الحكواتي 2

دلور ميقري

1

كونه كتاب مغامَرات، فإنّ الثيمة الأساس في ” الكونت دي مونت كريستو “، تظهره لنا وكأنه رحلة البطل، ” مونتس “، الموصلة لكنز يًحقق له حلمه بالانتقام من أعدائه الشخصيين. والمؤلفُ، اسكندر دوماس، معروفٌ بأنه كان أشهرَ من كتبَ روايات المغامَرة بهذا المَنحى المُلغِز؛ كما في ” الفرسان الثلاثة “، ” الملكة مارغو ” و ” ذو القناع الحديدي “. لا غرابة، إذن، أن ينشدّ غلامُ العشر سنوات (الذي كنتهُ) إلى تلك الرواية المُمَزقة، التي انتشلها وقتذاك من لجّة النهر، وأن ينبهرَ من ثمّ بأسلوبها الشائق وفكرتها المُثيرة.
على المنقلب الآخر من القول، يمكن مُلاحظة كيفَ أنّ المُصادفة التي هيأت لي الاهتداء إلى رواية ” الكونت دي مونت كريستو “، قد قادت خطوي أيضاً إلى رحلتيْن؛ احداهما فعليّة، والأخرى مَجازيّة. الأخيرة، سبق أن فصّلتُ أمرها في الحلقة الأولى من هذه الحكاية، عندما وَجدّتني بمَعنىً ما أتحوّل بنفسي إلى صفة ” الراوي “.
أما بشأن رحلتي الفعليّة، فإنها لا تقلّ غرائبيّة عن رحلة بطل تلك الرواية، موضوع بَحثنا، بحثا عن الكنز المَدفون في أحد كهوف جزيرة ” مونت كريستو “. دونما أن أسلو، مع ذلك، الاختلافَ البَيّن بينَ رحلتيْنا: إذ أبحرَ بطلُ الرواية، ” مونتس “، بقارب بحريّ مع ثلة من مهرّبين، التقى بهم عَرَضاً، وصولاً للكنز الذي كان بانتظاره ثمّة. فيما أنّ ” بطل ” هذه الحكاية اعتمدَ على رجليْه كوسيلة نقل، وكذلك على رفقة عصبَة أصدقاء، في الطريق نحوَ الهدف المَنشود، الخائب على كلّ حال.

2
عليّ التنبيه منذ البدء، بأنّ حكاية ” رحلة الكنز ” كنتُ قد فصّلتها في الجزء الأول من سيرتي الذاتية. بَيْدَ أنني هنا، سأحاولُ التركيز على مَغزى تشابُهِ هذه الرّحلة مع تلك، التي قامَ بها بطلُ رواية اسكندر دوماس. ولا مَرام بأنها مَحضُ مصادفة، أن يُقارن صديقُ طفولتي الأثير، ” آدم “، بين ذاكَ البطل وما يُمكن وصفه بـ ” قرين ” له في الحارَة.
في رواية ” الكونت دي مونت كريستو “، نقرأ عن السّجين الكهل، الذي كان كاهناً مُعتبراً قبلاً، ثمّ أضحى موضوع سخرية حرّاس السّجن لكونه مَهووساً بفكرةِ كنزٍ، كان يزعمُ لهم أنه دفنه في موضع سرّي واعداً إياهم بنصفِهِ إذا ما أعانوه على الهرَب من المعتقل. ثمّ ما عتمَ الكهلُ أن فاتحَ زميله السّجين، مونتس، بهذا السّر مانحاً إياه ورقة تحتوي على مخطط ما ادعى أنه ” كنز جزيرة مونت كريستو “. والمفترَض أن هذا الكنز، بحسَب المُخطط، مدفونٌ في كهفٍ تحت الأرض ويمكن الاهتداء إليه بتتبع علاماتٍ مُعيّنة. على أن مونتس، في آخر المطاف، لم يتمكن من تحقيق حلم جاره السّجين إلا بعد موت هذا الأخير؛ حيث عمَدَ إلى الحيلة لكي يفلتَ من السّجن المنعزل، الرهيب.
وإنه جارنا في الزقاق، الذي كان يَمتهنُ وظيفة الحارس الليليّ، من اشتهرَ آنذاك بهوَسِهِ، الأخرق، المُداور حولَ البحث عن الكنوز. ” حسّو شكري ” هذا، لم يلبث بنفسه، وعلى سبيل الاتفاق أيضاً، أن استدعاني في يوم آخر، مع شقيق ” آدم “، لكي ننقل له إلى الورق الأبيض معلوماتٍ من كتابٍ غابر، أغبرَ الصفحات ـ كسِحْنة صاحبه. وبما أن كلا الولدَيْن، المَعنيَيْن، لم يكن قد تجاوز الدزينة من أعوام عمره، فلا ريبَ أن حارسنا لم يَحتط جيّداً: فما أن غابَ هذا، لكي يوصي بالشاي لنا، حتى اهتبلَ صديقي السانحَة لكي ينتزع ورقة من مجلّد الكنوز، الخطير الشأن ـ كذا ـ فيدسّها في جيبه. وما طمأنني، إثر وَهلة الذعر الأولى، أنّ صفحات الكتاب ما كانت مُرَقمة. أما الورقة تلك، المَسروقة، فكانت تحتوي على ما دَعته سرَّ ” كنز مَعْرَبا “. المخطط، كان يشيرُ إلى علامة مُحدّدة، تؤدي لكهفٍ واطيء قد تمّ فيه دفنُ هذا الكنز، المَزعوم.

3
” معربا “، بلدة تقع إلى الشمال من حيّنا الدمشقي، ” ركن الدين “، وعلى خط الطول ذاته، يفصل بينهما جبل قاسيون؛ وهيَ تتبعُ إدارياً منطقة ” التل “. في زمن الطفولة، أيْ عندما هُرعنا في الطريق إليها، لم تكن ” معربا ” سوى قرية صغيرة، مَنسيّة، كما أنها بدتْ لنا بعيدة جداً عن الشام. وإذن، كانت تلك هيَ المرّة الأولى، التي أقوم فيها بالذهاب إلى خارج المدينة، مُستعملاً قدَمَيّ وسيلة تنقل ـ كرحّالة مُغامر.
 لم نعثر ثمّة، مثلما سَيُخمّن المَرءُ، على الكنز الموعود؛ هذا بالرغم من نجاحنا، ربما، في الاهتداء إلى الكهف المطلوب: فإذ كانت العلامة تلك، المَوْسومة، هيَ صخرة مخروطية الشكل تقبع ” مغارة علي بابا ” هذه بالقرب منها؛ فإن أكثرَ من كهفٍ، في جبل مثل قاسيون، من الجائز له أن يستوفيَ هكذا شرط. ولكن، لئن ظفرَ بطلُ رواية ” الكونت دي مونت كريستو ” بكنزه، مُقابل خيبتنا نحنُ عصبَة الزقاق المُغامِرَة؛ فإنني شخصياً كنتُ الوحيد بينهم من عادَ بتذكار: في ذلك الكهف، اصطدمتْ يدي في العتمة بحَجَر مُدبّب الحواف، يبلغ حجمَ الكفّ. فما أن عَرَضته خارجاً للنور، حتى تبيّنَ أنه كسرَة من صخر البازلت، على الأرجح، فيه نقشٌ مُبهم الملامح يمثلُ شكلَ الصّليب، أو ربما الخنجر.
خلال فترة إعداد هذا المقال، تصفحتُ ما جاءَ في موقع ويكيبيديا، بخصوص بلدة ” معربا “، علّني أحاط بما جدّ فيها من تطورات. وبغض الطرف عن ندرة المعلومات في ذلك الوقع، فإن ثمّة ملاحظة استوقفتني؛ وهيَ أنّ البلدة تحتوي على آثار من العهد الروماني. فتساءلتُ عندئذٍ، ما إذا كان تذكارُ الكهفِ يعود إلى زمن أسلافنا أولئك..؟
وعلى أيّ حال، فإنّ ذاكَ الحجرَ، المَنحوت، بقيَ بحوزتي زمناً، ثمّ اختفى من بعد، فجأة. لقد شاءَ هذا الأثرُ الآبدُ أن يُفقدَ من منزلٍ، اعتادتْ والدتي على وَصفِهِ بالقول إيجازاً: ” في بيتنا، لا بدّ للجَمل نفسه أن يَضيع “.
للحكاية بقية..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…