دلور ميقري
1 ـ دربُ الزبَداني:
أولُ مَشهدٍ اختزنتهُ ذاكرتي، هوَ أشبَهُ بالحلم أو الرؤيا.
ربما كنتُ في العام الثالثِ، من عُمْري الغضّ، عندما رأيتني في سيارة خالي الأكبر، المُتجهة إلى” الزبَداني “؛ دُرّة مصايف الشام. ثمة، في الطريق الضيّقة، التي تصعدُ بنا خللَ قرية ” دمّر “، أو ربما توأمها ” الهامَة “، جدَّ ذلك المَشهد السحريّ، المَوْسوم آنفاً: جَمْهرة من الناس، المُحتفلين على وقع الطبل والزرناية، بعُرْس على الأغلب، اعترضوا فجأة ً مَسيرَ مركبتنا الصغيرة. كانوا بألبستهم المُميّزة، الريفيّة، يُشعلون المساءَ بأهزوجةٍ رائعة، شعبيّة، اشتهرَتْ على لسان كبار المُغنين؛ أمثال صباح فخري وفيروز وشادية، يقولُ مَطلعُها:
1 ـ دربُ الزبَداني:
أولُ مَشهدٍ اختزنتهُ ذاكرتي، هوَ أشبَهُ بالحلم أو الرؤيا.
ربما كنتُ في العام الثالثِ، من عُمْري الغضّ، عندما رأيتني في سيارة خالي الأكبر، المُتجهة إلى” الزبَداني “؛ دُرّة مصايف الشام. ثمة، في الطريق الضيّقة، التي تصعدُ بنا خللَ قرية ” دمّر “، أو ربما توأمها ” الهامَة “، جدَّ ذلك المَشهد السحريّ، المَوْسوم آنفاً: جَمْهرة من الناس، المُحتفلين على وقع الطبل والزرناية، بعُرْس على الأغلب، اعترضوا فجأة ً مَسيرَ مركبتنا الصغيرة. كانوا بألبستهم المُميّزة، الريفيّة، يُشعلون المساءَ بأهزوجةٍ رائعة، شعبيّة، اشتهرَتْ على لسان كبار المُغنين؛ أمثال صباح فخري وفيروز وشادية، يقولُ مَطلعُها:
” يا طيرة طيري يا حمامة ، ودّيني دمر والهامة “
*
ما تستحضرُهُ ذاكرتي عن انبهار الطفل، الذي كنتهُ، بالمَشهدِ الحُلم ِ، كانَ متأتٍ ولا رَيْب من ذلكَ الانسجام العَجائبي، المُذهل، بين النّغم والضوءِ.
لحظة الذكرى تلك، عليها الآن أن تتماهى بصدى أصوات الانفجارات و وَميضها، المُرْهِب والمُرْعِب، كيَ يَتبدّدَ، ربما، انسجامُ المَشهد الطفوليّ الحَميم، الحالِم؛ كي يُودَى به، هذه المرّة، إلى لجّة الكابوس.
2 ـ بلدَة الجدّة:
” الهَوى لحْظ ُ شآميّةٍ ، رَقّ حتى قلتهُ نفذا “
هذا المَقطعُ، هوَ من قصيدة سعيد عقل، الرائعة، ” مُرَّ بي “، المُتغنيَة بنهر بَرَدى؛ والتي فيروز، بدَورها، خلّدته بسِحْر غنائها الشجيّ. إنه مقطعٌ، قد يُوَصِّفُ ما أخالُ أنها مشاعر جدّي لأبي، حينما وَقعَ نظرُهُ لأوّل وَهلةٍ على عينيّ حسناءٍ، زبدانيّة، أضحَت للتوّ زوجته. و بلغ من هيامِهِ بصاحبَة العينين النفاذتين، اللازورديتين، أنه لم يُقدِم على الزواج بغيرها؛ مُخالفاً بذلكَ العُرْفَ الشائع، الراسخ زمنئذٍ.
من ناحيتي، فإنني أجزمُ بأنّ مشاعري الطفلة عن مَشهد وادي الزبداني، المُتبدّي للنظر لأول مرّة، لا يُمكن تجسيدها على الورق بشكل دقيق، مُحقّ. حتى مفردة ” الانبهار “، فإنها لتقصُر عن المعنى الصائب، المطلوب؛ أنا من كنتُ أهمي يومئذٍ بنظري من فوق الأعالي الصخرية، المُشجّرَة، شاملاً ذلك المشهد المُنتمي للفردوس الربانيّ، الأكثر علواً: لا غروَ، إذن، أن تسمّى قريتان، تابعتان للزبداني، إحداهما بـ ” الفردوس “، والأخرى بـ ” الروضة “.
في سنّ الطفولة، كنتُ بنفسي أنعتُ بـ ” الجنة ” مزرعة ابنة خال أبي، أمّ شحادة، المُزدهيَة بأنواع الشجر المثمر، مثل التفاح والدراق والأجاص والخوخ والكرز والمشمش والسفرجل والتين. هذه المزرعة، المُزدهرة، كانت تركنُ بإزاء نهر الزبداني؛ أحد مصادر نهر بردى، المُبتدِه انحداره من منبعه ثمّة نحوَ بلدات وقرى الريف الدمشقيّ، القريبة والبعيدة ـ كمَضايا وبقين والجديدة وبسّيمة وعين الفيجة وجمرايا والحسينية والهامة ودمّر والربوة.
*
من صوَر أخرى، في الذاكرة، أستعيدُ دوماً ما كانَ من رهبتي، طفلاً، لأثرَيْن حَسْب في بلدَة الجدّة: القطار والمخفر. لم يكُ هذا الشعورُ بالخوف، المَوْصوف، بمَعزل عن تأثير الآخرين؛ وهم هنا بعضُ أطفال تلكَ المنطقة، المُعابثين. فبالرغم من وجود أخي الكبير، المَشهود بالقوّة والجَسارة، فإنّ أولئك الأتراب اعتادوا على النظر إلينا كنماذج لأبناء العاصمة، المُدللين الرخوين؛ أو ” الشوام “، بحَسَب تعبيرهم الساخر، المُزدري.
اليوم، لا بدّ أن أحفاد أترابنا، ” الزبادنة “، هم في سنّ ذلك الطفل، الذي كنته؛ أيْ حينما حضرتُ للمرّة الأولى إلى بلدة جدّتي، قبلَ أن تغدوَ مدينة مُعتبَرَة. كما أنّ اعتقادهم السالِف عن طبع أهل العاصمة، ربما ما يفتأ راسخاً في نفوسهم؛ ولوْ أنه لسببٍ آخر، وَجيهٍ هذه المرّة: ضعف حركة الاحتجاج ضد الاستبداد، ثمة في مدينة دمشق، مقارنة بريفها الثائر، المُشتعل بقوّة منذ مستهلّ ربيع العام الماضي.
القطارُ، القادمُ من العاصمة، لم يَجُز له أن يُرهِبَ أطفالَ الزبداني، حتى عندما أتى إليهم مُحمّلاً بالشبيحة، وغيرهم من أصناف القتلة.
أما المَخفر، رمز السلطة، فإنه قد يكون زالَ بزوالها مؤقتاً عن هذه المدينة، الفاتنة؛ التي استطاع أبناؤها تحريرها بمعونة أفراد جيش الثورة، الحرّ.
3 ـ بسّيمة:
منذ أن اقتربتُ من سنّ العاشرة، أضحَتْ إحدى القرى التابعة لقضاء الزبداني، هيَ مَعْقِدُ عطلتنا الصيفية، غالباً. إنها ” بَسّيمَة “، التي يَنحدرُ منها أحدُ أصدقاء عمّي. زوجة الرّجل، صارَ لقبُها مُتلازماً مذ ذاك الحين مع منزلهما؛ حيث كنا ننعته ببساطة: ” بيت أم محي الدين “. هذا البيت، الريفيّ السّمَة، كان يقعُ على بعد خطوات قليلة من مجرى النهَيْر الدافق، المُشكّل أحد أفرع النهر الأبّ؛ بردى. ثمة، على ضفتيْ النهير، كانت تقوم الاستراحات الموسميّة، التي يؤجرها أصحابها من أهل القرية إلى العائلات الدمشقية بشكل خاص.
كأنما اسمُ هذه القرية، هوَ صورة عن وجهها الناصع، البَسّام، أو ربما صدىً للبَسمة التي لا تفارقُ فم أيّ من قاطنيها أو زائريها سواءً بسواء: ها هنا مكانٌ آسِرٌ، ينتمي لسِحْر الرّيف الدمشقي بأبهى معانيه وأكثرها بلاغة ً. فأينما يرتمي بصَرُكَ، فلا بدّ أن يصطبغ فوراً بلون الخضرة اليانعة، الغالبَة على المَشهد. لم يكُ غريباً، والحالة هذه، أن يُنعتَ أشهرُ منتزهات المنطقة باسم ” عين الخضراء “. فرسخ واحدٌ، يَفصل بسّيمة عن المنتزه ذاك، يَصلُ بينهما طريقٌ مظللٌ بالأشجار الباسقة، الوارفة الأفياء. القطارُ التقليديّ، كان يَمرّ من منتصف هذا الطريق؛ أين خط سكّته الحديدية، المُتصِلُ بدوره مع دمشق جنوباً والزبداني شمالاً. في حداثتي الأولى، كما سَلفَ القول، كنتُ أرهَبُ القطارَ وصدى زمجرته. بيْدَ أنّ سبباً آخر، جعلني لاحقا أحتفظ بخصلة الخوف تلك: وهيَ تجنب الحجارة الصغيرة، التي كان أحياناً يقذفها بعضُ الفتيَة خلل نوافذ القطار، رداً على تصرّف مماثل من لُدن أندادهم على الأرض.
*
هكذا مَسْلكٌ، في العلاقة المُلتبَسَة بين الريف والمدينة، أُجيزَ لي أن أعاينه في مكان آخر وزمن مختلف: قبل حوالي ثلاثة أعوام وبينما كان القطارُ، الذي يقلنا من العاصمة المغربية إلى مدينة ” طنجة “، قد أصبَحَ على مشارف هذه الأخيرة، إذا بنا نروَّعُ بسَيل من الحجارة، المُسدّدة على نوافذ المقطورات، والتي كان مصدَرُها صبيَة صغار يَكمنون على طرف الطريق.
منذ نحو سنة، فإنّ حجارة فتيَة ” بسّيمة ” أضحَى لها هدفٌ آخر؛ وهوَ شبحُ الموت، القادم على قطار القمع السلطويّ. اسمُ هذه القرية الدمشقية، المُقاومَة، صارَ أيضاً أثيراً على مَسْمَع كلّ سوريّ تائق للحرية والكرامة؛ تماماً، كما كان اسمُ ” بيت أم محي الدين “، الجاري على لساني في طور طفولتي، الأول.
4 ـ من بَسّيمَة إلى الزبَداني:
بَسّيمَة؛
في أيّ ليل آفلْ
كنتِ الشجرَة لِصَمْغ مَنامي، السائلْ
سِماطاً مُعْشوْشباً على كتِفَيْ
نهرِ العُمْر لمَأدبة الطفولة، الكبرى.
آه، يا بَسّيمَة:
لأنتِ بَسْمَةٌ من عِناب الذكرى
على الثغر الكهفِ لِلحْف الوادي
فوحُ خزامى تائهٌ، لكي يَهتدي إليْ.
*
عين الخضراء؛
مَسلكٌ مِخلاة ٌ
الدُرّ فيه حَوْرٌ وماءْ
سِكّة ٌ دَرْبٌ
فلزُ مَعْدَنِها تشتِتهُ أنفاسُ الفجرْ.
يا خضراءْ:
لتشربَ عينُ الحَبيبة لونكِ، بمِقْدار
نبراسٌ أخضر مَقهاكِ
آنسَ ملائكَ الذاكرة في دُجى العُمرْ.
*
الزبداني؛
مَنزلٌ على القِمّة
ثديٌ أثيلٌ، حلمتهُ مَغسولة بضوء الأحلامْ.
على الوادي مزرَعَة ٌ
قِبْلٌ وَثيرٌ، غرْسُهُ ظِلالٌ للرّخامْ.
صيفٌ على الزبداني:
صبيّة عابثة، أردافها تتهادى مُتكوّرة ً
بين منزل الأخوال ومزرعة جدّتي
ذاكَ سيرانُ طفولتي.
ما تستحضرُهُ ذاكرتي عن انبهار الطفل، الذي كنتهُ، بالمَشهدِ الحُلم ِ، كانَ متأتٍ ولا رَيْب من ذلكَ الانسجام العَجائبي، المُذهل، بين النّغم والضوءِ.
لحظة الذكرى تلك، عليها الآن أن تتماهى بصدى أصوات الانفجارات و وَميضها، المُرْهِب والمُرْعِب، كيَ يَتبدّدَ، ربما، انسجامُ المَشهد الطفوليّ الحَميم، الحالِم؛ كي يُودَى به، هذه المرّة، إلى لجّة الكابوس.
2 ـ بلدَة الجدّة:
” الهَوى لحْظ ُ شآميّةٍ ، رَقّ حتى قلتهُ نفذا “
هذا المَقطعُ، هوَ من قصيدة سعيد عقل، الرائعة، ” مُرَّ بي “، المُتغنيَة بنهر بَرَدى؛ والتي فيروز، بدَورها، خلّدته بسِحْر غنائها الشجيّ. إنه مقطعٌ، قد يُوَصِّفُ ما أخالُ أنها مشاعر جدّي لأبي، حينما وَقعَ نظرُهُ لأوّل وَهلةٍ على عينيّ حسناءٍ، زبدانيّة، أضحَت للتوّ زوجته. و بلغ من هيامِهِ بصاحبَة العينين النفاذتين، اللازورديتين، أنه لم يُقدِم على الزواج بغيرها؛ مُخالفاً بذلكَ العُرْفَ الشائع، الراسخ زمنئذٍ.
من ناحيتي، فإنني أجزمُ بأنّ مشاعري الطفلة عن مَشهد وادي الزبداني، المُتبدّي للنظر لأول مرّة، لا يُمكن تجسيدها على الورق بشكل دقيق، مُحقّ. حتى مفردة ” الانبهار “، فإنها لتقصُر عن المعنى الصائب، المطلوب؛ أنا من كنتُ أهمي يومئذٍ بنظري من فوق الأعالي الصخرية، المُشجّرَة، شاملاً ذلك المشهد المُنتمي للفردوس الربانيّ، الأكثر علواً: لا غروَ، إذن، أن تسمّى قريتان، تابعتان للزبداني، إحداهما بـ ” الفردوس “، والأخرى بـ ” الروضة “.
في سنّ الطفولة، كنتُ بنفسي أنعتُ بـ ” الجنة ” مزرعة ابنة خال أبي، أمّ شحادة، المُزدهيَة بأنواع الشجر المثمر، مثل التفاح والدراق والأجاص والخوخ والكرز والمشمش والسفرجل والتين. هذه المزرعة، المُزدهرة، كانت تركنُ بإزاء نهر الزبداني؛ أحد مصادر نهر بردى، المُبتدِه انحداره من منبعه ثمّة نحوَ بلدات وقرى الريف الدمشقيّ، القريبة والبعيدة ـ كمَضايا وبقين والجديدة وبسّيمة وعين الفيجة وجمرايا والحسينية والهامة ودمّر والربوة.
*
من صوَر أخرى، في الذاكرة، أستعيدُ دوماً ما كانَ من رهبتي، طفلاً، لأثرَيْن حَسْب في بلدَة الجدّة: القطار والمخفر. لم يكُ هذا الشعورُ بالخوف، المَوْصوف، بمَعزل عن تأثير الآخرين؛ وهم هنا بعضُ أطفال تلكَ المنطقة، المُعابثين. فبالرغم من وجود أخي الكبير، المَشهود بالقوّة والجَسارة، فإنّ أولئك الأتراب اعتادوا على النظر إلينا كنماذج لأبناء العاصمة، المُدللين الرخوين؛ أو ” الشوام “، بحَسَب تعبيرهم الساخر، المُزدري.
اليوم، لا بدّ أن أحفاد أترابنا، ” الزبادنة “، هم في سنّ ذلك الطفل، الذي كنته؛ أيْ حينما حضرتُ للمرّة الأولى إلى بلدة جدّتي، قبلَ أن تغدوَ مدينة مُعتبَرَة. كما أنّ اعتقادهم السالِف عن طبع أهل العاصمة، ربما ما يفتأ راسخاً في نفوسهم؛ ولوْ أنه لسببٍ آخر، وَجيهٍ هذه المرّة: ضعف حركة الاحتجاج ضد الاستبداد، ثمة في مدينة دمشق، مقارنة بريفها الثائر، المُشتعل بقوّة منذ مستهلّ ربيع العام الماضي.
القطارُ، القادمُ من العاصمة، لم يَجُز له أن يُرهِبَ أطفالَ الزبداني، حتى عندما أتى إليهم مُحمّلاً بالشبيحة، وغيرهم من أصناف القتلة.
أما المَخفر، رمز السلطة، فإنه قد يكون زالَ بزوالها مؤقتاً عن هذه المدينة، الفاتنة؛ التي استطاع أبناؤها تحريرها بمعونة أفراد جيش الثورة، الحرّ.
3 ـ بسّيمة:
منذ أن اقتربتُ من سنّ العاشرة، أضحَتْ إحدى القرى التابعة لقضاء الزبداني، هيَ مَعْقِدُ عطلتنا الصيفية، غالباً. إنها ” بَسّيمَة “، التي يَنحدرُ منها أحدُ أصدقاء عمّي. زوجة الرّجل، صارَ لقبُها مُتلازماً مذ ذاك الحين مع منزلهما؛ حيث كنا ننعته ببساطة: ” بيت أم محي الدين “. هذا البيت، الريفيّ السّمَة، كان يقعُ على بعد خطوات قليلة من مجرى النهَيْر الدافق، المُشكّل أحد أفرع النهر الأبّ؛ بردى. ثمة، على ضفتيْ النهير، كانت تقوم الاستراحات الموسميّة، التي يؤجرها أصحابها من أهل القرية إلى العائلات الدمشقية بشكل خاص.
كأنما اسمُ هذه القرية، هوَ صورة عن وجهها الناصع، البَسّام، أو ربما صدىً للبَسمة التي لا تفارقُ فم أيّ من قاطنيها أو زائريها سواءً بسواء: ها هنا مكانٌ آسِرٌ، ينتمي لسِحْر الرّيف الدمشقي بأبهى معانيه وأكثرها بلاغة ً. فأينما يرتمي بصَرُكَ، فلا بدّ أن يصطبغ فوراً بلون الخضرة اليانعة، الغالبَة على المَشهد. لم يكُ غريباً، والحالة هذه، أن يُنعتَ أشهرُ منتزهات المنطقة باسم ” عين الخضراء “. فرسخ واحدٌ، يَفصل بسّيمة عن المنتزه ذاك، يَصلُ بينهما طريقٌ مظللٌ بالأشجار الباسقة، الوارفة الأفياء. القطارُ التقليديّ، كان يَمرّ من منتصف هذا الطريق؛ أين خط سكّته الحديدية، المُتصِلُ بدوره مع دمشق جنوباً والزبداني شمالاً. في حداثتي الأولى، كما سَلفَ القول، كنتُ أرهَبُ القطارَ وصدى زمجرته. بيْدَ أنّ سبباً آخر، جعلني لاحقا أحتفظ بخصلة الخوف تلك: وهيَ تجنب الحجارة الصغيرة، التي كان أحياناً يقذفها بعضُ الفتيَة خلل نوافذ القطار، رداً على تصرّف مماثل من لُدن أندادهم على الأرض.
*
هكذا مَسْلكٌ، في العلاقة المُلتبَسَة بين الريف والمدينة، أُجيزَ لي أن أعاينه في مكان آخر وزمن مختلف: قبل حوالي ثلاثة أعوام وبينما كان القطارُ، الذي يقلنا من العاصمة المغربية إلى مدينة ” طنجة “، قد أصبَحَ على مشارف هذه الأخيرة، إذا بنا نروَّعُ بسَيل من الحجارة، المُسدّدة على نوافذ المقطورات، والتي كان مصدَرُها صبيَة صغار يَكمنون على طرف الطريق.
منذ نحو سنة، فإنّ حجارة فتيَة ” بسّيمة ” أضحَى لها هدفٌ آخر؛ وهوَ شبحُ الموت، القادم على قطار القمع السلطويّ. اسمُ هذه القرية الدمشقية، المُقاومَة، صارَ أيضاً أثيراً على مَسْمَع كلّ سوريّ تائق للحرية والكرامة؛ تماماً، كما كان اسمُ ” بيت أم محي الدين “، الجاري على لساني في طور طفولتي، الأول.
4 ـ من بَسّيمَة إلى الزبَداني:
بَسّيمَة؛
في أيّ ليل آفلْ
كنتِ الشجرَة لِصَمْغ مَنامي، السائلْ
سِماطاً مُعْشوْشباً على كتِفَيْ
نهرِ العُمْر لمَأدبة الطفولة، الكبرى.
آه، يا بَسّيمَة:
لأنتِ بَسْمَةٌ من عِناب الذكرى
على الثغر الكهفِ لِلحْف الوادي
فوحُ خزامى تائهٌ، لكي يَهتدي إليْ.
*
عين الخضراء؛
مَسلكٌ مِخلاة ٌ
الدُرّ فيه حَوْرٌ وماءْ
سِكّة ٌ دَرْبٌ
فلزُ مَعْدَنِها تشتِتهُ أنفاسُ الفجرْ.
يا خضراءْ:
لتشربَ عينُ الحَبيبة لونكِ، بمِقْدار
نبراسٌ أخضر مَقهاكِ
آنسَ ملائكَ الذاكرة في دُجى العُمرْ.
*
الزبداني؛
مَنزلٌ على القِمّة
ثديٌ أثيلٌ، حلمتهُ مَغسولة بضوء الأحلامْ.
على الوادي مزرَعَة ٌ
قِبْلٌ وَثيرٌ، غرْسُهُ ظِلالٌ للرّخامْ.
صيفٌ على الزبداني:
صبيّة عابثة، أردافها تتهادى مُتكوّرة ً
بين منزل الأخوال ومزرعة جدّتي
ذاكَ سيرانُ طفولتي.