بشيري قلعو

عبدالرحمن عفيف

هكذا حين أنظر إلى بشيري قلعو اسمه الذي ينتمي إلى قلعة بناها أبواه على تلّ شرمولا. شرمولا آتية من كلمة الشرم التي تعني العار والقلعة كانت سابقا مبنيّة بالوحل وشبابيكها من الزبيب على هذا التلّ العار. نظرات قلعو تائهة تراقب جنودا مدججين بالوقاحة والأسلحة. الأرض باهتة والعالم. ثمّ حاولت أن أميّز بين المجنونين، بشيري قلعو وشوربلّو أو شيربلّو بتشديد اللام. بشير ينتمي إلى قلعو، هذه الكلمة التي ربّما مشتقّة من كلمة قلع العربيّة. الجنون أيضا نوع من الاقتلاع. ولم يتحدّث أهالي عامودا يوما عن قلعة من الزبيب وشبابيكها من الوحل ودرجاتها من الأعشاب. تحدّثوا يوما عن قلعة فقط درجاتها من العندكو.
ولم يكن لعامودا سور يحميها من العدوّ والعدوّ في مركزها منذ البداية. عدوّ أصاب سكّانها أعني أكثرهم بالجنون المشتقّ من كلمة الجنّ ومنهم فقط العبقريّ أو المجنون. وبينهم شارع فقط. على الأغلب رأيت بشيري قلعو وشوربلّو أو شيربلّو. للاسم الثاني صيغتان، الصيغة الأولى مشتقّة من الشوربة وهي على الغالب شوربة عدس والصيغة الأخرى تعني الحليب بالكرمانجي، لهجة عقلاء ومجانين مدينتي. ما يصعب عليّ الآن هو أن أميّز بين الشخصين بشيري قلعو وشيربلّو وأصنّف درجات جنون كلّ واحد منهما وأخرج بتميّزات الواحد عن الآخر. أظنّ بشيري قلعو كان هو صاحب الفستان البنيّ بنظرات ضاحكة وفم ضاحك على الدّوام وعمره أربعون عاما ورأيته مرّة في سوق البلدة والأخرى أثناء موسم تطيين أسطح البيوت في الخريف. وأين رأيت شيربلّو وألم يكن بشيري قلعو هو شيربلّو نفسه. كنت أرى مجنونا آخر يرفع ساعده على الدوام أمام رأسه، حاميا نفسه من ضربات ستنهال عليه، أكان هو شيربلّو؟ لغز آخر لا أتخلّص منه: إذا كان هذا الشخص الخائف هو شيربلّو، لِمَ، واسمه أسد بالكردية، كان يخاف هذا الخوف!؟ وهذا الأخير، رأيته مرّة على شارع الدرباسيّة، مرّات في الملعب البلدي المهجور، ومرّات أخرى ثانية على شارع الدرباسيّة. هكذا أكثريّة المرّات على شارع الدرباسيّة، قريبا من بيوت الخربكافريين. هل كان هو أيضا ينتمي إلى الخربكافريين مثل هوارو؟ هل كان هو مجنونا آخر بحدّ ذاته، لم يعرف على نطاق أوسع مثل اسماعيلي دين أو خلفو؟ كان في أطراف شارع الدرباسيّة، أكيد أنّ بيتهم يقع بالقرب من هذا الشارع. والمجانين يعيشون مع عائلاتهم، يمضون النّهار على الشوارع والليل في البيوت. سوى أبو بابل فإنّه كان ينام في مكان ما بالقرب من المقبرة. وبيتهم أيضا كان بالقرب من المقبرة، فيحسّ بطمأنينة هناك وأبو بابل من المجانين الشرسين، يخاف منه المجانين الآخرون. حصل أن كان خلفو وهو جارنا ابن لأوسي شارو صاحب المزمار وأخته ليلكا ومرّكو وصباحي أو صبّو، حصل أنّه كان يقعد على صندوق من صناديق البقّال عفدكي وجاء أبو بابل وركل الصندوق بكلّ شراسته فجفل خلفو وارتعب أيّما ارتعاب وغادر المكان كمن ينجو بجلده. رحم الله أوسي شارو، خلّف من بعده لنا خلفو، كأنّه لم يرد أن يتركنا إلاّ ويترك لنا مزمارا آخر، ابنه الذي أودع فيه كامل سرّه. ولدغ عقرب رجل خلفو فلّفه بقطعة لبّاد بحجم سجّادة صلاة كاملة. حيث اللبّاد دواء ناجع ومضادّ فاعل في سمّ العقارب.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…