قصة ابراهيم محمود
لا أدري منذ متى أكره أبي، حيث لا الزمان ولا المكان يسعفانني بذلك. جل ما أعرفه هو أنني أكرهه فحسب. إنه لا يفارق مشاعري وأفكاري، ويمنعني من التفكير الحر، وحتى بالقليل منه، وحتى النوم بعيداً عن القلق والكوابيس التي تنتظرني باستمرار.
أتكلم وأنا ميت. للعلم أنا ميْت منذ زمان، موت حقيقي، وموتي هذا غير مؤرخ له. ربما مت من لحظة التشكل جنيناً، حيث جبروت أبي . عشت في قبر مفتوح، وهأنذا في قبر مغلق ومعتِم !
إنها حكاية أبي، حكاية ليست كأي حكاية: كان ياما كان، حكاية وليست بحكاية، فهو مازال موجوداً، مازال حياً أنّى التفتُّ، كما لو أن آلاف، لا بل ملايين، وربما ملايين الأشخاص في شخص واحد، وهي قدرة خارقة لا تتأتى لأي كان، فرض نفسه علي وكتم أنفاسي .
ملخص الحكاية، أنه مهووس بما هو أسطواني، لعل شكله الأسطواني سبب داعم لهذا الهوس. لا أظن أن هناك من يضاهيه أو ينافسه في تعلقه الشديد بما هو أسطواني. البيت الذي عمَّره على هيئة أسطوانة، الأشجار التي يقلّمها يبذل جهوداً جبارة لجعلها أسطوانية. ملأ جدران البيت الأربعة بأجسام أسطوانية، وأنّى اتصلت يده، يستخدمها بتلوينها والتخطيط له دون كلل أو ملل.
الغريب في الأمر أنه في كل مرة يشير إلى ما يخصه تحديداً، إلى ذكره، وهو يعتبره الأسطوانة الحافظة والمبقية له . لكم يتباهى بذكره! إذ لا يكف عن الإشادة به، وهزّه في وجوهنا كلما استشعر مضايقة له . إنه مريض، ومرضه مزمن.
حاولت مراراً وتكراراً ثنيه عما هو فيه: سايرته، طاوعته في بعض الأمور، جافيته، قاطعته لعله يرتدع ذاتياً، لاطفته …فلم أفلح. هذا هو أبي الذي أعيتني كل الحيل في معالجته، بعد مداراته طويلاً .
ألح عليه بالسؤال: ما جدوى كل هذه الأشكال، الصور، المنحوتات الأسطوانية، الخطوط العريضة العائدة إليه، وبما تتباهى به ؟ يهز إصبعه في وجهي مستهزئاً ومستمتعاً بوضعه :
ستفهم عندما تكبر ! اخرج من قبر المجردات .
ولكنني كبير بما يكفي لكي أفهم كل شيء يعنيك ؟
يقهقه في هذه الحالة والحالات المشابهة، وهو يردد: أنت تفكّر بالحساب، بالمجرّدات، فكّر بالصور ستعلّمك سريعاً.
تلك حقيقة، لكم يكره أبي الحساب، حساب الأرقام، إذ إن لغته مدججة بالصور البلاغية، بالأوصاف والمجازات. قال: تكفيني الصور، وأنا أكبر من الأرقام جميعاً ..
ليس لي علم بعمره، فما أعلمه هو أنني أنا نفسي لم أعد أعرف متى ولدتُ، فعندي أحفاد وأحفاد أحفاد أحفاد، وهم مثلي مصابون بذات العدوى: لغز حكاية أبي.
لقد تضاءل حجمه، شكله، ورغم ذلك لا يكف عن التهديد والوعيد، كلما ذكّرته بما يجب فعله دون جدوى.
صارت عمري قروناً، حقباً، وأنا أنظر إليه، أراه في كل الجهات، إذ لم يعد يشبه أي كائن. أقول له بلغة السؤال: هل نظرت إلى نفسك في المرآة ؟
وما حاجتي إلى المرآة، إذا كنت أنا المرآة؟ يقولها بسخرية لاذعة ، وهو يطبطب على ذكره المتناهي الصغر .
أتذكر أن آخر ما قلته له: لقد كبرتُ كثيراً، ورأيت عوالم كثيرة، ألم يحن وقت الإجابة على سبب تعلقك بالأشكال الأسطوانية الموزعة في كل مكان، كان جوابه القطعي: ستفهم عندما تكبر .
عظامي الآن رميم، ومازال أبي يعيش ويتنفس ملء ذكَره في كل مكان !