كثيراً ، ما تردّدت عن الكتابة عن الشاعر محمد علي حسّو ، الذي عرفته منذ مطلع شبابي ، قبل ثلاثة عقود و نيّف ، وتحديداُ في صيف 1976 ،عن قرب ، تماماً ، متعلّماً منه أشياء كثيرة ، بحقّ ..!
و لعلّ أول الكتب التقدمية – كما أصبحت الآن تهمة – كنت استعرتها من مكتبة هذا الرّجل ، الذي سمعت منه لأول مرة أسماء: غوركي بابلو نيرودا – لوركا – ناظم حكمت ، وغيرهم ، و كنت أقبل بنهم كبير،على مقتنيات مكتبته.
و يبدو أن أبا هفال ، بدوره ، حين علم أنّني قادم من بيئة دينية ، صار يولي الاهتمام بي أكثر ، لا سيّما عندما كنت أطلعه على أول المقالات التي كنت أكتبها ، و أقرأ على مسمعه أولى قصائدي باللغة العربية، وهو ما جعله يضع بين يدي كتباً كردية ، كي أقرأها ، و يصطحبني معه، ذات مرة، لزيارة جكر خوين ،وألتقيه ، وجهاً لوجه للمرّة الثانية في حياتي ، وفي بيته تماماً، حين سألني عن أسرتي ، ليقول لي : جدّك كان شهيراً. ! ،و لأتردّد عليه – في ما بعد – كثيراً مع فتاة كانت تكبرني سناً ، إلى أن أتفاجأ – تالياً – بسفر جكر خوين إلى أن يعود إلينا في العام1984 ، جسداً ، نستقبله ، كي نشيعه إلى مثواه الأخير ، في بيته نفسه، الذي طالما جلسنا إليه ، فيه، وفي أولى جنازة مهيبة ، عرفتها مدينة قامشلي، التي طالما حن ّ إليها ، وتخيّرها لتكون عنوان جسده الأخير ، كما كانت عنوان قصيدته، ونضاله، الأوّل ….!
أعترف ، أنّني في لجّة انخراطي في العمل السياسي ، اضطررت إلى أن أعيش في عالم آخر ،منبهراً به حتى النخاع ، بيد أن أبا هفال ، ظلّ من هؤلاء الذين حافظوا على ذلك الخيط الذي بيننا ، دون أن يقطعه ، حتى و إن كنت في أحايين كثيرة أضيق ذرعاً بحدته، في مواجهة من حوله ، طالباً منه دائماً محاورة الآخرين بهدوء إلا أن أبا هفال الذي قرأ – بييرزلاموف – في مطلع شبابه ، و استهواه تمثّل هذا البطل في صموده في السجن ، إزاء موجهة أزلام القيصر،من خلال تثقيب قدمه- بيديه وبوساطة مثقب ، ليتعلّم بدوره جرأة مواجهة السجّان – كما قال لي ذلك – ظلّ ينظر إلى الأمور من خلال مفهومه ، إذ لا منزلة وسطى لديه بين منزلتي: الخير و الشر ، و هو مازال متمسكاً إلى الآن،بوجهة نظره، كما أزعم ، و إلا ، فأليس هو نفسه، من دفع بابنته نالين، لتستشهد فوق تراب شمالي كردستان، بعد موقف بطولي قامت به ورفاقها، حين رأوا أنهم محاصرين ، ملاحقين ، ولا بدّ من قول كلمتهم ، بصوت مدوّ ، عال، كي يترجم رؤاه، واقعاً، سواء أاختلفنا معه ، أم وافقناه ..!؟ .
وشاعرنا أبو هفال دخل السجن ستّ مرات، خلال حياته ، ووصلت مدّة سجنه ذات مرة إلى السنة، وأخرى إلى ستة الأشهر ، وكان أن تمّ حرق سجن الحسكة المركزي ، في هذه المرة الأخيرة في آذار 1993، فنجا من هذه المحرقة ، بصعوبة ، مع آخرين، وراح ضحية ذلك، كثيرون ، في المقابل، من أبناء شعبنا.
وكان من عداد من معه في سجنه في ستينيات القرون الماضي ، نور الدين ظاظا وجكرخوبن وأوصمان صبري ومجيد حاجو، وآخرون.
و محمد علي حسّو، كان يحافظ في داخله على المعادلة الصّعبة في نهجه الحياتي ، فهو إنسان بطبعه، بيد أنه -أوّلاً و أخيراً- لا يمكن له إلا أن يتبنّى قضايا قومه ، ضمن فهمه الثّوري، لتبني قضايا الإنسانية، جمعاء ، و من هنا ، فإنّه وجد نفسه شيوعيّاً ، دون أن يتقدّم بطلب انتسابه لهذا الحزب ، العملاق، في حينه ، مع أنه نفسه سعى لتنظيم كثيرين على يدي جكرخوين الشيوعي – غير المنظّم بدوره – في صفوف هذا الحزب، وهي أسماء كوكبة ستصبح ، لاحقاً من نواة انطلاقة البارتي، كما أنّه لم يتقدّم بطلبه للبارتي، نفسه ، مع أنه سيصبح مسؤولاً عن تنظيمه في حلب، بكاملها ، و يدخل السجن تارةً كشيوعيّ ، و تارة كبارتيّ ، و يعود إلى نشاطه دون أن ييأس ، فهو الذي رئس خفر عفيف البزري، ممن انتقاهم من الكرد حصراً وهو الضابط الأممي – حين كان ضباط الجيش يمارسون نشاطهم بالمئات ، ضمن الجيش السوري، إلى أن يدعو جمال عبد الناصر لحلّ الحزب الشيوعي ، دون جدوى، و يعمل على طرد الضباط الشيوعيين، و الكرد، من صفوف الجيش، و هو ما دعا البزري للكتابة في أحد مؤلفاته، عن ذلك ، مؤكّداً أنّ عبد الناصر كان أوعده بعدم المساس بالشيوعيين ، على اعتبار أنّه- البزري- كان رئيس الأركان ، و كان شكري القوتلي رئيساً صوريّاً ، لسوريا .
وشاعرنا محمد علي حسّو ، اسم يذكر بأسماء كردية باسقة، في ميادين الأدب و الثقافة، و السياسة، فهو الذي كان قريباً إلى أوصمان صبري ونورالدين ظاظا وهجارموكرياني وقدري جان وجمال نبز وعزالدين مصطفى رسول ،وآخرين كثيرين جدّاً ، كما كان جدّ قريب من جكرخوين ، الذي يحلّ ضيفاً ،عليه، في بيته، بدمشق ، كلّما سافر إليها ، بل إنّه أقام عنده ذات مرّة، عدة أشهر متتالية ..!.
و لكم أحسّ بالمرارة، لأنّني فشلت في إقناع أبي هفال ، بكتابة مذكّراته عن حقبة تاريخيّة مهمّة ، بينما كان في أوج عطائه ، و هو ما دفعني لأن أطلب منه أن يكتب لي في كلّ يوم، مجرّد صفحتين ، و يقدّمها لي، لأصوغها لغوياّ ، و لقد فعل الرّجل ذلك لأيام ، فحسب، إلا أنّه لم يكمل ما بدأه، وهو ما أشعرني بالألم لأنه ممن لا يتورعون عن قول الحقيقة ، حتى عن أنفسهم ، بعكس من يكتبون مذكراتهم كما يريدون، لا كما كانت حيواتهم .
و محمد علي الذي أخذ النضال السياسي جزءاً كبيراً من حياته ، كان يرى في طباعة مؤلفاته أمراً غير ذي أهمية كبرى ، رغم أنّني كنت ممن استحثّوه على ذلك ، خاصة، حين علمت أنّ أكثر مجموعة شعرية له ، ضاعت، في ظروف النضال السرّي ، حيث إحداها ضاعت حين كانت في عهدة الشخص الأول، في أحد الأحزاب الكردية – آنذاك – و الثانية ضاعت، عند أديب كردي، معروف ، راحل ، و كان ضياع تلك الآثار خسارة كبرى للمكتبة الكردية ، إلا أنه لم يطبع إلا في التسعينيات ديوانه الأول ، تحت إلحاحنا ، من حوله، و هو الذي نشرت قصائده في الخمسينيات باللغة العربية، في جريدة النّور ، إلى جانب ما كان يكتبه منذئذ بلغته الكردية، الأم ..!
أجل ، حين أكتب –الآن- عن صديقي- أبي هفال – الذي اختلفت معه ، و ما أزال ، في بعض المواقف، ، فإنّما إنّني أحاول أن أسدّد جزءاً من دين روحي له، بذمّتي ، ناهيك عن أنه ممن سميّتهم في بحث لي قدّمته لإحدى الجامعات الأوربية- مؤخراً- عن الأدب الكردي في مرحلة ما بين 1948 – 200 أحد الأسماء المهمّة التي دارت في الفلك الجكرخويني،و كان لها تأثيرها الخاص، و علاماتها الفارقة، لدى كل منها على حد سواء.