لن يبقى الوطن أسير زمن الغروب

مروان بركات
في مساحة الحروب… تُسرق الفرحة من عيون الزمن… تُقتل سلالة البراءة عمداً، وضجيج الحقد مباح.  فيها يحترق الرثاء في عيون الأمهات… والوجوه تَعبر جسور المجهول إلى مدن النفي التي تُحبذ ألا تشرق الشمس مبكراً، لتبقى تقامر.. وتقامر في صحراء الشعارات المهترئة، لعل يغرق القارب في العتمة أكثر فأكثر.
في تلك المساحة… تصفح رياح الحزن براعم الوجوه … وكأن الحياة في صمت جنائزي، وأسراب الطيور سكيرة في السماء من رائحة الدم وعويل الأمهات اللواتي فقدّن زهرات العمر في لحظة المخاض… ويصرخ الأرض هل مَن يحمي جسدي من خطوات الغدر؟
في مساحاتٍ من هذا الوطن … 
الأمهات حائرات ماذا ستكتبن على شاهدات القبور التي اجتاحت الحدائق، التي كانت بالأمس ترددن أغنيات الأطفال لحظة انصرافهم من الروضات؟ 
إنهن حائرات… ما الذكرى التي ستحفرن على شاهدات قبور أطفالهن في أحضان النوافير التي كانت بالأمس تطفو على سطح مائها زهرات الياسمين؟
وأي سيرةٍ ستكتبن على ما تبقى من جدران بيوتهن التي كانت بالأمس مشبعة بالهمسات .. وبسمات الأعياد … والرسوم التي أبدعتها ذاكرة الطفولة دون انتباه. 
على حدود هذا الوطن … تدّون قصص الجراحات على خدود الريح بلغة الآهات دون عناوين، وتُسرق طقوس اللهوِ من جيوب ذاكرة الأطفال.
خلف حدود هذا الوطن… تختزل كل قواميس الآلام بين رموش اليتامى، وتُدوّن تراجيديا اللجوء بآهات الثكالى على خيم الذّل التي تدفن الأيام دون رحمة. 
هناك الزمن بطيء.. الدقائق والساعات حارقة، والطفولة تكتوي في ثوانيها، وأنّ التشرد هو سيد الموقف، ولا يزال هناك من يقول ليس بيدينا حيلة أمام تصاريف القدر، وهنا نتساءل هل ما يحدث للسوريين خلف الحدود هو من تقلبات القدر؟؟
في تلك المدن الخيمية خارج حدود الوطن، تُجتر الصعوبات رغماً.. الدموع والصمت هما لغة الجراحات التي تعجز الأقلام والحروف عن وصفها، وتعجز أرياش أسياد الفن من وضعها في لوحةٍ واحدة… هناك لا أمل في الرجاء من القلوب المغلقة، فلا كرامة إلا على تراب الوطن.
وفي هذا المشهد الدرامي.. يسأل البعض نفسه مرغماً هل أسال غيري بأن في الغدّ سيكون لنا وطناً بمعنى الوطن؟  أم أننا سنبقى في غياهب المجهول نُسرق أبداً ؟ 
ويسأل آخر نفسه هل ستطول بنا الأيام كطفلٍ يتيم ينتظر كل يوم عودة أبيه ولا يمل من الانتظار؟
نقول…. علمتنا الإرادة وحبّ الحياة والوطن أنه ليس بإمكان العقل اللاآدمي وأمراء الحروب أن تخترق أزلية حدود الشمس…. و تؤجل تراتيل بزوغ الفجر…  وأنّ الوطن لن يبقى أسير زمن الغروب. علمنا الآباء والأجداد أن لا نحيد عن دروب الشروق.. وأنّ بزغاريد النصر يكتمل الطريق .. أنّ الوطن مملكة الكبرياء فلا مكان فيها للغرباء الغزاة، ومن يقترب من أسوارها ستتفجر في وجهه ألف فوهة بركان.
فالغيوم الحبلى بالحقد والمكاره ستنقشع عن سماء الوطن الذي طال جراحه، وأنّ شموس الحرية والسلام والأمن ستطل علينا ضحوكة وتنتهي زمن العبوس….. وستهب نسائم آذارية محمّلة بعبق الياسمين لتملأ كل أرجاء الوطن، بدلاً من رائحة الاحتراق وأبخرة الدم.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…