أسئلة المشروع القومي وأخطار تقرع الباب

إبراهيم اليوسف

تواجه الباحث أثناء تتبعه لخط مسار تشكل الرابط القومي، لدى الأمم
والشعوب- عامة- إشكالات كثيرة، حيث نحن أمام افتراضات عديدة، يمكن استقراؤها- عادة-
واعتبارها تصورات أولية، يمكن تناولها، والانطلاق منها، لخوض غمار بحث التشريح، في
هذا المجال، ولاسيما أننا نعلم أن هناك نويات عديدة، في حياتنا العامة، تعد منطلق
أي إطار عام، عمادها “الأسرة” و”العائلة” إلخ، أي التشكيلات القبلية، بمفرداتها،
المتعددة، المعروفة، متسلسلة، وهو ما يدحض أي رأي ينطلق من أن الإطار القومي ولد
متكاملاً، بل إنه تشكل- تدريجياً- عبر الزمن، وكانت العصبية الأولى للقبيلة،
باعتبارها الفضاء الاجتماعي الأوسع.
وإذا كان الجذر اللغوي لكلمة “القومية”، هو “قوم” بحسب معجم المعاني الجامع، ويعني
” الصلة الاجتماعيَّة العاطفيّة التي تنْشأ من الاشتراك في الوطن واللغة ووحدة
التاريخ والأهداف”، فإن هذا المصطلح يعد- في الحقيقة- حديث العهد، ووافداً، حيث أنه
لم يظهر في أوربا، إلا في نهايات القرن الثامن عشر، بل نظِّر له أنه وليد القرن
التاسع عشر، وهو ما جعل هذا القرن يسمى ب “عصر القوميات”، وقد تم في فضاء هذا القرن
تشكيل خريطة أوربا التي نشهدها الآن، على أنقاض الدولة الدينية التي كانت مهيمنة،
بل جاءت القومية لتضع حداً لمفهوم الدولة الدينية.
ليس بخاف، على أي باحث،
متعمِّق في شؤون ولادة المشروع القومي، بنسخته الأوربية، الأصل، أنه جاء كرد فعل
على هيمنة الكنيسة، واستبدادها، وطغيانها، ومسؤوليتها، في سلسلة الانهيارات التي
تمت، أوربياً، وإن كان خيار القومية- على أساس اللغة- ليس الأطروحة الوحيدة، التي
طرحت آنذاك، بل هناك مشروع “التعايش التاريخي” أو “تبادل المنافع اقتصادياً” صارا
مطروحين، وكانت هذه الطروحات، انعكاساً، لحاجة الدوائر التي تقف وراءها، بما يناسب
طبيعة أوضاعها الخاصة بها، وباتت الحوارات اللافتة، حول تصور بناء الدولة
الأُنموذجية، تتم بمعزل عن وضع الرابط الديني، بعين الاعتبار، ما آذن ب “سقوطه” على
نحو فعلي، بعد أن كان العمود الفقري للدولة، شرقاً، وغرباً، في آن.
ومر المشروع
القومي، الذي تتم إحالته، إلى التحولات الجارية في المرحلة السابقة، على ولادة
الدولة القومية في أوربا، بمخاضات شتى، بل إنه جوبه من قبل الكنيسة، بشراسة شديدة،
ناهيك عن انقسام المفكرين، والفلاسفة، والأدباء، بل ورجالات السياسة، مابين مؤيد
للمشروع، ومناوىء له، بالإضافة إلى أن فكرة المشروع احتاجت، في بعض محطاتها
الأوربية إلى مدد زمنية، وصلت إلى بضعة عقود، حتى استطاعت أن تنجح، في صياغة
ملامحها، ولاسيما إذا وضعنا- في الحسبان- أن هناك تداخلات في أوربا، كلها، بين ما
هو وطني، وما هو قومي، بل إنه، رغم مرور حوالي مئة سنة على نشأة الدولة القومية في
أوربا، إلا أن مشكلاتها، لما تنته، وإن أوجدت لها الحلول، في كل مرة، وجاء رابط
“الاتحاد الأوربي” ليضع حلاً لهذه المشكلات المشار إليها كلها.
كانت أمريكا،
المجال الحيوي لأوربا، تحتل الكثير من بلدانها، إلى أن استجمعت قوتها، وباتت تسترد
استقلال أجزائها، على نحو متتالٍ، وشكل ذلك صدمة، بالنسبة إلى أوربا، لذلك فقد راح
العقل القومي- الأوربي- ومع بدايات لحظة نشوئه، يبحث عن بديل حيوي، يتوجه إليه، فلم
يكن هناك غير خيار التوجه إلى دول وبلدان الشرق، تنفرد في احتلالها، أو تتوزعها،
وهو ما خلق حالة توتر في المنطقة كلها، لم تنته، إلا بعد إعلان استقلال أغلب هذه
الدول، سواء أكان ذلك في آسيا، أو إفريقيا اللتين تم استعمارهما من قبل هاتيك
الدول.
و بدهيٌّ، أن الدولة العثمانية “1299-1923” التي كانت تهيمن على-العالم
الإسلامي- وباتت تدريجياً، تستفحل حالتها ك “رجل مريض”، تداعت حبات عقدها، وتساقطت،
وتوارى إطارها العام، بلا رجعة، وقد جاء هذا، بعد مجريات الحرب العالمية التي عدها
الدارسون- مسماراً- في نعش هذه الدولة، العملاقة، مترامية الأطراف، وإن كانت
ستستفيد-تركيا الحالية- من حالتها، تلك، من خلال تشكيل أول دولة، لها، هي: الدولة
التركية، بحدودها الحالية، كي تلتهم أجزاء من خرائط شعوب، متعايشة، معها في
المنطقة، وإن كان قياس ما آلت إليه تركيا، بجغرافيتها، الجديدة، يكاد يبدو جدَّ
ضئيل، وبلا شأن، مقارنة، مع إمبراطوريتها مترامية الأطراف.
انهيار المشروع-
العثماني- نتيجة عوامل عديدة، انعكس على تشكيلات دول المنطقة، الأوربية منها، وغير
الأوربية، حيث كانت هناك إمبراطوريتان، متجاورتان: النمساوية، والعثمانية، بحيث أن
أكثر الأجزاء الأوربية، لهذه الأخيرة، ابتلعتها خرائط الدول الأوربية في صيغتها ولم
يبق لها، إلا مجرَّد جزء من كل ذلك، وإن كانت ستحسب من عداد الدول المتربعة على
أكثر من قارة، وهما: آسيا وأوربا، ما يجعلها نائسة بين هذين العالمين، بل إنها لا
تخفي رغبتها، في الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وهو ما ينعكس على طبيعة هويتها،
المتزأبقة، والمترددة، ولعل في مقدمة ابن خلدون808 أي في “كتاب العبر وديوان
المبتدأ والخبر” ما تضمن، وعلى نحو مسبق، بعض أسباب انهيار هذه الدولة، بالإضافة
إلى عوامل أخرى، تتعلق ببنية سياساتها الإدارية نفسها، وهو يصلح ليكون نواة بحث
خاص، ومستقل.
كما أنه، وفي المقابل، إذا كانت الإمبراطورية العثمانية، قد نشأت
في فضاء الإسلام، فإن الدول المعاصرة لها، طوال القرون الأولى من ولادتها، وقوتها،
كانت-هي الأخرى- نتاج الرابط الديني، بمعنى أن العالم-برمته- كان مشكلاً، في ما سبق
على أساس ديني، لتكون المسيحية، المقابل، للإسلام، ضمن هذا التوصيف، ولا يخرج أي
بلد أوربي، بتسمياته التي لما تزل مستمرة، عن أن خريطته، بشكلها الراهن، قد نشأت في
عصر الدولة القومية.
ومن المعروف جداً، أنه يمكن ربط ما جرى في العالم الثالث-
عموماً- بنشأة الدولة القومية في أوربا، كحالة استنساخ، حيث راحت تنظر إليه،
جغرافياً، وبشرياً، بأنه مسرح لأطماعها التوسعية، ومن هنا، فقد باتت تتقاسم خرائط
هذا المكان، لتجعله أمكنة نفوذ لها، وكان جد مهم، بالنسبة لأوربا، أن تعد راسمة
خريطة الشرق، كله، في صيغتها، الحالية، وإن كانت لعبة- سينمار الأوربي- تترك نقاط
خللها، في هذه العمارة، وهو خلل متعدد الأشكال، ويأتي في رأسه، ابتلاع حقوق بعض
الإثنيات، لصالح سواها، وهو ما لم تكترث له، على نحو فعلي، طوال حوالي قرن، من
أخطوطتها المشرقية، إلا بعد أن باتت الأسئلة، في هذا المجال
تتفاقم.

سقوط المشروعات الكبرى:

ثمة حالة
من عدم الاستقرار، الفكري، باتت تفرض ذاتها، ليس في الشرق وحده- وكما حدث من قبل
للغرب- بل وفي الغرب ذاته، ولاسيما عندما، تكون المشروعات المتعددة، في مواجهة
بعضها بعضاً، بل أبعد من ذلك، حين تكون متناسفة، ومتلاغية، تسقط هيبتها، ومسوغاتها،
وليس أدل على ذلك أن نجيء بثلاث ضحايا، من بلد واحد، قضى كل منهم، من أجل فكرة
مناقضة لفكرة الآخر، عبر متواليات المشروعات “الدينية- الأممية- القومية”، بحيث
تجهز النتائج، على المعيار القيمي، ولم يعد من تم التسليم ب “بطوليته” ضمن مشروع
ما، إلا مفتقداً له، ضمن المشروع الآخر، بل إنه يفتقد حضوره الرمزي، ضمن المشروع
الواحد نفسه، وما هذه المفارقة، إلا عبارة عن أمثولة صغيرة، عما يتم من انهيارات
قيمية، أمام أعيننا جميعاً، وذلك بمجرد انهيار الحاضنة الناظمة له، واستبدالها،
بأخرى، مختلفة، وهوما يديم حالة القلق، وإجهاض الحفر الحضاري، وفق دواع، قسرية، من
خارجه، وليس كنتيجة للمحاكمة، والتجربة، والممارسة.

جائحة إيبولا
الهجينة:

وفي الوقت الذي يتم، وعلى ضوء تهاوي هذا
المشروع، الحداثي نفسه، أمام مستلزمات الواقع، فإن هناك نوستالجيا، لاسيما في
الخريطة غير الأوربية، نحو إعادة تأسيس الدولة، وفق تصورات، لا تكترث، بالمنجز
الحضاري، بل بما حققه الخطاب الديني، في صيغته “المعتدلة”، وذلك عبر العودة، إلى
اللحظة الافتراسية، التوحشية، بما يتضاد، وديدن الرسالة الدينية، بل وبما يتضاد مع
آدمية الإنسان، وهو ما يتم ضمن مجريات “انهيار القيم”، وقد كانت تفاصيل المشروع
القومي، في بعض جزئياته، ولاسيما عبر ثنائية: الاستبداد والفساد، ما راح يشوهه، وهو
ما تم استغلاله- كرة أخرى- من قبل الدوائر المخططة، من أجل الإمعان في ترسيخ حالة
التفكيك ضمن المفردة الإثنية ذاتها، عبر تجزيء الأجزاء” إلى الحد الذي يجعل مفهوم
مشروع الدولة، بكامله، على المحك، وبين فكي أخطبوط الزوال، بعد التزاوج الذي تم بين
الغباء التاريخي، وما بعد حداثة التسليح، والتقانة، والاتصالات، في الوقت الذي تبحث
الدوائر الغربية عن تعزيز روابطها العامة…!”و بعد أن جاءت اتفاقية “سايكس
بيكو1916” المذمومة، نفسها، كوشيجة، لهيكلة، مكونات، لم تكن موجودة، من قبل، وهو ما
يسجل لها، رغم ما يسجل عليها، من المنظور عينه، بيد أن أطروحات فرض- فرضية الخلافة-
على سبيل المثال، تأتي نسفاً، لها، وهي تلغي حدود تلك الاتفاقية، لكنها، على صعيد
آخر، نسف لبنية هذه الطروحات، بعد تعميدها، بدماء الأبرياء، في المنطقة، لتكون
مقبرة هذا المشروع الهلامي، الذي التقت فيه الخرافة، بالأسطورة، بمفردات القوة،
وبات يتهاوى أمام أعين العالم كله، حتى في أشد اللحظات التي يوهم فيه أصحابه بإحراز
الانتصارات، وتوسيع رقعتهم، وتشديد قبضتهم.

أجراس المكان
المدنمت:

أجل، ثمة خطر، عملاق، هالك، محدق، بنا
جميعاً، بعد أن تفاجأنا بهذا الكائن، القذر، الجائحي الإيبولي، الهجين، الذي يتشكل
من التقاء حالة ما قبل التخلف، وما بعد الحداثة، وهو تجاوز لحالة التنظير، إلى حالة
التطبيق، بعد أن دخل بيوتاتنا، في بعض محطاتنا، و الأمر الذي يستدعي إلى الارتقاء-
كونياً- لنكون في مستوى ما يتم، ولاسيما عندما نعلم أن التبشير العولمي- بمجتمع
الثلث- قبل حوالي عقد ونصف، ما يدعونا لقرع أجراس الخطر، عالياً، و في كل مكان، من
دون أي وهم بالتواجد خارج المساحة المدنمتة، حقاً، بفعل آلة الدمار الشامل،
والقائمين عليها.

عن موقع هافينغتون

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…