يذكر أن كوميتا “نوبهار” عبارة عن لجنة ثقافية – مستقلة تعني بالشأن الثقافي العام وتمارس نشاطها الثقافي كل شهر باللغة الكردية والعربية ، وتعطي للفكر والثقافة والإبداع بمختلف ضروبه الاهتمام وتسليط الأضواء على التجارب الشابة الجديدة ناهيك عن اهتمامها بالمواضيع الرصينة والمحاضرات الفكرية والفلسفية الجادة .
بإمكان أحبتنا الكتاب والمعنيين بالشأن الثقافي مراسلتنا على هذا العنوان:
nubihar@yahoo.com
malvamin@yahoo.com
وفيما يلي نص المحاضرتين :
المثقف الكردي بين الدور والمهام
روني علي
قبل الدخول في موضوعة المثقف الكردي، وإشكاليات الفعل الثقافي، لا بد لنا من طرح التساؤل التالي؛ ترى أي ثقافة تلك التي ساهمت في بلورة الشخصية الثقافية الكردية، وما هي المرتكزات المعرفية التي تشكل بالنسبة للمثقف الكردي، المنهل الذي يستمد منه ملاكاته ومخزونه الثقافي، وبالتالي؛ هل هناك ما يمكن أن نسيمها بالثقافة الكردية بالمعنى الدقيق للكلمة، وعلى ضوئها نحدد ملامح رسالة المثقف الكردي ..؟ وهل أستطاع المثقف أن يجاري حركة التطور، ويخضع منتوجه الفكري والمعرفي لخدمة مجتمعه، وسط إرهاصات الحالة العامة، وتصارع القوى، وتشتت الذهنية المعرفية، بين أكثر من تيار وإيديولوجيا..؟.
بالعودة إلى التطورات التاريخية، والمخاضات التي تعرضت لها المنطقة، وخاصةً منذ ما بعد دخول الإسلام، واصطباغ الحالة الفكرية والثقافية بالطابع العروبي، كنتيجة طبيعية للتلازم القسري بين لغة القرآن وحركة بناء الدولة، الإسلامية الشكل، والعروبية الطابع والمضمون، لم يكن هنالك ثمة ثقافة تنحى باتجاه الطابع القومي وتعبر عن خصوصيتها، بموازاة الثقافة الإسلامية التي عبرت عن وجهتها العروبية، وحتى لو وجدت، فإن مصيرها كانت إما البقاء في شقوق الأرض، أو الفناء مع المشتغلين فيها، وذلك بحكم الإرهاب الفكري وطغيان ثقافة الدولة، وبالتالي فإن مجمل المساهمات الثقافية والنتاجات الفكرية المسموح بها، كانت داخلة ضمن سياقات الثقافة السائدة، وتصب رغماً عنها، في خانة الثقافة العربية، فكل ما ساهمت به المجتمعات التي تأطرت في أحضان الدولة الإسلامية، سجلت كماركة حضارية بالصبغة العربية، وإن كانت هناك قامات لها اليد الطولى في الحركة الفكرية والثقافية من غير العنصر العربي، ومن بينهم أبناء الشعب الكردي، وقد امتدت هذه الظاهرة الانكماشية قروناً من الزمن إلى أن أخذت ظاهرة المدارس الفكرية والفلسفية في الغرب إلى التبلور تدريجياً، والتي أسست لانطلاقة ثورات فكرية وثقافية، ساهمت إلى حد بعيد في عملية الانتقال المجتمعي من مرحلة إلى أخرى، إضافة إلى الحركة الثقافية التي تبلورت بدخول بعض مصادر المعرفة مع قوات الاستعمار الغربي، وتصارع القوى والتيارات الدولية، حول شكل وآلية عملية التطور في الحالة المجتمعية، سواء السياسية منها أو الفكرية والاقتصادية، وأفرزت فيما بعد؛ عن ما سمي بالصراع الطبقي داخل المجتمعات، وكذلك بسياسة الأقطاب، أو الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، على الصعيد الدولي، وذلك إبان نجاح الثورة الاشتراكية في روسيا، والتي كانت تهدف – تلك الصراعات – بالدرجة الأولى، إلى نوع من توازنات سياسية، وتكوين مراكز قوة دولية، الهدف منها توسيع دائرة الانتشار – وكل بحسب خياراته – بين المجتمعات والشعوب النامية، وبالتالي محاولة كسب رأي تلك المجتمعات إلى جانب مشاريعها، وذلك بغية تهيئة المناخات التي تساهم في مد النفوذ والسيطرة، وخلق مرتكزات المصالح الاقتصادية والاستراتيجية ..
وبنتيجة تلك الصراعات والتوازنات، وما جرى على الأرض من حروب سياسية وإيديولوجية، والتي شكلت في جوهرها المقصلة الحقيقية للنتاج الفكري المنفتح على الآخر، أو للشخصية القويمة والمستقلة من أبناء المنطقة، ترسخ نمط ثقافوي مشوه، يختزل في داخله المنتوج الفكري، الذي يمهد لإنتاج بذور الفرقة واحتكار الأنا لكل الآخر، وشكل بأبعاده، وعبر ادعاءات كل طرف، ومحاولته في احتواء بعض القوى والتيارات السياسية، سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة، وتحت شعارات معينة، وجرها إلى خنادق المواجهة، تشوهاً حقيقياً في الفكر والرؤية، بين قطاعات واسعة من أبناء هذه المجتمعات، حتى باتت الفاتورة التي قدمتها شعوبنا بنتيجة تلك السياسات، أكثر إيلاماً وأكثر حجماً وضريبةً، بحكم أن الصراعات التي تولدت جراء التناحر والتصارع بين تلك الإيدولوجيات وأقطاب الصراع، قد أخذت مساحتها بين أبناء الفئة الواحدة، وحتى الطبقة الواحدة، فباتت مجتمعاتنا تتناحر حول مفاهيم ومقاسات، لا تمتلك ركائزها على أرض الواقع، وإن كنا نعي ونؤمن بحقيقة الصراع داخل المنظومات الفكرية، وكذلك داخل الطبقات في المجتمع، وأن الحياة مستمرة على أساس الاختلاف وصراع الأضداد، وأن الثقافة الحقيقية، أي ثقافة الإنسان، لا تتحدد هويتها من خلال العنصر والجغرافيا، كونها نتاج الفكر البشري، الذي ساهم ويساهم بالتفاعل والتواصل في بناء حضارة الإنسانية..
في هكذا مناخ وإشكاليات هكذا ثقافة، ونتيجة للتلاقح والتفاعل، أو التصارع والتناحر، بين إفرازات القيم المعرفية والمنظومات الفكرية والفلسفية، التاريخية منها والمعاصرة، التي حفرت مساراتها في واقعنا، والتي وإن كانت تختلف حول قضايا معينة، وخاصةً فيما يتعلق بمسائل المادة والروح، أو حول بعض المسائل الفلسفية، وشكل الصراع المجتمعي، إلا أنها كانت تصب عبر ممارستها – كإيديولوجيا – في خانة الفكر الشمولي، وتحاول أن تقولب العقل البشري ضمن سياقات معينة، سواء بالترغيب أو الترهيب، كون الذهنية التي ترسخت في أساسيات الحياة العامة، من جراء طغيان ثقافة الأنا أو العنصر، واستناد الأنظمة السياسية عليها كحامل لاستمراريتها، شكلت حاضنة ثقافية قد تتغير في الشكل بفعل المتغيرات، لكنها تستمر في التعامل كنمط ونموذج ضمن آليات الحراك المجتمعي . نقول في هكذا مناخات، وفي ظل امتلاك هذه الثقافات لبذرة الاقصاء والاستبداد، واحتضانها لنزعة الأنا على حساب الآخر، لكونها لم تمتلك مقومات ثقافة الإنسان، بماهيته وكينونته، بقدر أنها كانت ثقافة المنهج والسلطة والإيديولوجيا، نشأت الحياة الثقافية في واقعنا في العهد الحديث، وهي تصارع الاستمرار بين فكي كماشة، السلطة كأداة قسر وقمع من جهة، والإيديولوجيا كحالة احتوائية، وقيد على تطور الفكر من جهة أخرى، ناهيك عن أن هذه الإيديولوجيات كانت تشد من أزر المركز على حساب الفئات والشرائح المجتمعية، وذلك بحكم تداخل المصالح بين من في مركز القرار، والقوى التي كانت تقف وراء نشر مثل هكذا ثقافة، وعليه؛ فقد جاءت المراحل التي أعقبت الكولونيالية والحربين العالميتين الأولى والثانية، في مواجهة الفكر الذي يهدف إلى استدعاء الإنسان كقيمة حضارية، ورسخت مضامين الإلغاء والإلحاق والاقصاء والتبعية، وهي الحالة التي أفرزت تشوهاً ملحوظاً في أداء القوى والتيارات، السياسية منها والثقافية، حيال مجمل القضايا التي واكبت تلك المرحلة، والتي بدورها أثرت سلباً في عملية الاستنهاض القومي، وخاصةً لدى الشعوب والقوميات التي عانت أكثر من غيرها التشتت والتقسيم، من جراء معادلة المصالح الدولية التي أنتجت الاتفاقات والتوافقات، بشأن اقتسام الخيرات وتقسيم الخارطة الجيوسياسية، وقد كان نصيبنا نحن الكرد، حصة الأسد من تلك المشاريع التقسيمية، حيث أفرزتنا تلك الاتفاقيات كأمة مشتتة وجغرافية مقسمة ومجزأة إلى العصر الذي سمي من قبل مهندسي خارطته بعصر التعايش بين الشعوب والثقافات ..!!.
إذاً؛ في هكذا ظرف تاريخي / سياسي، وفي أحضان هكذا توازنات، وترافقاً مع الحالة الاجتماعية التي تعرض لها الكرد، من جهل وتخلف، بحكم أنهم كانوا يشكلون – ودائماً – القومية المضطهدة في مناطق تجزئتهم، لم تتشكل مرتكزات ثقافة قومية بمعناها الدقيق، حتى أن التراث القومي للشعب الكردي، لم يخرج من دائرة الصدور إلى حقل السطور، وبقيت الحياة الاجتماعية الكردية، ونمط العلاقات فيها، خاضعاً لمشيئة السلطة والسلطان من لدن القوميات السائدة، وعليه؛ لم يمتلك الشعب الكردي ثقافته القومية الخاصة به، وإن كنا ندرك تمام الإدراك كما قلنا، ما قدمته القامات والطاقات الكردية من خدمات ونتاجات إلى المكتبات الثقافية لدى القوميات السائدة، والأمثلة فيها أكثر من أن تحصى وتعد، إلا أن ذلك لم يشكل بالنسبة إلى الشعب الكردي نقطة، أو انعطافة في حقل التأسيس لثقافة كردية، كون اللغة التي كتبت بها تلك النتاجات، كانت غريبة بالنسبة إلى أبناء الشعب الكردي، وبما أن اللغة هي فكر وأداة للتواصل، فإن الانقطاع كانت هي السمة الطاغية بين الشعب ونخبه المتنورة على مر عقود من الزمن، ناهيك عن تفشي ظاهرة الأمية، والتي هي الأخرى تفعل فعلها في الإبقاء على المجتمع رازحاً تحت سطوة الجهل والتخلف ..
نعود ونقول؛ أن عملية التناحر والتجاذب بين القيم المعرفية، التي لم تمتلك رصيدها المجتمعي بشكله المتدرج، والخاضع لآليات التطور الفكري في واقعنا، والتي جاءت إما عبر حد السيف، أو بالاستناد إلى قوة الحديد وسلطة القمع والاستبداد، قد خلقت بحكم الممارسة، ذهنية مشوه في الحالة المجتمعية، وبالتالي أفرزت عن نموذج ثقافي مشوه، يتداخل عبرها الديمقراطية مع الاستبداد، وحرية الرأي مع قمع الآخر، وأسست لمنظومات يمكن القول عنها، أنها تفتقد إلى سماتها ومضامينها، وهي التي أنتجت ما يمكن أن نطلق عليه تسمية المثقف، أو المشتغل في الحقل الثقافي ..
واستناداً إلى تلك الذهنية، مع مراعاة كل حالة تاريخية بظروفها وموازين القوة فيها، وكذلك حجم الفعل الثقافي والمعرفي، بتنا – كحالة كردية – أمام مرحلة، سمتها النهوض القومي، وذلك إبان ما حدث في المنطقة من انكسارات حادة في السياقات التاريخية، وخاصةً بعد سقوط السلطنة العثمانية، وظهور الكيانات أو التيارات القومية، والتي حاولت، وعبر الاستفادة من مشاريع سلطات الوصاية والاحتلال والاستعمار، وكذلك من توازنات المصالح في السياسة الدولية، أن تحقق بعضاً من طموحها القومي على حساب القوميات الأخرى، مما أدت – هذه الحالة – وبالترافق مع ما أفرزتها التيارات الفكرية في الغرب من نزعات تحررية، وما طرحه ويلسون من مبادئ حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، وما تمخضت عن ظاهرة الاشتراكية من دعوات بشأن الأمم والقوميات والشعوب، والتي كانت تتمحور حول إلغاء الاضطهاد وتحقيق نوع من التكافل الاجتماعي، عبر تجسيد مبادئ التعايش على أساس حق تقرير المصير، إضافةً إلى انتشار ظاهرة التحرر الوطني والقومي في أكثر من رقعة جغرافية، وامتداداً لما كان يجري من مخاضات أو من ثورات وانتفاضات كردية، سواء تلك التي قام بها أكراد الشمال أو الجنوب، أو ما تم إنجازه كتجربة قومية في مهاباد، وما انتشر من ظاهرة الشعور القومي إثر نضال البارزانيين، توجت بعض الجهود القومية في كردستان سوريا بتأسيس حزب سياسي كردي في الخمسينيات من القرن المنصرم ..
وبما أن العلاقات المسيطرة في تلك المرحلة كانت خاضعة لنموذج قبلي وعشائري، وأن السلطة الزمنية في المجتمع الكردي كانت تتحدد من خلال الزعامات العشائرية، ناهيك عن تمركز أدوات العلم والمعرفة في قلة قليلة من أبناء الفئات والطبقات الميسورة، والتي لم تمتلك أدوات التواصل مع الشرائح الاجتماعية، وذلك بحكم الجهل والأمية من جهة، وسلطة القمع والاضطهاد من جهة أخرى، فإن انطلاقة الحركة الكردية كانت قائمة بالدرجة الأولى على أساس الشعور القومي، ولم تكن للثقافة دورها المطلوب لا في البرنامج السياسي للحزب الكردي، ولا في آلياته، بقدر استناد البرنامج إلى عامل الشعور والخطاب السياسي الذي كان سائداً آنذاك، والذي كان يجسد مفاهيم التحرر القومي والوطني، علاوةً على أن المفاهيم السياسية نفسها كانت مرتبطة إلى حد بعيد، بمسائل الشجاعة والرجولة، والتي هي من سمات العلاقات العشائرية، التي لا تعير الجانب الثقافي اهتمامها، بقدر الاهتمام بتجسيد الخصوصية الشخصية أو العشائرية عبر البعد القومي، ومع ذلك؛ وبحكم الضعف الذي رافق المنهج السياسي، ووجود السلطة كأداة قسر وتفرقة، بدأ الشرخ يداهم المنظومة الحزبية دون حضور فاعل للبعد الثقافي في رسم ملامح الخلاف والاختلاف ..
وحتى لا نجانب الحقائق، ونحكم على كل مرحلة بمقاييسها وشروطها، وكذلك بظروفها ومناخاتها، نستطيع القول أن ذاك الجيل الرائد في بناء الحركة السياسية الكردية في سوريا، استطاع أن يضع اللبنات الأولى لبناء مقومات الحزب السياسي الكردي، وقدم التضحيات من أجل ذلك بسخاء وشجاعة، وبالتالي شكلوا بالنسبة إلى أبناء شعبهم الطلائع النضالية، وإن كان هناك ما يستدعي الوقوف عنده وعليه من أخطاء وممارسات ..
إذاً؛ ومن خلال المقارنة بين المفاهيم والمعادلات السياسية المطروحة في الراهن السياسي، حيث تفكك المنظومة الاشتراكية وخروج السياسة الدولية من دائرة القطبية، إضافةً إلى ما يجري على الأرض من ثورات تقنية، وما تطرحها المرحلة من مفاهيم حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية والقومية، وخروج القضية الكردية نسبياً من أجندات الأنظمة المقتسمة لكردستان، لتحتل – إلى حد ما – موقعها في السياسة الدولية، وما كان سائداً حين انطلاق الحزب السياسي الكردي، نستطيع القول؛ بأن المفاهيم السياسية وأدوات الفعل الثقافي نفسها قد تغيرت، وكذلك حجم المهام والمسوؤليات، وإن كانت ذهنية الواقع ما تزال تحتفظ لنفسها بالدور الأساس، ومن هنا كان لا بد من الدخول في مناقشة الموضوع التالي : أين يقف المثقف الكردي من رسالة المثقف تجاه قضيته القومية، مقارنة بحجم الأعباء الملقاة على عاتقة كفئة متنورة، تتجسد مهمتها في الكشف عن الحقائق واستنطاق الوقائع والحفر في المستقبل، وبالتالي التأسيس للجانب المعرفي في العقل السياسي، بل وفي الحالة المجتمعية ..؟.
أعتقد من حيث المبدأ، أن المورثات الثقافية التي ساهمت في بناء الإنسان، وفق المنظومات الفكرية والاجتماعية التي فعلت فعلها على مر عقود من الزمن، والتشوه الذي لحق بالتركيبة المجتمعية من جراء تمركز تلك المورثات في آليات العمل، إضافةً إلى غياب مرتكز ثقافي قومي لدى الشعب الكردي، وحضور السلطة كأداة قمع ورقابة على الفكر والثقافة، أنتج – إن جاز التعبير – مثقفاً كردياً، يعتمد في عملية البناء الثقافي الذاتي، على ما قدمته الغير من نتاجات فكرية وثقافية، وبالتالي خلق فيه نوعاً من حالة اللااستقرار واللاتوازن، بحكم التغيرات التي تتعرض لها منابعه المعرفية من جهة، وعدم قدرته على توظيف طاقاته وما استمد من ملاكات معرفية في خدمة واقعه ومجتمعة من جهة أخرى، وذلك لعوامل؛ منها ما يتصل بالاختلاف بين البنية أو الذهنية التي أسست لمنابعه ومصادره، وواقع الحال التي تعيشها مجتمعاتنا، وكذلك الهزات التي كانت تصيب تلك المنظومات المعرفية بنتيجة فعل التطور، وما كان يصيبه من جفاء في أدواته، وبالتالي نستطيع القول؛ بأن المثقف الكردي كان يعيش حالة ثقافية لا تمتلك عناصر الربط والارتباط مع الحياة العامة التي تعيشها مجتمعه، وإن وجد في مراحل تاريخية، حسب المصادر والوثائق، بعض المتنورين الذين أرادوا أن يقدموا للكرد بما هم أهل له، لكن وكما أسلفنا؛ فقد كانت نتاجاتهم ضمن زوايا ضيقة جداً، ولأسباب تمت ذكرها، ومن هنا؛ ونظراً للتداخل الحاصل بين ما هو سياسي وما هو ثقافي في الحالة الكردية الراهنة، وذلك كنتيجة طبيعية للفعل النضالي الكردي، وما يتطلب ذلك من تجييش للطاقات، وتسخير أدوات الفكر والمعرفة من أجل الارتقاء بالقضية الكردية في جوانبها السياسية والثقافية، وبالتالي الارتقاء بالبنية المجتمعية، وبحكم الموروث الذهني المعشعش في الواقع، والذي يبيح الطغيان وينسف الآخر، فإن الإشكالية التي تواجهنا عند كل منعطف، تتلخص في قصورنا عن التمييز والتفريق بين المثقف الذي يمهد ويهيأ، والسياسي الذي يستنبط ويحلل، أي الخلط بين مهمة السياسي ورسالة المثقف، وإن كنا على قناعة بأن كل منهم يشكل بالنسبة للآخر الجزء المتمم والمكمل في الحالة الكردية، على العكس مما هو ممارس في الواقع المعاش، حيث السلبية في التفاعل والمنافسة في الأداء ..
وإذا كان لنا أن نخوض في الآليات التي تعتمدها الفئات المتنورة أو المشتغلة في الحقل الثقافي، من حيث الدور والمهام والرسالة، كان علينا أن نستحضر الآليات التي تعتمدها الأطر السياسية الحزبية في ممارستها لدورها، وقيامها بمهامها ومسؤولياتها، وذلك حتى تكتمل الصورة، لأن كلتا الحالتين ترتكزان إلى ذهنية واحدة، تلك التي تقصي وتعمل وفق مفهوم الانقلاب في حقل الممارسة، وهي تستمد قوتها من الحالة المجتمعية ونمط العلاقات فيها، وتستند عليها، حيث أن السياسي الذي يتبوأ مركز القرار في الحزب، لديه شعوره الخاص به؛ من أنه يمثل القضية الكردية في شموليتها، ومن جوانبها المتعددة، وإلا لما كان كل هذا الانكسار في الجسم الحزبي إذا ما تم توظيف الطاقات في مواقعها، ووضعت الآليات بعيداً عن هيمنة الشخص، وبالاستناد إلى مفهوم الحزب الذي يعمل وفق العقلية المؤسساتية، وهذا ما لا يتوافق مع النموذج المسيطر على القرار السياسي الحزبي، لأنه وبكل بساطة يعتبر المؤسس نفسه الأب الروحي للحزب، بل هو الحزب كله، وبالتالي فإن كل من يهدف العمل في إطاره عليه الانصياع لمشيئته وقراراته، ومن هنا تأسست مفهوم الحزب المرتبط بالشخص والمؤسس، بحيث يحل الشخص محل الحزب، فنكون رغماً عنا من جماعة فلان أو فلان إذا ما كانت لدينا رغبة الانخراط في أي إطار حزبي ..
وبما أن الفعل الكردي، سواء السياسي أو الثقافي وحتى الاجتماعي، مقيد بأكثر من قيود المنع والحظر، ولا مجال للعمل إلا من خلال ما هو متاح عن طريق الحزب السياسي، بغض النظر عن دوره وحجمه وتركيبته، وذلك لعدم وجود الأطر الثقافية أو المؤسسات التي تحمي المشتغلين في حقول الإبداع، ولا يمكن للمثقف، حتى هذه اللحظة، أن يعتمد على طاقاته الذاتية في الوصول والانتشار إلا عبر جسور الحزب، بل هناك من في الحزب يحاول جاهداً أن يعمل على صناعة المثقف، الذي لا بد وأن يكون مقدماً له صكوك الولاء والطاعة، وذلك إما عبر تقديمه من خلال أدواته الذاتية، كالأدبيات والمجلات، أو من خلال علاقاته الكردستانية، كالفضائيات والمؤتمرات الثقافية، وبالتالي احتوائه واحتواء رؤيته وقراره، وبغض النظر عن طاقاته وملاكاته، فإن النتيجة الحتمية لهذا الواقع هي حالة النكوص في مهمة المثقف المستقل؛ الذي يحاول أن يجتهد بعيداً عن سلطة النظام أو الحزب السياسي، مما نكون، في الحالة هذه، أمام ما يمكن تسميته بتفريغ الطاقات من محتواها الحقيقي، وإجهاض أية حالة تحاول أن تسلك سكة الارتقاء، خاصةً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المثقف الكردي الذي هو وليد الحالة الاجتماعية ونتاج علاقاتها، يتعامل مع رسالته من خلال ما هو طاغٍ من سلوك ومنهج في البنية الاجتماعية، وبالتالي فإنه يتفاعل مع مهمته عبر أدوات المناكفة والصراع من أجل الصراع، بعكس ما هو مطالب به على أنه يمتلك رؤية الانفتاح، ويتحدد مهمته في البحث عن مقومات الشخصية المتحررة نوعاً ما من عقلية ما هو سائد، وعليه نكون بإرادتنا أمام حالة تخندق وتصارع بين المثقف والسياسي، بحكم أن الأول يعيش ذاته من خلال أدواته وهو يطمح لأن يكون له الدور والرأي في القرار والتقرير، وأن ملاكاته المعرفية يخوله لأن يتبوأ موقعه ضمن الخارطة السياسية في الحركة الكردية، وأن الثاني، أي السياسي، يرى فيه المشكلة الحقيقية إذا ما احتل موقع القرار، ومن هنا، وبالاستناد إلى هذه الظاهرة، اعتقد أن الخلط في الدور والمهام هو الذي يطغى على رسالة المثقف، فلو كان مثقفنا على قناعة تامة بأن ما يهدف إليه من آليات وأدوات ومفاهيم في الواقع الكردي هو هدم لما هو قائم في الجانب السياسي، وبالتالي سيتم مواجهته من قبل أصحاب القرار والمشيخات الحزبية، لأدرك أن دوره إذا ما أراد أن ينتج ويبدع، لا يتعدى القاعدة الاجتماعية التي يجب أن تشكل بالنسبة له الحامل الأساس للعمل عبرها من أجل التأسيس لواقع أفضل وبذهنية تأبى التصارع والتناحر والانقلاب، خاصةً وأن المرحلة بإرهاصاتها واستحقاقاتها وانكساراتها، تستدعي من المثقف كي يجنح إلى جانب الخيار القومي للشعب الكردي عبر مد جسور التواصل بين ما يطمحه هذا الشعب من انتزاع حريته وتحقيق هويته القومية، وبين تلك الثقافة التي تهدف إلى إنسانية الإنسان، كون الوقائع والأحداث التي تتلاحق، والخيارات الدولية المطروحة لمستقبل المنطقة، تؤكد على أننا مقبولون على مواجهة أكيدة لثقافة تشرعن للدم وتغذي ظاهرة الإرهاب ..
خلاصة القول، ومن خلال ما نلمسه على أرض الواقع، ولأن التربة الاجتماعية ما زالت تحتضن الأنا، أعتقد أن المثقف الكردي يحمل في ذهنيته أدوات السياسي الذي يشتغل في الحقل الحزبي، وإذا ما أمتلك أدواته الخاصة به، وسط الذهنية المسيطرة، سيحاول هو الآخر أن يبرهن على حضوره ووجوده وفاعليته، عبر ممارسات السياسي، كون العقلية السائدة هي العقلية الاستهلاكية في تسويق المفاهيم والأشخاص، وهذا ما يمتلكه الحزب أو الإطار السياسي ويشتغل من خلاله، وهي يجب أن لا تتوافق مع تلك العقلية التي تدعي الرسالة المعرفية، والعمل من أجل وفي سبيل المستقبل، وهنا تكمن جوهر الأزمة في الواقع الكردي الذي يتلخص في عدم امتلاكنا لرؤية حقيقية تجاه المستقبل وما نحن مطالبون به ضمن سياقاته واستحقاقاته، وإذا ما كان علينا أن نبحث في جذور الأزمة، كان لنا أن نساهم جميعاً على اقتلاع جذور هذه الذهنية الشمولية، وهي لا بد أن تمر عبر آليات التطور وامتلاك إرادة التغيير من خلال الدفع باتجاه تغير الذهنية، ولا يمكن لنا أن نحقق هذه المعادلة ما دام الخلط في المفاهيم والآليات هو القانون الساري المفعول في أداء من هم يجتهدون في المجال الثقافي، وبالتالي نكون أمام رسالة، لكنها بحاجة إلى عقلية تمتلك مقومات الفكر والمعرفة الحقيقية كي تدفع بها إلى حيز الواقع ..
محاضرة الأمسية الأولى للأستاذ المحامي زردشت مصطفى التي ألقيت بتاريخ 8/ 12/ 200
الانتخابات وتطور مفهومها
المحامي : زردشت مصطفى
تمهيد :
الاقتراع السري هو السلطة الممنوحة بالقانون لبعض أفراد الأمة المواطنين – الذين تتكون منهم هيئة الناخبين – في المساهمة في الحياة العامة مباشرة أو بالنيابة عن طريق الإفصاح عن إراداتهم فيما يتعلق بتعيين الحكام ، وتسيير شؤون الحكم .
ويفترض في الانتخاب أن يكرس مشروعية الحاكمين، ويعبر عن إرادة الشعب وتنبثق عنه أغلبية تتولى الحكم . وهناك ارتباط بين الديمقراطية والانتخاب بحيث يعتبر النظام السياسي ديمقراطياً إذا تم فيه اختيار الحكام عن طريق الانتخابات . وقد تطور مفهوم الانتخاب بتطور العصور .
أولا – ففي الديمقراطيات القديمة التي عرفتها المدن اليونانية والرومانية لم يكن للانتخاب دور أساسي بارز ، حيث قامت في هذه المدن على أساس المباشرة للمحكومين في القرارات الحكومية أي يحكم الشعب نفسه مباشرة عن طريق الجمعية الشعبية العامة التي تنعقد صباح كل يوم ، وهي نوع من البرلمان المفتوح لجميع المواطنين ، ويملك سلطة اتخاذ القرارات الأساسية ، أما أسلوب الانتخاب فكان يتبع في تعيين بعض كبار الموظفين
واتبع هذا الأسلوب في الولايات المتحدة في تعيين القضاة في المحاكم التجارية أو المجالس التحكيمية ، غير أن ثمة أسلوباً كان أكثر شيوعاً في تعيين الموظفين وهو التعيين بالقرعة .
ثانياً- أما في القرون الوسطى وعندما كان الملوك يشعرون بالحاجة إلى تأييد المحكومين كانوا يدعون إلى مجالسهم ممثلي هذه الجماعات ، وغالباً كان تعيين الممثلين يتم نتيجة الانتخاب ، وكان وظيفتهم تقتصر على إقرار الضرائب وبيان المخالفات التي يرتكبها الموظفون الملكيون ن وحماية الامتيازات الخاصة بالجماعة التي ينتمون إليها ، واستمر هذا المفهوم سائداً في حتى الثورة الفرنسية ومع ظهور نظريات السيادة الشعبية في القرن الثامن عشر تم الربط بين الديمقراطية والتمثيل عن طريق الانتخاب ، إلا أن الثورة الفرنسية أخذت بمفهوم سيادة الأمن بدلاً من السيادة الشعبية ، وترتب على هذه النظرية الجديدة مايلي
1 – النائب حرفي آرائه دون التقيد بتعليمات إلزامية يصدرها الناخبون
2- يتوخى النائب العام الصالح العام لاصا لح ناخبيه ، وله التدخل في كل أمر يهم الدولة
3 – لايجوز للناخبين عزل النائب أثناء نيابته
4- تتولى الدولة دفع مكافأة النائب ومخصصتين وقد استقر هذا المفهوم في سائر أنحاء العالم .
وفي القرن التاسع عشر تمركز كل الصراع السياسي حول الانتخابات بهدف توسيع حق الانتخاب والوصول إلى الاقتراع العام . ويلاحظ من الناحية العملية أن ثمة توافق عن وجود الانتخابات الحرة الصادقة إلى حد ما ووجود الحريات العامة فتبدو الانتخابات وكأنها الأداة الأساسية للحفاظ على نظام ديمقراطي بالمعنى الصحيح .
وفي الاتحاد السوفييتي – سابقاً – والصين وسائر الدول الاشتراكية لايعد الانتخاب أساساً لاغنى للنظام الديمقراطي ، فالديمقراطية البرجوازية حسب رأيهم ديمقراطية شكلية ، والحريات التي تمنحها حريات وهمية ، وتستطيع البورجوازية الرأسمالية بصحافتها ودعايتها أن تمارس ضغطاً على الرأي العام يشوه كل الانتخابات ن والانتقال إلى الديمقراطية الحقيقية يفترض القضاء على النظام الرأسمالي وإقامة النظام الاشتراكي
وقام عدد من الفقهاء وفي مقدمتهم الفقيه ديجي ينادي بتمثيل المصالح بحيث لايقتصر المجلس التشريعي على تمثيل الاتجاهات السياسية وحسب بل أن يتسع نطاق التمثيل ليشمل الصعيد العائلي والمهني .
والدستور السياسي المؤقت ينص في المادة 33 على أن المجلس الوطني يشكل من أعضائه الحاليين وممثلين عن قطاعات الشعب يحدد عددهم وكيفية تمثيلهم بقانون.
والدستور السوري لعام 1973 ينص على مايلي:
” يحدد قانون الدوائر الانتخابية ، وعدد أعضاء مجلس الشعب على أن يكون نصفهم على الأقل من العمال والفلاحين ، ويبين القانون تعريف العامل والفلاح “
وجاء في الدستور ينتخب أعضاء مجلس الشعب انتخاباً مباشراً عاما وسرياً ومتساوياً وفقاً لأحكام قانون الانتخاب ، والديمقراطية تتجه بطبيعتها إلى الأخذ بالاقتراع العام إلا إن معظم البلاد أخذت بالاقتراع المقيد مما أفضى على جعل المواطنين غير العاملين يتمتعون بالحقوق والحريات المدنية دون الحقوق السياسية، ولم يعلن الاقتراع العام إلا بعد مرحلة انتقال طويل وصراع عنيف ، ومن أشكال الاقتراع المقيد :
1- تقييد حق الاقتراع بنصاب مالي
2- تقييد حق الانتخاب على أن يتمتع بدرجة معينة من التعليم
ومن شروط الاقتراع العام
1- الجنس: اقتصر حق الاقتراع في البداية على الذكور دون الإناث ، وقد كانت دويلات الولايات المتحدة أسبق دول العالم إلى منح النساء حق الاقتراع
السن : من الطبيعي ألا يساهم الأطفال في التصويت وكثيرا ما يطابق سن الرشد السياسي سن الرشد المدني ، وتعمل الأنظمة المحافظة على رفع سن الرشد السياسي بينما تعمد الأنظمة الثورية إلى خفضه ن وتأخذ الدول بسن 21 أما الاتحاد السوفييتي فيحدد السن ب 18 للجنسين
وكان الدستور السوري لعام 1930 يشترط أن يكون الناخب قد أتم العشرين من عمره وعدل في دستور 1950 فتحدد السن بتمام الثامنة عشرة .
الأهلية: يشترط في الناخب ألا يكون قد سبق الحكم عليه بجرائم تخل بالشرف وتسقط الاعتبار
التمييز العنصري: ثمة أحكام في الدويلات الجنوبية من الولايات المتحدة الامريكية تهدف على حرمان السود من حق التصويت كما يحرم السود والمهجنون من التصويت في اتحاد جنوبي إفريقيا
5 – أفراد القوات المسلحة: يحرم بعض قوانين الانتخاب العسكريين من حق الاقتراع بحجة منع تسلل السياسة إلى الجيش مما يفسد الانضباط العسكري ، وقد طبق هذا المنع في فرنسا وفي عهد الجمهورية الثالثة 1870-1940 وفي انكلترة يجوز للفرد قبل عام 1951 أن يصوت في الدائرة الانتخابية التي يقيم فيها وفي مقر عمله التجاري أو الجامعة التي تخرج منها ، ويسمى هذا الأسلوب بالتصويت المتعدد
وفي الانتخاب المباشر يختار الناخبون حكامهم مباشرة ، أما في الانتخابات غير المباشرة فتقتصر وظيفة الناخبين على انتخاب طبقة أخرى هي التي تنتخب النواب ، ويلعب الانتخاب غير المباشر دوراً في التنظيم الاتحادي ، وأخذ بالاسلوب الانتخابي غير المباشر في جميع دساتير الثورة الفرنسية التي طبقت حتى عام 1814 ثم عدل عنه وأخذ بالاسلوب المباشر، وأخذت سورية بالانتخاب غير المباشر في ظل دستور 1930 واستمرت عليه حتى عام 1947 حين صدر قانون يقضي بان ينتخب النواب بالتصويت العام على درجة واحدة ، وجاء دستور 1950 فأكد صراحة الانتخاب المباشر..
تشويه نتائج الانتخابات :
يقصد بتشويه نتائج الانتخابات المحاولات التي تبذل لتزوير الانتخابات بصورة مباشرة أو غير مباشرة بحيث يعبر عن نتائج تختلف عن تلك التي أعربت عنها إرادة الناخبين ، ويتم التشويه بأشكال مختلفة منها
الضغط والتزوير:
استخدام التزوير منتشر على نطاق واسع في الشرق الأوسط وإفريقيا
ويتمثل الضغط إلى حرمان المعارضة عملياً من إمكانية عقد الاجتماعات وتعليق البيانات الانتخابية وتوزيع المنشورات وتهديد المرشحين بشتى الأساليب البوليسية في الحكومات الدكتاتورية .
ويعد نظام التصويت السري خطوة نحو تصويت أصدق وسرية التصويت مؤمنة في معظم الدول الحديثة
وعليه فإن الانتخابات تكرس مشروعية الحاكمين وتعبر عن إرادة الشعب ، وتعكس صوره الرأي العام ، وتنبثق عند الأغلبية تتولى الحكم ، ويعتبر النظام السياسي ديمقراطياً الذي يتم فيه اختيار الحكام عن طريق الانتخاب .