية كما هو الشان في الريف ولكني عندما انتقلت الى ديرك اعادوني الى الصف الثاني بعد أن كنت قد اجتزته بتفوق، لصغر سني حينذاك..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…