إبراهيم محمود
البطيخ ثمرة هجينة، أو هكذا أراه! فلا هو من جنس الخضروات، ولا هو من خانة الفواكه! إنه ينتسب أحياناً إلى الخضروات بسبب طبيعته الموسمية في البروز والتشكيل، وإلى الفواكه لما يُعطى من أوصاف تصله بجنس الفاكهة . لكنه واقعاً، لا هذا ولا ذاك! فله موقع خاص في سلَّم الثمار التي نشهدها في بيئتنا صيفاً غالباً، من خلال ثمرته اللافتة بحجمها والهشة نسبياً، وهي ترتبط بنبتتها التي تفترش مساحة معينة من الأرض، كما لو أنه الرضيع الذي ألقِمَ ثدي َ أمه. ربما شكله وحتى لونه ووضعه الأرضي يستأثر بالانتباه من خلال النظر إليه وهو في حقل فسيح سهل ِالمشاهدة أيضاً.
وللكردي، وكونه ابن بيئة “بطيخية” بامتياز، تاريخ عتيد من العلاقات ووشائج القربى الطريفة مع البطيخ، لأنه اعتاده أمام ناظريه وفي بيته وجبةً رئيسة للأكل أحياناً، أو يقدَّم للضيافة، أو للتلذذ بطعمه المائي في المجمل أو عصارته، وليس- فقط – لأنه في منظور آخرين ممن لا يعتدُّون به يسمَّى بـ” البطيخ”، من باب الذم، من نوع (غلطان يا بطيخ)، (شو يا بطيخ)، (وينك يا بطيخ)… إنها عبارات شائنة تأخذ بعين الاعتبار مدى صلة الكردي بالبطيخ، وكما أنها في أصل إطلاقها تدل على مقام أرضي دوني أو قيمة متدنية للكردي، كما لو أنه هو نفسه مهجَّن، ومحروم من النسب إلى جنس بشري معلوم، وهي مفارقة كبرى- طبعاً- تؤكدها وقائع التاريخ التي عهدَها الكردي في الكثيرين ممن يعرفونه عن قرب تماماً.
هذه المفارقة، ويا للمفارقة، تكاد تترجم واقعة الكردي بالذات، وهو يعيش في واقع مأزوم ومضطرب بالنسبة لمصيره ككردي مجدداً، الواقعة التي تشده إلى البطيخ المعلَّق بنبتة أرضية سهلة القلع وإلحاق الأذى بها، عندما يمثّل الكردي هذا، سلوكات متكررة في واقعه على مر عهود وعهود، تبقيه بالقرب من البطيخ، وليس سوى البطيخ، بأكثر من معنى. إنها الواقعة التي تشهد على مدى اهتمامه بالبطيخ ومحاولته اختيار البطيخ الأكثر احتواء بالعصارة الحلوة أو الطعم الشهي (بطيخ مستوي)، ولكنه لا يعثر على بغيته، وقد جعل البطيخ المقطوف حزَّات حزات، ولضجره وبرمه به، أطلق رِشاشاً من شخاخه أصاب الحزات بشكل متفاوت، وكان شخاخاً معتبراً برشقاته وطول مِداده لما يتميَّز به في نشاط الإدرار البولي تجاوباً مع مستجدات تاريخه وواقعته الصحية الجسمية والنفسية كذلك. ولكونه لم يعثر بعدها على ما يسد رمقه أو يروي ظمأه، رجع القهقرى إلى ثمرته الممثَّل فيها، مقبلاً على الحزات بشهية ملحوظة، وفي كل قضمة كان يقنع نفسه أن شخاخاً منه لم يصبها.. مدهشة هذه الثمرة الأرضية، وهي تشخص تماماً واقعة الكردي تاريخياً، وفي الراهن كثيراً، عندما يظهر بمظهر القوي المقتدر وفارض شروطه على خصمه، مطالباً إياه بحقوقه المهدورة أو المغتصبة، لكنه سرعان ما يتنازل عنها أو يكون في حكم المتنازل راضياً بالفتات، أي بالحزات سيئة الذكر وكله قناعة أن ما ناله هو ما يكفيه في وجوده. الحديث عن الواقع الشخاخي لهذا الكردي الذي يعتد بنفسه وباسمه وتاريخه وموقعه الاعتباري في السلَّم الاجتماعي والسياسي…الخ، حديث يتوضح على خلفية شخاخية حقاً (وعذراً من كل من يجد نفسه منفّراً من تشبيه على هذه الشاكلة، أو توصيف مهين، لأن الترجمة الفعلية للسلوك الخاص بالكردي المقصود ربما لا تتجاوز هذا النطاق)، هي الشخاخية التي تأتي سريعاً، وتتناثر في كل الجهات تعبيراً عن خيلاء وعقدة استكبار “وفنتزة” دون معرفة الجاري ومخبّئاته. إن المتنبه إلى مجريات الراهن ومنذ أشهر مديدة، لا بد أن يكتشف هذه المفارقة البطيخية، ومدى صلتها بالكردي وما هو عليه في خياراته التي تُفتَتح بالتعددية والتنوع وتُختَتم بالأحادية الضيقة والانصياع لشروط الآخر، إنها شروط تكبلية صنعتها واقعته ككردي لا يخلو من عجرفة معلَنة ومتلفزة ومبَروزة أمام نظيره الكردي في حزبه الموسوم أو خصمه الحزبي من بني جلدته، إلى درجة أنه يتراءى في مشهد حرق المراحل استعداداً لمرحلة عصرية تجعله في مقام الذين يتباهون بتاريخهم وحضورهم في واجهة التاريخ، ولكنه جرَّاء نشوة خاصة به، ينسى التحديات والمباغتات، ينسى أن البطيخ الذي قطفه، وهو بطيخه الوحيد، كان عليه أن يهتم بأمره ويرعاه ولا يمثّل فيه، منتظراً بعد ذلك الأنضج منه. البطيخ شاهد عيان على الكردي، مسمّيه بتكويرته وسرعة تأثره بالمتحولات وهو أرضي وفي متناول الأيدي والأرجل! إنها مسألة تقدير الوقائع والقوى الموجودة على الأرض، وليس مسألة حظوظ أو ضرب مندل، كما هي إحدى شُهراته فيما يقوم به ويمارسه علائقياً في الواقع. مجدداً، إنها قضية البطيخ وكيفية إدارة أموره ومعرفة حقيقته إلى جانب ثمار أخرى، يشتهيها الكردي كغيره، وهذا من حقه، ولكن ذلك يتطلب قوىًَ أخرى لم تتوفر له بعد، لعله هو نفسه مسئول عن هذا التأخير كثيراً، وحدوث فوات الأوان التاريخي، وبالتالي رجوعه المستمر إلى بطيخه المرشرَش بشخاخه هنا وهناك.