1
بَيْدَ أنّ الوقتَ، لحُسن الحظ، كان نهاراً، بل وأحد أيام الصّيف الرائعة؛ حينما وَجَدتّني في كرم الأمّ الطيف، مُستمتعاً مع لدّاتي بالسباحة في النهر. على حين فجأة، انبثقَ ذلك الكتابُ من مَجرى المُعين العذب، وكان محروساً، كما تهيأ لي، بحاشيَة من قشور البطيخ وغيرها من مخلّفات الأهلين، المُتسَيْرنين. لشيمَة حبّ الاطلاع على الأرجح، وليسَ بسبب ندرة الكتب في بيتنا، اهتممتُ بأمر هذه اللقيَة الطارئة، الغريبة. مَبعث الغرابة، أن يَجذبني في ذلك اليوم كتابٌ مُبتلّ حدّ التهتك، وفوق ذلكَ كان يبدو، للوهلة الأولى، كما لو أن قسماً من مَتنه مَبتورٌ. ربما أنّ دَمْغة ” دار الهلال “، العزيزة عليّ، هيَ من كان عليها أخيراً أن توقظ اهتمامي بهذا الكتاب..؟
2
جدّي لأبي، هوَ من تعيّن عليه رعايَة “دودة” الوَله بالكتب عند حفيده، العتيد. وبالرغم من حقيقة، أنّ وفاة هذا الجدّ قد جدَّتْ قبل مَولد أمّي نفسها، إلا أنّ المكتبة التي تركها خلفه هيَ بيتُ القصيد هنا. إنّ ما كانَ يأخذ بلبّي، بين ركام مجلدات الجدّ الحائلة اللون، كانت تلك السلسلة من روايات تاريخ الإسلام لمؤلّفها الأديب الشهير، جرجي زيدان، مؤسس دار الهلال. لاحقا، إبان شبابي، كم كنتُ أختالُ فخراً قدّام الأصحاب، حينما كانوا يُدهشون من وجودها في مكتبتي؛ هذه الطبعة النادرة، الأولى، من مؤلفات النابغة اللبناني ـ المصري.
هذا الكتابُ، الناجي من الغرق في نهر حارتنا (وهوَ رواية “الكونت دي مونت كريستو” لاسكندر دوماس)، عليه كان أن يتأثلَ مصيرَ بطله، البحّار “مونتس”؛ الذي لطالما شهدَ عُمْرُهُ عواصفَ البحر والحياة سواءً بسواء. ولكن، من سوء طالعي، وخيبتي خصوصاً، أنّ القسمَ المُنتزع من الكتاب كان يتلوَ مباشرة ً اعتراف الكاهن العجوز لزميله السّجين، مونتس، بشأن سرّ كنز جزيرة مونت كريستو. الآن، كما في كلّ آونة مماثلة من حياتي، أستعيدُ جيّداً مَبلغ حنقي وأنا أفرغ يومئذٍ من قراءة الأسطر الأخيرة من الرواية، المُتناهية إلى أكثر الفصول تشويقاً، والمَبتورة من بَعد. إلا أنّ مشاغلَ الطفولة، ولا غرو، هيَ السلوانُ الناجعُ لأيّ حَدَثٍ عابر، مهما كان جَللُ شأنِهِ. عامان على الأثر، والأستاذ الصارم، المَشغوف بالمقابل بالتاريخ (وهوَ المرحومُ سليم الأيوبي)، سيعرّفنا نحن تلاميذ الصفّ السادس الابتدائيّ على ” المكتبة الظاهرية “، الكائنة في بَرَكة الظلال الرخيّة لمنائر المسجد الأموي.
“إليكَ، بُنيّ، الرواية التي طلبتها”
هكذا خاطبني، ببساطة، الرّجلُ المُسنّ نوعاً، المسئول عن حفظ الكتب في “الظاهرية”. وأتذكّرُ جيّداً، أن نطقه لعبارة “الرواية” قد جعلَ قلبي يخفق بفرَح. فلا مَراء أنها ” هيَ “؛ الروايَة المَطلوبة ـ كما هتفَ داخلي مُخمّناً. وأوّل شيء فعلته، غبّ استلام غرضي الأثير، المُفتقد، هوَ تفقدُ الصفحة الأخيرة من الكتاب، المُذيّلة بعبارة ” النهاية “. عند ذلك، شرَعتُ بقراءة الرواية، مُستهلاً بمقدّمتها المُعرّفة بسيرة المؤلّف. ولم يتسنّ لي المقارنة بين نسخة المكتبة وتلك الأخرى، التي سبق وعثرتُ عليها في النهر: هذه الأخيرة، شاءت أن تختفي من منزلنا وربما بنفس الغموض، المُكتنِفِ اكتشافي لها.
3
ما ضافرَ من الإثارة الشديدة لديّ، المُتأثرة بحكاية كتاب “الكونت دي مونت كريستو”، هوَ عرضها على غرّة في الشاشة الصغيرة. فبمَحض المصادفة، كنتُ قد فرغتُ منذ بعض الوقت من قراءة الرواية، وإذا بي أتابعُ مَشدوهاً الفيلم المصريّ، “أمير الانتقام”، من بطولة الممثل المحبوب أنور وجدي. بدءاً، عليّ التنويه بخصلة سيئة في خلقي؛ وهيَ اعتيادي على التعليق على أحداث الفيلم، أو المسلسل، خلال فترة المُشاهدة، ودونما كبير اهتمام بضيق الآخرين وتبرّمهم. الحق، فهذه العادة كانت تجابَهُ غالباً بالصدّ الحازم من لدن الأقارب، إذا ما كنتُ أتابع سيلَ الصوَر في أجهزتهم، المنزلية. من حسن الطالع، ليلتئذٍ، أن أحضُرَ ذاك الفيلم في منزل الجيران، الذين كان أحدُ أولادهم من أقرب أصدقائي.
“أنا أعرفُ قصّة الفيلم؛ إنها أروع قصّة قرأتها في حياتي..”، وإلى ما هنالك من هتافاتي بين الحين والآخر مُتنبئاً في تارةٍ ومُلاحظاً في أخرى. ولكنني، وإن كنتُ آنذاك حَدَثَ السنّ، إلا أنّ ضعفَ حركة الفيلم قياساً لقوّة الرواية الأصل وزخم أحداثها، قد أصابني بشيءٍ من الاحباط. في اليوم التالي، كما أذكرُ، سألني صديقي ذاك أن أعيره رواية “الكونت دي مونت كريستو”. وبما أنني لم أكُ أملكها، فإنه ما عتمَ أن اقترحَ عليّ أن أقصّها على مَسْمَعِهِ. في غير قليل من الخجل والتردّد، وافقتُ آخرَ المطاف على طلب صديقي. جلسة وراء جلسة، ويوماً بأثر الآخر، كنتُ ما أفتأ أروي حكاية ذلك الكتاب، وكأنما قد أضحى ” ألف ليلة وليلة “. العجيب، أن صديق الطفولة ذاك (والذي دَعوته باسم “آدم”، في سيرتي الذاتية )، هوَ من كان يَحضني مُتحمّساً على رواية المزيد.
“أتعتقدُ أنّ جارنا، الحارسَ الليليّ، سيظفر أخيراً بكنز ؟”
هكذا استفهمَ مني ” آدم “، على حين غرّة، فيما كنتُ أصمتُ برهة لالتقاط أنفاسي. القصّة، كانت قد تناهت على الأرجح إلى لحظة عثور البطل على كنز جزيرة مونت كريستو؛ مما أسالَ ذلك السؤال على لسان صديقي. فما أن نُطق اسمُ جارنا، ” حسّو شكري “، حتى شرَعنا معاً في استعادة مغامراته الدائبة، بحثا عن عصملّيات الأنس وتيجان الجان. المرحوم زوج عمّة ” آدم “، كان شريكاً لجارنا، حارس الليل والكنوز، وبقيَ يرافقه في جولاته خللَ برّ الشام وجبالها، إلى أن فجأته نوبة قلبية، قاتلة، أثناء عمله كناطور بائس.
لا أدري حقا، ما إذا كان التوقُ لمغامرة كنوز، مُماثلة، قد تأجج ضرامُه وقتذاك في داخلي، تبعاً لقراءتي شفاهاً رواية ” الكونت دي مونت كريستو “؛ أو قبلها، عند رؤيتي لذاك الفيلم العربي، المُقتبس عنها. بيد أنّ المؤكّد، على أيّ حال، أنني منذئذٍ دأبتُ على قصّ المزيد من الحكايات، المُختلقة من خيالي هذه المرة، ودائماً بإلحاح من صديق طفولتي. جنينة منزلنا، المُونقة بالثمار والأزهار والأطيار، كان عليها إذن أن تشهدَ اكتشاف راو أكثر جدّة. تماماً، مثلما كان حالها، جنة آل “عرب”؛ التي احتفتْ قبلاً باكتشافي لكتاب العُمر في لجّة مياه النهر، المتدفق في أفياء أشجارها وصبّارها وخمائلها.
للحكاية بقيّة..
Dilor7@hotmail.com