إبراهيم محمود في تلويحته المنكسرة

إبراهيم اليوسف

 يخيَّل إلي، أن صديقي إبراهيم محمود يستعيد اليوم، ما أحسست به قبل ثلاث سنوات ونيِّف من الآن، وأنا أودِّع أمّي، التي لا أجرؤ حتى الآن الكتابة عنها، وكان هو نفسه أحد من واسوني روحاً، وكتابة، في آن، ألمئذٍ. ولعلَّ في فجيعة فقد الأم -وهي الأمَّة- نسفاً لأحد أسطونين رئيسين، في حياة المرء هما: الأم والأب، دونهما يشعرالمرء باليتم الحقيقي. إذ طالما يحسُّ أحدنا-كما كان حالي وأنا في نهاية العقد الرابع آنئذ-أنه لما يزل يمتلك جزءاً من الطفولة المفقودة، حتى وإن غدا جداً، في عمق جدوديته، أوفي حدود ذلك، كما حالتي، وحالة صديقي أبي مالين .
  وعلاقة إبراهيم محمود، بأمِّه، أعرفها، من خلال طول عشرتنا الشخصية التي تمتدُّ لثلاثة عقود ونيف، منذ أن جمعتنا غواية الكلمة، لنتفق حيناً، ونختلف، حيناً آخر، كما حال أبناء البيت الواحد، وهو شأن كل خلاف بين أسرة كتابنا كما أزعم. فقد كانت العنوان الذي يلوذ به، شاباً، ومن ثمَّ أباً، وجداً -وهو الداخل حرم الحالة منذ أسابيع- لها حصتها اليومية في روزنامته، ينهل من فيض حنانها الأمومي، الأكثر عذوبة، بل هي الاسم الأكثر تعلقاً به، من قبله، أنَّى ذكر شؤون أفراد أسرته، لمن حوله، ولعل ذلك بدا واضحاً، بعيد رحيل والده، طيب الله ثراه، و ارتفعت وتيرة تعلقه بها، أكثر، أكثر….، عندما تعرّضت منذ أكثر من عقد من الزمن للشلل النصفي، بل لترتفع معاناة هذه المربية الكردية الفاضلة، بأكثر..أكثر..، بعد أن تعرَّض حوضها- منذ أكثر من ثلاثة أشهر- لما يسمَّى ب”كسر الموت”الرهيب،حيث أعلن كاتبنا يأسه، وألمه، في أعلى شكليهما، وهويحدث مقربيه، هاتفياَ، أو كتابياً، لقاء:

وضع أمِّي آيس…!
وأنَّى لك، أن تفلح في مداراته، وهو ينقل إليك توصيف اللجنة الطبية، حيث لا أمل البتَّة، في شفائها، لاسيما في ظلِّ تدهور وضعها الصحي، يوماً بعد آخر. أجل، إن واحداً مثلي، فُجع برحيل أمِّه ثلاث مرات، مرة عندما غادرها، إلى هذا المكان الذي بات يستطيل زماناً، ومسافة، دون تحقيق حلمي، وحلم كل سوري شريف، حتى الآن، من دون وداع، لأني لم  أحتمل نهر دموعها السيالة، وانكسار نظرتها الجبلية، الشمَّاء، وهي التي حرستني، في الكثير من لحظات الشدَّة، -ولاسيما في الامتحان الكردي الآذاري-  ومرة لأنها رحلت عن عالمي، من دون وداع، وأخرى لأنها أطفأت كلتا عينيها، على صورتي كما كتب إبراهيم محمود عنها،  في مقال رثائي، عنها، آنذاك، وأنا بعيد عن عاصمة  الحلم” قامشلي”..!.
 بلى، وبعيداً عن الاسترسال الذي يدفع إليه شبه الحال، فإنَّ واحداً مثلي، كانت رسالة أبي مالين عن أمِّه، تصله، بكل ذبذبات الحزن العالية جداً، إلى درجة  كيِّ فضاء اللحظة، لأنها قبل كل شيء أم ٌّكردية، نبيلة، فاضلة، ربَّت أبناءها على القيم العالية، ومن بينهم الفنان، أو الكاتب الذي لا يتلكأ سوانا من وسم أمثاله ب” المفكِّرين” الأفذاذ، كيف لا؟؟ وهو الذي أنتج حتى الآن أكثر من خمسين كتاباً، بين الإبداع الشعري، والروائي، والفكر، والفلسفة، والنقد، والقضية الكردية، والبحث……- بلغته الأم وضرّتها- بل كان أحد الأسماء الشامخة في 12 آذار2004- وهل بيننا من ينسى هذه الانتفاضة العظمى؟- ولا يزال صاحب الموقف الشجاع- قياساً لقتامة اللحظة السورية في مهادها- ولن أبالغ حين أقول: إن الأجيال القادمة، ستتقصى تاريخ كاتب عملاق كإبراهيم محمود-مهما اختلفنا معه أو اتفقنا- كما غيره من المبدعين الكرد الأكثر حضوراًَ، كردياً، وعربياً، وعالمياً ،وستمنحه  هذه الأجيال من المكانة ما لم نمنحه إياها، لهذا السبب أو ذاك، لاسيما في ظل ارتفاع صوت الدعي، بأعلى من المبدع الحقيق…!.
إن أماً، يكون أحد آثارها كاتباً ذا حضور كبير كإبراهيم محمود، هي أمٌّ كردية، استثنائية، فريدة، لأن أبناء كردستان  الكبرى، المقبلة، سوف يقرؤون فكر هذا الرجل، بعد مئات السنين، وثمَّة من سيشير إلى أسرته، وأبويه، وتنشئته، وفِقره المدقع، في زمن يعيش فيه الكثيرون من اللصوص، والأدعياء، والفاسدين، والمهزومين، سعداء، ميسورين، بل إن في أمثال هؤلاء من سيطعن أمثال إبراهيم محمود، انطلاقاً من عقدة الهزيمة أمام اسمه الكبير.
هل تراني، خرجت عن متن النص، أم إنني مازلت في صلبه؟، سأجيب بنفسي: بلى، أنا، في متن المتن، ولعلي أجلت مثل هذا الكلام طويلاً، كما سواي، وها أجد الفرصة مناسبة، كي أقولها، في حضرة الصديق النبيل، والأكثر وفاء، لعلي أسليه، عبر مسافة شريط من السرد،  لا أكثر،عن مرارة الفقد الباذخ، و شبح الألم الذي يحيط بأبي مالين –وهو بكرأمه- حيث يلوح لها تلويحته الأخيرة،  منكسرة، مطعونة  الظل، والخطوط، والمناديل،بعد أن توزع بعض روحها، في الكثير من النتاجات الثمينة لإبراهيمنا محمود الموقف، والشهامة، والوفاء.
الشارقة
14-4-2012

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…