العرق دساس

د. آلان كيكاني

المرء سليل بيئته , الاجتماعية منها والطبيعية , يأخذ منها طبائعه وسجاياه , وكذلك الأمم تتأثر بمحيطها البيئي فأينما وجدت الطبيعة الجميلة الخلابة بطقسها وأنهارها وبحارها وغاباتها وجد الجمال في المظهر والرفق واللين والدعة في الطبع , وحيثما وجد الجبل كان الصبر والجَلَد على الألم والمعاناة والثبات والصمود في مواجهة المصائب من نصيب أبنائه, والبيئة القاسية الجافة أيضاً تورث أبناءها خصالاً مميزة تختلف عن تلك التي تورثها البيئات الأخرى. ويرى الكثيرون أن طبائع الأمم لا يمكن فصلها عن الأحداث التاريخية التي مرت بها هذه الأمم وخاصة تلك الأحداث المتعلقة بالحروب والغزوات, فابن الجبل تعلم الصمود والعناد لأنه وجد في الجبل المعقل والحصن الحصين الذي حال دون استسلامه لأعدائه , ومتى ما ضاقت به أرض المعركة اختبأ خلف صخرة أو توارى عن أنظار العدو دون أن يستسلم له ليعاود حربه فيما بعد , أي أن الجبل جعله عنيداً لا يتزحزح عن مواقفه بسهولة .
 أما ابن الصحراء , حيث لا ملجأ حين الخطر, فلجأ إلى المكر والمراوغة والخداع كوسائل للدفاع عن النفس حتى باتت هذه الصفات من خصاله .

يقول جيران الكرد بعنادهم وشجاعتهم وقدرتهم الكبيرة على التحمل وقد نسج البعض طرائف عن عناد الكردي وتحمله , فالكردي في عين البعض هو الذي لا يتأوه لألمه ولا يصرخ لمصابه لأنه يعتبر ذلك انتقاصاً من رفعته وكبريائه وتشويهاً لصورته القوية .
سبق وأن قرأت في بعض الموسوعات أن البلوش ينحدرون من أصول كردية أرسلهم الملوك الميديون من كردستان إلى مناطقهم الحالية بين إيران وباكستان ليدافعوا عن البوابة الشرقية للدولة الميدية ضد الغزوات القادمة من الهند لما كانوا يمتازون بالبأس والشجاعة وعندما انهارت ميديا تحت ضربات الملك الفارسي كورش العظيم ظل البلوش هناك ولم يعودوا إلى مناطقهم وصاروا مع مرور الأيام أمة منفصلة عن الكرد , وفي هذا الأمر الكثير من الحقيقة فاللغة البلوشية هي الأقرب إلى الكردية منها إلى الفارسية حيث تكاد تكون متطابقة مع اللهجة الكرمنجية , وليس هذا فحسب , فهم أشداء يمتازون بالأنفة والعناد والقدرة على تحمل الألم بصورة كبيرة , حتى أن صديقاً لي جراحاً باكستانياً روى لي قصة أحدهم , قال : جاء البلوشي إلى عيادتي لأزيل له كتلة شحمية كبيرة في فروة رأسه وامتنع عن الرقاد على السرير الطبي وطلب مني إجراءها وهو جالس لأنه ليس الشخص الذي يتمدد على السرير لجرح بسيط في جسمه , وعندما شاهد إبرة البنج في يدي قال لا أريد بنجاً ,  استأصلها دون مخدر وسوف لن أكون بلوشياً إذا قلت آه .
كثيراً ما يعيد التاريخ نفسه وخاصة التاريخ الكردي ففي مستهل القرن السابع عشر كانت كردستان التركية الحالية مملوكة للصفويين الذين ضاقوا ذرعاً من هجمات متكررة على امبراطوريتهم من جهة الشرق كانت تقوم بها قبائل همجية من بلاد تركستان لذلك قرر الملك الصفوي عباس أن يدرأ مدخل أمبراطوريته الشرقي بفرسان شجعان فلم يجد خيراً من بعض القبائل الكردية التي كانت تسكن غرب بحيرة أورمية فقام بترحيلهم إلى خراسان بعيد معركة قلعة دمدم ليصدوا هجمات المعتدين وقد نجح في خطته . وهناك في خراسان الشمالية لا يزال يعيش نحو مليون ونصف المليون كردي قرب الحدود مع تركمنستان ولا يزالون يتحدثون الكرمنجية ويمارسون الزراعة والرعي ويعيشون حياة الأكراد في الريف الكري في أجزاء كردستان الأربعة. لي صديق منهم على الفيسبوك اسمه حسن , سلم عليّ برسالة قصيرة فقلت له مازحاً أهلاً حَسو فضحك وقال كيف عرفت أن أهلي ينادونني حَسو فقلت له كيف حال أخيك عزو وأختك فاطو وكان قد قال لي مسبقاً أن لديه أخاً اسمه عزالدين وأختاً اسمها فاطمة فضحك معتقداً أن أخاه هو الآخر صديقي على الانترنت وقد أخبرني بذلك علماً أنني قلت ذلك تماشياً مع ثقافتنا في اختصار الأسماء أو تحويرها بما يتناسب مع لكنتنا , فبيَّن لي حسن أن الكرد في خراسان لا يزالون محتفظين على ثقافتهم الكردية حتى في أدنى أجزائها : اختصار الأسماء .

وقد أورثنا , نحن الكرد في كردستان , أورثنا البلوش والكرد الخراسانيين الكثير. ففي السياسة ورثوا عنا الانقسام وسوء الحظ , فالبلوش انقسمت أرضهم بين ثلاث دول هي باكستان وإيران وأفغانستان , وكرد خراسان أيضاً انقسموا بين إيران وأفغانستان وتركمنستان , وإن كانت الغالبية الساحقة منهم تابعة لإيران فإن توزعم في الدول الثلاث دليل أصالتهم الكردية . فمن شابه أباه ما ظلم .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…