شطحات حبرية بصدد الأنثى

  بقلم :   حنّان قره جول

         المرأة تجتاح صدر مقالتي الموجزة هذه ، فقد أرّقت هذه الكائنة وكانت أهم أدوات التشويش الفعّال لكل مستقبلات و مرسلات و مبينات و إحداثيات الآخر من جنسها و أحدهم كما يبدو أنا ، ولذلك عزمتُ الأمر للوقوف لبرهةٍ و لحظةٍ عند أنثى تحد و توقف الكثير من المشاوطات الماهية ، للاستشعار كغيري بها و للاستقراء محللاً فيها و للاستعقال فاهماً إياها و للاستهزاء عليها و علينا.
فالأنثى كانت من قطع فان كوخ كأعظم رسام أذنه ليهديها لها، و هي في حلة أخرى كانت الأنثى المتشردة التي ارتشفت بقبلة ,غافلة خجولة من مكسيم غوركي ، كل همومه التي نخرت فيه حد الإعياء و التقيؤ ، و أخرى كانت من عاش من أجل إطلالتها ستة و عشرون رجلاً ، دُفن نور حياتهم في قبوٍ تآخى مع القبور ، فكانت سبباً وحيداً لاستمرار حياتهم الكالحة التي دنت من الموت في قصة أخرى لغوركي(1). والمرأة الأم هي من حنّ محمود درويش إلى خبزها و قهوتها و لمستها ، و هي أيضاً من كانت بجسدها مساحة وطن ضائع بتضاريس جبالها و تناغم ألق الطبيعة الفتية فيها ، حلمٌ استشعر به جيكرخون مديداً ، وهي المراهقة البدوية التي أحالت مظفر النواب إلى إناءٍ يرتوي من حليب اللوز المتقطر من نهديها (2)، و هي المرأة اللغة التي رسم بكلماتها سليم بركات فصول إنشائه المائج ، و يأتي عبد الحليم يوسف بعده لاهثاً لكي يتورط احتراقاً فيها و يتحول إلى رماد يُكنّسُ عند قامتها المبجلة (3) ، وهي من أغرت أنكيدو ليمارس معها عهراً عفيفاً و يتحول بسببٍ من ذلك من إلهِ حياةِ الفلاة الوحشية إلى تمدن البشر و معرفتهم الداجنة.
وهي أنثى الخيانة و الإخلاص بجدليتهما ، فهي بلقيس الخيانة  المثلى في” سوبارتو الحرائق “، و هي أيضاً امرأة الإخلاص الطُرف في ” حب في زمن الكوليرا ” (4) عندما تقوم  فيها بمساعدة حبيبها الأبدي على مزاولة الانتحار ، ذاك الذي فقد قدرة التواصلِ ِ الكربِ ، و انتدبته كآبة اللاجدوى ، و سوداوية رؤى الحياة ، فتقوم بمساعدته و هي مدركة بأنها تقوم بأعظم فعل إخلاص  عرفه حبٌّ أسطوري كهذا ، بمساعدتها لحبيبها على الانتحار ، لأنها أدركت بحدس ما أن راحته و سعادته في الموت ، و هذا على ما أظن شأوُ وغاية الحب والحياة وبدونهما  فليحتضنا الموت إذاً فهذا شرف لنا وقتئذٍ .
و في رؤية أخرى فتاة بلشفية تقتل أسيراً يحاول الهرب من الأسر ، و هي تعرفه و تدرك بأنها قاتلة من أسر قلبها الغض ، فهو من أحبته بعشقٍ روسي ، و أحبها بذات الجنون ، و لكنه في النهاية ذاك الغريم و العدو الفكري فتقتله عشقاً و إخلاصاً للفكر و رفاقها ، فبدون هذا الإخلاص للذات و معتقداته الفكرية فلا مفهوم لأي إخلاص آخر .
         وهي حواء الخطيئة الأولى ، و هي الأم الموشومة دفئاً ، و الأنثى الهائجة المثيرة للعشق ، و الشريكة المبتورة من نصف يعادل في خلقنا الأول ، و هي ما فات و الآن و ألآت ، و هي اللابداية و اللانهاية ، فهي في الأخر بحر لا شواطئ له و هاجس لا قرار له .
ولأكمل سرد ما أكتبه ، اجتاح قداسة الآلهة ، و ما أكثرهم ..! و أصطف إلى جوارهم مُنصباً نفسي سيداً و إلهاً مؤقتاً ، و أعيش بزاويتهم و شروط ظروفهم ، لحظة خلق أسطورة خاصة بي و عن الأنثى بألوهية مطلقة و ربوبية شاملة فأنشأ أسطورتي التي تقول :.  خلقت الأنثى من دفتي روح الإحاطة النموذجي ، و على طيفٍ واسع من المحاولات الانتقائية للإبداع ، فلكل منتوج مدرجات فوضوية من المواد الأولية ، فأُخذ لهذه الصنعة الأنثى  ..
    من القمر المولوج شعاعه المستهلك من خيال الإسقاط و الإستعار ، ومن البحر تمادي عمقه و رهبة سّره ، و من موجه الزبدِ تراتيل مده و جذره ، و لتلوينها رسماً ، نأخذ من الورد رحيقه و شبقية لونه ، و للالتزام بقانون ديالكتيك الحياة و صيرورته بإتقان وتجسيد وحدة الأضداد و صراعاتها و لاستكمال صورة الأنثى في السرد المديد و الرؤية المشغوفة فنأُخذ بناء عليه من العلقم كل مرّه ، و من طاووس( زارا) خُيلاؤه  وزهو ريشه ، و من غزال شاردٍ شرود روحه ، و من اللجين تألقه و بريق نجمه ، و من النسيم لطفه و رقة أنفاسه , و لحركة أنثانا نأُخذ من الأفنان حفيفه و أنين أفنانه ، و من الظلال خجلها و حياء وجودها ، و من لبوه شراستها و حدة مخالبها ، و من الندى حنينها و شفافية قطراتها ، و من خصوص النحلة شهد عسلها و تعسف لسعاتها , و من آلمها و ما أدراك ما آلمها ؟… أجمل ما في نص البهيمية فيها و هي عيونها ..
          هكذا كانت لولبية أدراج الصنعة البديعة ، و هاك لنزاول حوارية عمر الأنثى  ، لنقسّم روح كل عقد لها و نجتر من الأرض جغرافية قاراتها و نمزج البدع من جديد بين العقود و الأقاليم .
ــ فالأنثى في مراهقتها تتمثل بقارة أفريقيا ، مجهولة و غارقة في طلاسم أدغالها و تشعيباتها المكنونة بقانون الغاب و صراعاتها ، و لكن رغم ذلك يجب أن لا ننسى بأنها غنية جداً ، بنشوتها الهائجة ، و ببعض تلك الاكتشافات الغضة في أجزائها مؤخراً .
ــ والأنثى في يافعة شبابها تتشبه بقارة آسيا ، غامضة ، صامتة ، قاسية بطقوس الشرق فيها ، و لكن لذيذة بدفئها الناعم و شهوتها الثائرة رغبةً .
ــ وفي حوالي العقد الرابع من عمرها تشبه قارة أمريكا ، قوية جداً ، و لكنها تدس أنفها في شؤون كل البلدان الصديقة منها قبل المعادية .
ــ والمرأة ما بعد سن اليأس تتطابق شبهة مع قارة أوربا ، منهوكة القوى ، كثيرة الطلبات ، و الشعارات ، و البيانات ، و المساحيق المجملة عبثاً .
ــ والمرأة في الستينات من سنوات عمرها تتناسب طرداً مع قارة استراليا الجميع يعرفها ..و لكن لا أحد يرغب بالذهاب أو الولوج إليها .
ــ وأخيراً المرأة في كهولتها فهي كميثاق الأمم المتحدة موجودة ، و لكن دون أي نفوذ وسلطة أبداً(5) ..
و على الرغم من معرفة الجميع بأن للمرأة تواطؤ بحر ساهٍ و بأنها ماءٌ إن ابتعدت عنها ظمئٍ إليها لا محال و إن اقتربت منها  فمصيرك غرقٌ يَتَحَيّنُ هلاكاً أكيداً ، و لكن أعظم ذكور العصر الزئبقي يختارون الغرق فيها على عدم تحملهم أعباء قفر العطش بعداً منها ، و يتقاذفون إليها ، كلٌ يردد بلغة ماهيته التي تهفو ، غزل غرقٍ يُقرأ على ألسنة حالهم ..
فيقول الشاعر الغارق فيها أنتِ يا مصدر إلهامي .
و يسابقه بالقول محتكر مالٍ فيقول يا كنز ثروتي و مالي .
و يعزف موسيقيٌٍ فيها و يقول يا بلبلاً غريداً وحاني .
و يشخص طبيبُ فيها داءه و يقول يا دواءً و بلسماً شافي .
و يزرع فيها فلاحُ أدمن الترابات فيقول يا زيتوناً و سماقاً و بلوطاً أنعش أرضي و كان شذى رائحة ترابي .
و أما أنا فلا بد لي أيضاً من مقال فأقول لسان حالِ رسامٍ و كاتب ناشئ ، مُعبراً عن معشري  باشتهاء فاقدٍ يلقى ، فأقول يا نصفي الثاني .
نعم تتميز فسيفساء الفنون في مغتصبٍ لغوي لنون النسوة ، و هاء الشهوة ، و دال الدائر ، فأوحى بنهدٍ جاور نهداً و تحفظا بقوة سرية يوشكان أن ينفجرا نشوةً بمزيةِ شهوتها الثائرة بوجهك و بقرارة تعقبٍ يستهدف لهفة أعضاءٍ ساخنة ، ومحرمة عندك ، فيتطاول شقي أحمق بسؤال أغبى منه على طقوس انبهارك الهائل .. أيهما  أجمل ، و أفضل ، شقراء ناعمة أم سمراء هائجة .. ؟
فكمن يسأل عن أجمل عين من عينين أو أشهى نهد من نهدين ، و كأنما يقول أي الحدين في نصل  السيف  أبتر .. و أقطع ..؟ فكلاهما في المحصلة وجهان لعملة واحدة و نهران يتدفقان إلى مصب واحد أحد .
و لم أدري كيف أقحم فكرة استعرتها من رواية لأحلام مستغانمي في صدر المقالة لضرورة مغزاها , فأدليها مثلما هي , و بما معناه ” إن المرأة الشرقية تفني حياتها في المطابخ و هي تقدم لنا الأطعمة و المأكولات و كثيراً من الأحيان لا ننتبه إليها و هي تنام جائعة ، ونزاود عليها , مثلما تقدم جسدها وليمة شهوانية لتشبع غرائزنا المنتفضة و لكنها لا تنفك أن تنام أيضاً جائعة و مثارة . أذاً أم أنها تستمتع بهذا الجوع الأبدي أو تخضع للطقوس السادية والاستبداد الممارس ضدها دوناً عن أي مقاومة, بسبب من أصالة عقدة الأضتهادوية  عند أنثنا التي لا تريد أن تبذل أي مجهود في سبيل تحررها , فعلينا أن لا ننسى بأن الحرية لا تعطى عطاء بل تنتزع انتزاع , فلذا يجب عليها أن لا تخضع لحدود إتيان معجزة لأستخلصها من عجزها , وفي أغلب الأحيان تعقد الآمال على فارس أحلامها الوهمي الذي يكون أكثر فتكاً فيها , فيما بعد أو أن تكتفي بمجرد الطلب وانتظار الزكاة عليها بحقها الشرعي , بل مثلما سبقنا بالقول يجب أنزاع الحق رغماً عن الجميع .
فهذه كانت الأنثى, قزحاً صُوّر في مقال متضاد متناقض ولكن يشكل وحدة تكوين تام في أطار متكامل هي ..المرأة فالوجه صورة عن الفكرة .
          ولا بد لي في المطاف أن أختم عتبات مقالتي بلهجة شرقية أبوية ،  ونصيحة كهنوتية ،  بإطار لقماني أن أدليها لقارئي الأعزب :
ــ صديقي أرجو أن لا تتزوج من ارستقراطية وافرة الغنى ، إذا كنت معدماً رقيق الحال ، تقوم مثلي بسبب من عوز النقد ، بالرسم على الحجر والشجر وكل ما لا يشترى و يباع .
ــ ولا تتورط يا صديقي بأنثى ، عنجهية ، منظرة ، إذا كنت جاهلاً ، غشيم الدراية بعلوم التقانة و ثقافة الآن و فنونها”المعصرنة “.
ــ ولا تقرب يا صديقي فتاةً متحررةً من كل قيود الملبس ، فاضحة كل فواكهها الشهية و عارضة مفاتنها الحارقة , بمجانية للمحدق , ليلهث تعطشً في حضرة خلجانها ومنحدراتها الشبقية , إن كنت قوقعي الذات , ضيق البال , فوضوي الشكل و ملتحي الذقن و لست من دعاة ديمقراطية     ” الموضة “.
ــ ولا أيضاً يا صديقي من حسناء ممشوقة القوام منتفضة النهد ، بهية الطلعة ، إذا كنت قبيح الخلقة أو دميم الشكل أو غيور الطبع المشتق من علوم الطبائع .
   وإذا اجتمعت الصفات كلها فيك أو لم تكن من هواة المسؤولية فاعتكف مثلي و عزي نفسك بترديد ما قاله جان جاك روسو حين قال من لا يستطيع أن يقوم بواجب حمل الأسفار و الأوزار فلا يحق له أن يكون زوجًا و حمار ..
و إذا كنت مصراً على الارتباط فابحث عن أنثى تكون ندك و نصفك المبتور من خلقنا الأول ، فلأنك إن اقترنت بمن هي فوقك استشاطت تمارس ساديّة عليك ، و إن اقترنت بمن هي دونك تبعتك كظل لا معنى لها إلا كشكل دوني يستمتع بأذى مازوخي ..
فإذا أردت قامر و تذكر ما قاله سقراط لأحد تلامذته اذهب يا بني و تزوج فإن حظيت بزوجةٍ فاضلة كنت سعيداً ، و إن ابتليت بزوجةٍ سفيهة كنت فيلسوفاً مثلي …وكلاهما خيرٌ عليك .
   ونزاود في النهاية مجترّين من جدةٍ قولها بلهجتها الكرداغية:
  “”ge nebê nabê
1- قصتان “مرة في الخريف “و “ستة وعشرون رجلاُ و امرأة” مجلد (3) قصص قصيرة –مكسيم غوركي .
2-بداية الحركة الأولى لقصيدة مظفر النواب “وتريات ليلية”.
3-خاتمة رواية “سوبارتو الحرائق”-عبد الحليم يوسف.
4-“حب في زمن الكوليرا”-رواية-غابرييل غارسيا ماركيز.
5-صُرف و حوّر بشدة حدود اللاتطابق من بستان و ورود.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…