بـَكـيْتُ

  عبدالسلام خوجة
عن الكرديّة: قادر عكيد

في موقع العمل, بهولير, وحيث كلٌ منهمكٌ بما يشغله عمّا حوله, فجأة ترك الجميع مواقعهم, حثـّوا الخطى واتجهوا صوب نقطة واحدة, ومثلهم أنا. فاجأني الصوت الذي بتّ أحفظ نبراته عن ظهر غربة واقفاً بينهم كمسيح يخطب في حواريه, أنه صوت الشاعر العاموديّ حتى الألم يـلقي – دون موعد – قصيدة عن حريق سينما عاموداه التي جعلت جميع العمال من أجزاء كردستان الأربعة يلقون حديدهم ومطارقهم وأدوات نجارتهم بفوضويّة, ويصغون له باهتمام.
وقفت غير بعيد أتأمـّل قسمات مستمعيه التي باتت في مهبّ الحريق حيناً والغربة أحياناً, لا يرفّ لهم جفن, لأنهم باتوا في حضرة الحريق, تشقّ آذانهم صرخات أطفال عامودا التي تنبعث من كلمات شاعر وضع حدّ عينيه الطرد من العمل الذي لقيه بعد طول انتظار في سبيل أن يُسمع ويُعلم الآخر عن مأساة مضى عليها أكثر من نصف قرن.
لأنه لم يكن في ضيافة الحريق هذه السنة, فقد أبى إلا أن يُضرم ناره هنا؛ في كردستان. مطأطئ الرأس كمن فقد عزيزاً, دموع صارخة خلف عينيه, ربّما استذكر طفليه – جانێ وجوان – في هذه الغربة, أوتصوّرهم مع الرّكب الذي مضى إلى حضرة الإله دون وداع الأبوين. هكذا كانت الكلمات تنساب ناراً من كل مسام في جسده, لهيبها تحرق كل حركة من حوله. يداه ترتفعان وتهويان في قوّة, أصابعه تشير إلى الأفق؛ ربما إلى جهة النار…!
هذا هو الشاعر عبدالسلام خوجه الذي لم يدّعي الشعر يوماً, وكتاباته هي فقط لأجل معشوقته عامودا التي هي مهاباده, آمده,وهوليره. والقصيدة المترجمة (بـَكـيْتُ) هي نفسها التي ألقاها بين جموع العمال في يوم ذكرى حريق سينما عامودا:
بـَكـيْتُ
كان الفصل خريفا..
نجوم السماء تتلألأ
برداً…
كانت ليلة باردة…!
 ملائكة تبتغي الدفء
من وهج
 احتراق أرواح أطفال عامودا
يد الإله على خده… مندهش
فاجعةٌ…!
(نازو) تستنجد ثلاثاً:
سأيمّم وجهي شطر جبل مازي
أستغيث الخلان:
أنجدونا.
حليمة تنادي:
يا لطيفة.. يا غزالێ
لقد كان (ابراهيم) عماد داري
وغيره كثيرون
ما العمل.. ما الحل؟
صراخ واستنجاد…
سماء عامودا
تحتفي
بطيور الجـِيـَف
نعْمَ الوليمة.
ما الذي جرى…؟
ما الذي حدث…؟
قافلة الموت
بطبلها ونايها
تعزف نشيداً
غريباً…
الموتى
حرّاسالأصالة
منذ مئات السنين
يتسائلون:
أيّ نشيد هذا…؟
لـِمَ القافلة خجلى..
لا تدنو….؟
اقتربي دونما خجل..!
أخبريني
ما الأمر
القافلة تستميح شرمولا
عذراً
تهدي هبة الله..
ودونما… وداع
تترك خلفها
التلــّة والمقبرة..
وتمضي.
شرمولا:
إلى متى أذرف الدمع…
أحتضنكم..
ليتني أموت…
ليتني لم أولد
(من سيحتضنني إن متّ يوماً)
إئتوا بهم
تحت ظلّ عليائي
على غبار عمري الحزين
مدّدوا جثامينهم… لا تدفنوهم.
حتى أهدهد
-في قلبي-
آلامهم
الخطب جلل…
أمسيتنا كئيبة
ضيوفنا أعزّاء
أرّقهم السهاد..
لا تسائلوهم
دعوهم يناموا…
لم ينسوا بعد
حكايات أمهاتهم ..
الأحلام.. الذكريات..
ذهبوا
دون أحلام وذكريات
رحلوا .
أطفأ الإله في صدره
مئتان وثمانون ….شمعة
هدأت نار (سقر)
الأجساد التي أضناها الاحتراق
تتسائل مستغربة:
ماذا جرى…؟
ماذا حدث…؟
أهي رحمة الإله…!!؟
زبانية الموت
خجلى
أوصدت بوّاباتها:
أنهم أطفال… لا ذنب لهم
من سيجرؤ على محاسبتهم
الإلــه…!؟
حتى الإله خجلٌ:
إن سُئِلتُ يوم القيامة:
لــِمَ..؟
فالجواب:
…!!؟
في غابة النجوم
لقاء حواري الجنـّة..
بأناملهن
أسقطن العذرية عن أنفسهن
نقشن وجه القمر بالدم
بكى القمر
النجوم.. الإله… الظلام
بكيتُ….!!؟
أمي…
 تكحّل عيون الليل….
بمكحلتها
نعــم…..!!؟

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…

إبراهيم سمو

عالية بيازيد وشهود القصيدة: مرافعةٌ في هشاشة الشاعر:

تُقدِّم الكاتبة والباحثة عالية بيازيد، في تصديرها لأعمال زوجها الشاعر سعيد تحسين، شهادةً تتجاوز البُعد العاطفي أو التوثيقي، لتتحوّل إلى مدخل تأويلي عميق لفهم تجربة شاعر طالما كانت قصائده مرآةً لحياته الداخلية.
لا تظهر بيازيد في هذه الشهادة كامرأة تشاركه الحياة فحسب، بل كـ”صندوق أسود” يحتفظ…