آفاق جريدة بينوسا نو

د. محمود عباس

  أنهت (بينوسا نو) ثلاث سنوات من عمرها اللامحدود، شاقة طريقها بين الدروب الصعبة، المليئة بالمطبات الفكرية والسياسية، جابهت وتجابه مخاطر الانزياحات، والإملاءات المتعددة، باحثة خلالها عن أفضل الطرق لتنقية الثقافة السائدة. بينوسا نو، تدرك مكانتها ضمن المجموعة الإعلامية الكردستانية، كجريدة تنشر باللغتين الكردية والعربية، وتعلم ما يتطلب منها في هذا البعد، مع ذلك ومقارنة بقدرات السلطة الرابعة، لم تتجاوز الفاتحة في هيمنتها على الواقع الثقافي في جنوب غربي كردستان، لكنها تخط في درب قويم، مستندة على استقلاليتها، الفكرية، السياسية-الثقافية، وطريقة توعيتها للقراء، كما وتمهد الأرضية الملائمة لتحفيز الكتاب الكرد الذين يقع على عاتقهم تنقية ثقافة بثتها السلطات الشمولية المتعاقبة على المجتمع الكردي عامة ومنذ عقود.
 ليس مهما ما حققته حتى اليوم، بل المهم في هذا الواقع الثقافي هو ما سيقدمه كتابها إلى المجتمع على صفحاتها، في المستقبل وللمستقبل، فالدرب طويل، والمطلوب هائل، وحيث الأعداء يحيطون بنا من كل الجهات.
   وليست الإنجازات هي ما تجلب الانتباه، بل الوعود التي تضعها على نفسها، ومدى قدرتها على تحقيقها.  فالواقع الكردي الثقافي يحتاج إلى إعادة البناء.
 بينوسا نو، الجريدة الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، تعرضت مثل الرابطة إلى انتقادات سلبية متعددة، بلغت حد التهجم، لكنهما اعتبروا معظمها طبيعية وصحية، حملوها كدراسات خارجية مستقلة، وكواقع نقدي إيجابي، وتم التركيز على أغلبيتها كرؤى لمثقفين، اعتبرت مرآة للذات، لتصحيح المسار وتقويم الأخطاء. كانت الانتقادات على أشده عند أول إصداراته، وتم تدارك تلك الانتقادات وتصحيحها، وسهرت هيئة تحريرها، وفي مقدمتهم الأخ خورشيد شوزي، على تنقية مضامين المواد، ولا يزال العمل مستمر، والهيئة تتقبل كل الانتقادات وحتى التهجمات بمنطق الصبر ويعملون على دراسة كل نقد مطروح. ويندرج هذا التعامل مع الرأي الآخر، ضمن واقع البحث عن الأفضل للواقع الثقافي الكردي، ومخطط لخلق روح تقبل المخالف فكراً، حتى تلك التي كانت موجهة لهدم الرابطة وجريدتها هذه، وتعمل على نشر هذا المفاهيم بين الحركة الثقافية، فلم تمر دون ردود منطقية وألقاء الضوء عليها بشكل غير مباشر في كثيره، من خلال مقالات ثقافية موجهة لتوعية القارئ الكردي قبل تحديد نوعية مادة الكاتب، لبناء جدلية منطقية حول الخلافات الفكرية، والتي بدون حضورها واستمراريتها سيسود الطغيان الفكري-السياسي الملغي للأخر.
 عملية تقديم المواد، واختبارها تلقى أهمية واسعة، فليس مهما غزارة الأفكار، وتبسيط أسلوب العرض، بل مضمون المادة، من حيث التوعية وتنوير الدرب لبلوغ الغاية الأهم للكرد، وعليه يتطلب من كتاب بينوسا نو تحديد أولويات الواقع الكردي، قبل عرض موضوع ما، والتركيز على نقد المفاهيم التي أصبحت ثوابت مع التقادم، رغم عدم صواب معظمها، ومن الجدير بالذكر، الانتباه بعدم الخلط بين الثانويات التي ركزت عليها السلطات الشمولية المستعمرة لكردستان،  والأساسيات من المفاهيم التي يتطلب ترسيخها بين مجتمع جنوب غربي كردستان، لتصحيح البنية الثقافية الموبوءة.
 عندما قارنا بين (بينوسا نو) و(جريدة كردستان) قبل عامين، كانت الغاية منها، الاختبار بين إعلام كردي ظهر من رحم العدم، وناضل من اجل التعريف بالكرد ولغته، في مرحلة زمنية كانت القضية الكردستانية في عتمة شبه تامة، وآخر ينهض على أكوام سابقة من النضالات والنشاطات الإعلامية، في مرحلة أصبحت القضية الكردية خارج مجالات مفهوم التعريف، وجلها تتوجه إلى خارج الإطار الكردي، باحثة عن طرق لتحقيق الغاية. وما تميز بينوسا نو عن سابقاتها، أستنادها على استقلالية الرأي، وتمسكها بمنهجية تغيير الثقافة الجارية، والنقد الهادئ، وتنبيه الأخرين بأن أجنداتها هي من الذات الكردية، والتركيز على القضايا الكردستانية المهمة، بآلية مغايرة، كالتوجه إلى القارئ الكردي، لتنمية قدراته الإطلاعية، مع ذلك الجريدة تعاني بعض المصاعب، كالخروج أحيانا من مسارها، وعدم الجرأة تحت معطيات سياسية ومتطلبات الظروف الجارية، لكنها تستند إلى بنية متينة، كتقبل النقد، والرأي المخالف، لذلك فهي لا تتيه. ولا شك هيئة التحرير بينت مرارا أنها تحتاج إلى تناول قضايا ثورية وجرأة أوسع في طرح المواد، الثقافية، وفتح أبواب الجدالات الفكرية لتوعية أوسع للمجتمع وخلق جيل جديد من القراء، لقناعتهم بأن القارئ هو مرآة الكاتب، فكلما كان القارئ واعيا كلما زاد حذر الكاتب عند عرض أفكاره، وغالبا ما يكون القارئ العادي هو الناقد العفوي والأكبر تأثيراً على الساحة العامة من الناقد المتحيز.
 لا شك (بينوسا نو) ترنوا بأن تكون صفحاتها تنويرية، لأساسيات الثقافة الكردية حاضراً، والمطلوبة مستقبلا، لذا جاهدت بأن لا تندرج ضمن الصراعات الحزبية، السياسية-الثقافية، التي صدرتها سلطة الأسد إلى داخل الحركة الثقافية، ونبهت الإخوة في العديد من المناسبات على ما تبثه السلطة الشمولية السورية من الأوبئة الفكرية بين الحركتين الثقافية والسياسية، كعملية الصراع بين الداخل والخارج، وعمليات التشهير المتبادل عن طريق الإعلام الحزبي، وقد خصصت لهذه مواد عديدة، ومثلها ثمنت مدى أهمية استقلالية الحركة الثقافية، والابتعاد عن التباهي بالتجمعات الشكلية ضمن المناطق المسيطرة عليها نظام بشار الأسد.
  الجريدة تفتح أبوابها، وتعرض صفحاتها، لكل الكتاب الكرد، ثقافيا، لتوعية المجتمع الكردي، ورفع سوية قدرات القراء، وتترفع عن بناء الحواجز حول المواد المطروحة، شريطة أن لا تزيد في هوة الخلافات بين الحركتين السياسية والثقافية، وتشكر كل من يعرض أرائه وانتقاداته على الجريدة والرابطة معا، هيئتهما يؤمنان بأنه لا كمال على الأرض، ولا يمكن بلوغ الغاية الكردستانية بدون شراكة وطنية حقيقة بين جميع الأطراف، حتى المختلفة بين بعضها، وأملنا متزايد بقضيتنا الكردستانية، وبأن كل إسهام فكري ثقافي يجب أن يصب في خدمة الأمة الكردية، والتآخي والمساواة بين شعوب المنطقة المؤمنة بالثورة الحقيقة.
د. محمود عباس
نائب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.
الولايات المتحدة الأمريكية
المقالة الافتتاحية لـ (بينوسا نو-عدد “36”) الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

ولد الكاتب والصحفي والمناضل الكوردي موسى عنتر، المعروف بلقب “آبي موسى” (Apê Musa)، عام 1918 في قرية “ستليلي” الواقعة قرب الحدود السورية، والتابعة لمدينة نصيبين في شمال كوردستان. ترعرع يتيماً بعد أن فقد والده في صغره، فحمل في قلبه وجع الفقد مبكراً، تماماً كما حمل لاحقاً وجع أمّته.

بدأ دراسته في مدارس ماردين، ثم انتقل…

أسدل يوم أمس عن مسيرتي في مجلة “شرمولا” الأدبية الثقافية كمدير ورئيس للتحرير منذ تأسيسها في أيلول 2018، لتبدأ مسيرة جديدة وسط تغييرات وأحداث كبرى في كُردستان وسوريا وعموم منطقة الشرق الأوسط.

إن التغييرات الجارية تستدعي فتح آفاق جديدة في خوض غمار العمل الفكري والأدبي والإعلامي، وهي مهمة استثنائية وشاقة بكل الأحوال.

 

دلشاد مراد

قامشلو- سوريا

19 أيلول 2025م

الشيخ نابو

في زمن تتكاثر فيه المؤتمرات وترفع فيه الشعارات البراقة، بات لزاما علينا أن ندقق في النوايا قبل أن نصفق للنتائج.

ما جرى في مؤتمر هانوفر لا يمكن اعتباره حدثاً عابراً أو مجرد تجمع للنقاش، بل هو محاولة منظمة لإعادة صياغة الهوية الإيزيدية وفق أجندات حزبية وسياسية، تُخفي تحت عباءة “الحوار” مشاريع تحريف وتفكيك.

نحن لا نرفض…

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن…