الجهة الخامسة «حول كتابات الراحل رزو أوسي».. الحلقة الحادية عشرة : صنعة التراث، وبدعته في الكتابة :

ابراهيم محمود
ثمة العديد من الموضوعات التي تدخل في باب التراث والفولكلور، تعرَّض لها الراحل رزو أوسي، ما بين دراسي، وقصصي، ثم قصصي- شعري للأطفال، وحكائي أيضاً، وقد توزعت في صفحات متفرقة من هذا المجلد، لكن تبقى دراسته المعنونة بـ”تربية الأطفال ورعايتهم في المجتمع الكردي –صص119-151 “، معرّفة تحديداً بموقفه من التراث والفولكلور عموماً وبالنسبة للكرد خصوصاً. السؤال: هل من جديد يستحق التقدير الفعلي في هذا المضمار؟
من وجهة نظري، وحتى لا يُظلَم الراحل فيما انشغل به، يمكن القول أنه بذل مجهوداً ملموساً في هذا المجال، سوى أن المشكل قائم في محتوى ما كتبه. إذ كما نوّهت سابقاً، فإنه لم توضَع قائمة بأسماء أعماله التي تركها وراءه: ما هو كامل، وناقص، أو شذرات، أو عناوين، أو إشارات، أو خربشات، وقد غاب الترتيب ليزيد البحث في كتاباته تعقيداً، ولهذا أشدّد على ملاحظتي هذه، وبنوع من الاستغراب أيضاً: كيف أمكن للمعنيين بكتاباته أن يطرحوا مجلداً بمثل هذا التفكك؟ ألم تكفهم عدة سنوات في أن يشيروا ولو من خلال مساحة ورقية محدودة إلى أعماله المفصَح عنها؟ على الأقل، ليكون في مقدور أي باحث يعنى بأمره لحظة التعرض لها، أن يأخذها بعين الاعتبار، وما لها وفيها من دلالة وحضور أدب، وهو إزاء بعض منها، وهي بين يديه، ليكون أكثر تروّياً في المقاربة النقدية، أكثر مراعاة لما كتبه، ومن ثم متجنباً لتلك الأحكام المقدَّرة على ما يبحث فيه، طالما أن هناك إشارات إلى وجود  ينتظر الطبع مستقبلاً.
لا شيء من ذلك، ومن هنا، فإن أي مكاشفة نقدية، أو مقاربة تكون في ضوء المقروء في هذا المجلد، كما في حال الدراسة الآنفة الذكر، وهي تنيف على الثلاثين صفحة.
ما الذي يمكن أن يقال بصدد هذه الدراسة، حيث استغرقتها مقدمة امتدت خمس صفحات؟
أولاً، من فضيلة الدراسة أنها سعت إلى الإحاطة بجانب مهم، وهو الإطار التربوي للطفل عموماً، والكردي منه خصوصاً، وفي مجتمع محكوم بالآخر، على صعيد السلطة.
ثانياً، ومن فضيلة الدراسة أنها نوَّهت إلى امكان الاستفادة مما هو مبثوث في نصوص أدبية: شعرية قبل كل شيء، لجعلها متاحة للقراءة من ناحية، وربطها بالمستجدات ومدى صلتها بالراهن من ناحية ثانية، كما في حال النص التربوي الشعري لأحمد خاني ” 1651-1707 م”، وهو ” Nûbuhara  Biçûkan : ربيع الأطفال الجديد ” ومن خلال ” الحُجْرات  “.
ثالثاً، ومن فضيلة الدراسة أنها لفتت الأنظار إلى إمكان التعرف على وحدة ” الشخصية الكردية ” لدى خاني، انطلاقاً من الربط بين ” مم وزين ” والأخيرة ” نوبهارا بجوكان “.
إنما ما ينبغي التوقف عنده، ومراعاته، إو إمكان مراعاته، هو التالي:
أولاً، الحذر من تناول ما كان كردياً، ومن خلال عبارة استخدمها الباحث، وهي ” الموروثات الكردية jêmayên gelerî، ص 120 “. وجه الحذر، هو أن ما كان أو يكون تراثاً ومن ثم فولكلوراً للآخرين بمفهومه الماضي، ليس كما هو الحال للكرد، والدليل، وعن قرب، ما استوقف الراحل، انطلاقاً من كون الثقافة الكردية شفاهية إجمالاً، وبالتالي، فإن مفهوم ” التراث” إلى جانب ” الفولكلور ” له بُعد حيوي آخر للكرد، لفهم أكثر من بُعد تاريخي واجتماعي لهم.
ثانياً، الحذر من التعامل معه بوصفه يستجيب لنا كما نريد، وفي ضوء الراهن” هو نفسه ينبّه إلى نقطة كهذه، ص 120 “، أي كيفية تناول ما كان في إطاره الزمكاني.
ثالثاً، معرفة الجدوى التربوية لما كان ونظيرته راهناً، وكيفية الاستجابة للتحديات في الحالتين.
لدى أوسي يختلط الجانب الانطباعي بالتاريخي بالتربوي، من ذلك التأكيد المكرَّر على أهمية المرأة الكردية وهي تربّي صغيرها ” كانت الأم الكردية تعرف كيفية رعاية صغيرها تبعاً لظروف حياتها ومجتمعها، في نطاق وضعه في القماط، وغسْله والحرص عليه، وكانت تعطّر قماطه دائماً بالقرنفل والروائح الأخرى..ص 123 “.
إنما ذلك لا ينبغي أن يعمَّم، وألا يحول دون معرفة الظروف البائسة التي تعيشها الأم الكردية هذه، ومن خلال تنوع أوضاعها، أعني بذلك لزوم مراعاة التفاوت، وفي مجتمع ليس واحداً.
التشديد على جَلّد/ صبر هذه الأم لا يقتصر عليها وحدها، حيث تبرز الأم عموماً في موقع كهذا، وما تناوله أوسي بالكاد يتعدى حدوى الانطباع وأحاديث المضافات أو المجالس، وما يقوله من باب التأكيد ثانية لا يعني وجود ظاهرة علمية موثَّقة في الزمان والمكان ” نعم، ربَّت الأم الكردية صغيرها بالطريقة هذه وهي بسيطة، أمّية ومن ثم رعتها .ص124 “، وقد اكتفيت بالترجمة ما يفيد هذا المقام، لأن هناك تكراراً في المعاني، كما في :
Belê, diya kurd gêl, kewden, nezan û ne xwende zaroka xwe bi vî rengî xwedî dikir û guh diyayê.
لاحقاً، يأتي اعتماده على خاني في نطاق إبراز مقدرة الشاعر وارتباطه بأهله وناسه، إنما لغته الكردية بصورة رئيسة، وكيفية الربط بين العربية والكردية عن طريقة التقابلات نظماً، وفي السياق نفسه ما يجعل العلم محقّقاً لنصاب الحياة ومعرفة الآخرين.
يتتبع أوسي مجمل ما يتعرض له خاني، وكيفية تلقين الطفل اللغتين بأسلوب الحجرات، كلمة مقابل كلمة، مع تكرارها حتى يتسنى للطفل الحفظ ومن ثم فهم المعنى مع الزمن.
كما في :
Ebkem çi lal e, e,rec çi leng e
Yekçav e e,ewer, ekmeh xwe kor e
الأخرس ثم الأعرج ومقابلهما الكردي، وهكذا الحال بالنسبة إلى الأعور والأعمى “ص141 “.
ومثال آخر:
Te,alû serî,en, werin hûn bi lez
Fe hazhi cennet, eve ha ye rez
تعالوا سريعاً، ومقابلها الكردي، وهذه جنة ومقابلها الكردي ” 141 ” كذلك.
ويظهر أن خاني يهتم بتقريب المعنى أحياناً وليس الدقة، وينشغل بمتطلبات الوزن للضرورة، وهو ما لم يتنبه إليه الباحث، كما في الشطرين الأخيرين:
ففي المقابل الكردي يكون المعنى: أنتم تعالوا سريعاً. بينما المقابل الدقيق: تعالوا سريعاً، أي :
werin bi lez. وفي الشطر الثاني،يكون المقابل العربي: إن هذا كرْم العنب، وربما كان من المفترض أن يكون المقابل الكردي على الأقل: Fe hazî rewdet .
ذلك ما نتلمسه في مثال آخر، وكما ينقله إلينا أوسي بالنسبة إلى ضمائر متصلة”ص 142 “:
,Eleyke, li ser te, ,leyye li min
,Eleyhî, li ser wî, we minnî ji min
,Eleyna, li ser me, , ,eleyhim li wan
,Eleykum, li ser we, xesaret ziyan
إنها ” عليكَ- عليه- علينا- عليكم “. وهنا، أيضاً، أما كان يفترض أن يشير إلى ” عليك ِ- عليهُما- عليكن ؟” من باب التمييز بين المذكروالمؤنث، عدا عن أن eleyhim، هي eleyhum ؟
في نهاية الدراسة يثبت ملاحظات له، في صيغة أسئلة عن تكتيك التعليم لدى خاني، وما يجب أن يكون عليه أسلوبه، من ذلك تحديد الأسلوب الأمثل في مخاطبة الطفل، وإمكان نقل ما يعتقده مباشرة إلى الطفل وبصورة واضحة، ووجود مرادفات ناقصة…الخ ” ص 149 “.
وفي نهاية دراسته يدعو أوسي، وهو متأمل من ذلك، أن ينبري باحثوه ودارسوه وعلماؤه للتصدي لتلك المسائل التي طرحها خاناً، وكسْر القوالب القديمة في حجراتيتها..”ص150 “.
لعلها دراسة هادئة في بنيانها المعرفي، ولكنها ليست بدعة في نظرتها وتناولها لـ” نوبهارا بجوكان “، إذ إنه كان ينبغي مكاشفة ذهنية خاني الاجتماعية والنفسية إلى ما حوله، ومدى ارتباطه من ناحية ثانية بذلك ” السيستام: نظام الخطاب المعرفي ” الديني الذي كان يسود عصره، وما أمكنه إنجازه على مستوى تقريب هذا السيستام من الواقع اليومي أكثر .
في الجانب الآخر، وهو المتعلق بالشأن الأدبي، وتحديداً: القصصي- الحكائي والشعري، يشار هنا إلى أن أوسي انشغل به، على الأقل من خلال مجموعة من العناوين الواردة في هذا المجلد، وهي موزعة في ثناياه، بدءاً من عناوين في ” مهاميز “، كما في : البوابة ” ص 154 “، ” العصفورة الذهبية، ص 293 “، ” الذَّيل المنتصب، ص 301 “،
وما هو حكائي ” اسماعيل دِين، ص 165 “، ” الفروة، ص 176 “، ” الإثفية، ص 179 “، ” المسافر، ص 188 “، ” ثلاثة لصوص، ص 307 “، ” الحمار ذو الظهر المتقيّح المدوَّد ، ص 322 “…الخ.
في السياق نفسه، يمكن اعتبار البنية الأدبية لمجموعته القصصية ” اجتماع الأحذية ” والتي سنتوقف عندها لاحقاً، متأثرة بالمناخ الحكائي ومن ثم القصصي الشعبي في محيطه، ومن خلال قراءاته في الأدبيات التراثية الكردية، كما في مجموعة القصص المنشورة للأطفال مع صديقه الكاتب: النجاري، والمشار إليها سابقاً.
بغية نشدان المهم، كما هي حدود قراءتي المتواضعة لأدبيات كهذه، يمكن طرح السؤال التالي:
ما المضاف بوصفه جديداً في هذا المضمار؟
بالرغم من جمالية اللغة عنده، إلا أن كتاباته لا يُعتد بها، كونها تشكّل تذكيراً بما هو مقروء لدى السابقين عليه، حتى تلك المصاغة شعراً، من نوع :
كان هناك باشا من الفرس
لا يخاف الله أبداً
كان يقتل عشرة أشخاص يومياً
وييتّم أطفالهم من بعدهم
كان هناك حفنة تحيط به
تمارس القهر في الشعب…الخ.ص 293 
إنها حكايات وقصص شعبي، تختلط بغيرها من حكايات الشعوب وقصصها، حيث لا يمكن اعتبارها كردية محضة، لمجرد أنها تقال بلسان كردي، كما هو حال الكثيرين ممن انشغلوا بهذا الحقل ” البحثي “: الحكائي- القصصي، تحت عنوان: حكايات كردية، فذلك يتطلب متابعة دقيقة للكثير من البنى الثقافية: النفسية، الاجتماعية، التاريخية والذهنية الكردية لفصلها عن غيرها.
لعل جلادت بدرخان بك، كان معروفاً في هذه المجال، وله وزنه في زمانه، وقد نشر نصوصاً حكائية- شعرية للأطفال في ” هاوار ” ومن ثم ضمَّت إلى مطبوعات مستقلة، مثل :
Çîrokbêj-Çîrokên kurdmancî, avesta, stanbul, 2009 .
الحكواتية- الحكايات الكردمانجية، آفستا، ستانبول، 2009 .
بدءاً من الكلمة المعتبَرة تقديماً للكتاب المعتبَر ” قنديل المعرفة “، والتي كتبها في آذار 1945، وما ورد في نهايتها” بئس ذلك الشعب الذي أضاع لغته. ص 7 “.
وكذلك:
Stranvan , avesta,stanbul, 2009.
المغنّي، آفستا، ستانبول، 2009 .
حيث نتعرف على مجموعة من الأغاني الشعبية، بدءاً من أغنية ” الفاتنة المحتشمة:
Zerî kubarê “:
ألا تعالي أيتها الفاتنة المحتشمة
أيتها الفاتنة المحتشمة..ص11 
إلى جانب الأرضية الحكائية والقصصية الشعبية المميّزة لأسلوب الراحل موسى عنتر، وما فيها من ملهاة ومأساة، وعمق الدلالة، وكثافة الحدث، ونبرة التهكم العالية، كما في :
Çinara min, aram,stanbul,ç3,2013.
شجرة دلبي، آفستا، ستانبول، ط3، 2013 .
وفي السياق نفسه، يمكن اعتبار كتابات آرجن آري، مؤهَّلة لأن تكون ترجمان مناخات الوسط الشعبي الكردي، وما يعنيه هذا الربط من هضْم القوة الداخلية للمحرّك الداخلي فيها، كما في:
Bîhoka li pişt sînor, avesta, stanbul,2010.
 السفرجلة التي وراء الحدود، آفستا، ستانبول، 2010 .
…الخ.
نعم، إن من الممكن قراءة ما كتبه الراحل أوسي في النطاق المذكور، سوى أنه لا بد من التفريق بين قراءة ما هو ملحق بسواه، بوصفه سالكاً مسلكه، متأثراً به عموماً، وما هو نوعيّ، أو قراءة تستدعي تركيز الانتباه في دائرة المقروء، والاستمتاع به، دون أي استدعاء لمؤثّر فاعل فيه.
لو كان هناك بصمة كتابية من هذا النوع، لكان لها رواجها ومن يعنى بها في تمايزها.
الحسنة الوحيدة لأوسي في الحالة هذه أنه يذكّرنا لحظة قراءته بمن سبقه، وقراءة من أشيرَ إليهم، كما أفصحنا عن ذلك، لا تذكّرنا إلا بهم عموماً، لأنهم أخلصوا للكتابة بأكثر من معنى !
ملاحظة: أعتذر إلى القارىء الكريم جرّاء هفوة في الترقيم ، فالفقرتان الخاصتان بمحمد اوزون تشكّلان الحلقة التاسعة معاً.
الحلقة الثانية عشرة : مهاميز/ دبابيس موجَّهة إلى من ؟ 
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…