خُلِقتُ في بيروت من إيـمانها بي شاعراً وصـديقـاً وإبناً .. سليم بركات: أريد كلمات أكثر لوصف وجود مفقود

 صدور “الأعمال الشعرية” لسليم بركات عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر”، حدثٌ بيروتيّ وشعريّ كبير. الفتى الكردي الذي جاء من الشمال السوري البعيد الى بيروت عبر دمشق، حمل معه لغته الشعرية الغريبة والمدهشة. جاء من منفاه الكردي الى المنفى الفلسطيني، وكان يعتني بقوافيه كما يعتني بعضلات لغته. رسم الفتى غربته شعراً مدهشاً، ونسج بريق تجربته الكردية في البلاغة الشعرية العربية. عمل في “الكرمل” في بيروت قبل أن تأخذه المنافي الى قبرص، وتحطّ به اخيرا في اقصى الشمال الأسوجي.
لم يكتف سليم بركات بالشعر وعاءً لتجربته وعوالمه الغنية، بل انتقل الى الرواية، معلناً نفسه “قنصل اطفال” الرواية العربية، ذاهبا في الغرائبي والمدهش الى اقصاهما. هذا الحوار معه، الذي اردنا من خلاله استعادة الشاعر الى بيروت، وتعبيرا عن صداقة قديمة لا تمحوها المسافات، تمّ عن بعد. ارسلنا الاسئلة الى بركات في اسوج، وارسل لنا اجوبتها مكتوبةً بقلم الحبر. فشاعر “الكراكي”، لم ينزح الى الكومبيوتر كما فعل الكثيرون، بل بقي مخلصا لايقاع الكلمة المكتوبة باليد. شارك في وضع الاسئلة: محمد أبي سمرا وبلال خبيز وعقل العويط والياس خوري. في ما يأتي نص هذا الحوار:
سليم بركات لا نعرف الكثير عنك، سوى أنك شاعر كردي من الشمال السوري، ترك أرضه الأولى ليهيم في الارض القريبة والبعيدة. نطلب منك أن تروي لنا سيرتك الشخصية. من أنت؟ متى ولدت؟ وأين؟ من هي عائلتك، ومن هم أقرباؤك وأترابك وأصدقاؤك… وهكذا وصولاً إلى الآن؟
– أتسألني أن أروي ستاً وخمسين سنة من عمري، أي من يوم مولدي في 1/9/1951 حتى إقامتي في مطبخ بيتي بسكوغوس. ست وخمسون سنة سرداً يتقطّع الى درجة العبث في تدبير تجانسٍ للمعاني فيه، فكيف أتدبّر تجانساً للزمن فيه؟ لا أعرف الكثير عني، بدوري. حين ينقطع امرؤ ما في عشرينه، عن متابعة جسدية لما يرويه المكان، تصير المخلوقات الآدمية الناطقة، واللاناطقة، والعجماء، اختلاقات على قدْر من الهذيان. كتبت سيرتيَّ: “الجندب الحديدي” و”هاته عالياً، هات النفير على آخره” كي أعيد “نظم” الهذيان في ايقاع من ضرورات المنطق سياقاً. كتبتهما تمريناً على “تطويق” القطيعة الجسدية مع المكان. للخيال، وللحنين، شؤون أخرى في ترتيب نظام صامت للوجود الناطق بلسان الأمكنة في انشقاقاتها، وقتاً بعد آخر، عن كونها أمكنة. كتبت سيرتيَّ مبكراً كما لم يسبقني – بقدر درايتي – من هم في عشرينهم بعد. مذ أحسست ضراوة دخولي شاباً حيياً الى بيروت – الكون أدركت أنني صرت تائهاً عن سيرورتي الوجدانية مكاناً “متجانساً” في جسد متجانس. أرّخت لنفسي سيرورة “متجانسة” في المكان نصّاً.
لا أعرف من أنا خارج “الجندب الحديدي” و”هاته عالياً، هات النفير على آخره”، بالقدْر الغامض، الذي أتعرّف إليَّ في “كهوف هايدرا هوداهوس” – الفانتازيا المطلقة السراح من إرث الإنسان كله، في ما بعد الغيبوبة الإنسانية، في ما لا يكون الإنسان فيه إلا أثراً ملتبساً من تأويل ملتبس: كائنات تتأمل صورتي أنا – أورسين منحوتة في لوح حجري. إنه بقاء الأرواح صوراً في رحابة تأويلها أرواحاً “مفترضة” في واقع كان، برمّته، تأويلاً عشواءً للصور.
جئت الى بيروت ابن حادية وعشرين بحمّى بحثي عن شعر لا تعرفه إلا بيروت. هربت من عائلة أحد عشر رهطاً تلمستُ في كوى بيتها كتباً محكمة الأغلفة الجلد، بنقوش الضلال المحيي، على براثن السماء. أبٌ ملا كرديّ، عنيد، ضئيل الحجم، مرّغته الحياة صعوداً هبوطاً في ترفها وبؤسها، مبذّراً كريماً، لا يحفظ قرشاً من قروش قلبه لسواد المكان خارج أضلاعه. يأتي الحمالون بأنصاف خرفان، من السوق، فلا نعرف أين نحفظها، فنهديها الى الجيران. حقول قمح، وشعير، مديدة، أعانته على يساره، ثم خذله المطر احتباساً فباعها رخيصة. أمي لاتقرأ. تحفظ صلواتها بالعربية منطوقة على قياس الكرشوني، بكتابة غير العربي بحروف العرب. عائلة كردية كرشونية: أخوان اختفيا في سجون جيرانكم منذ 1979 (سجون ناطقة بصمودها الممتنع نكايةً بسجون اسرائيل). اخت متزوجة من لبناني في البقاع. أخت في مصر (غادرتُها وهي في العاشرة، ولم أرها حتى اليوم، أي جاوزتْ أربعينها). أخت في أسوج (السويد). أخوان آخران في دمشق، أخت في القامشلي. عائلة كرشونية تركتها في القامشلي الى دمشق بحثاً عن شعر لم أجده إلا لوعة من تقويض الشرطي الخالد للعروض. هربت الى بيروت بأمانة قلبي أضعها بين يدي الشعريّ. خُلقتُ في بيروت من إيمانها بي شاعراً، صديقاً، ابناً لما لن تقوّضه خسارة قط.
لا أرى أحداً. أصدقائي قليلون أقل من ثلاثة أصوات أسمعها في الهاتف، من حين الى آخر. لا بريد يأتي. أنا وقلباي – سِنْدي ورانْ، والأضلاع البيت: هذه هي سيرتي: ألم التبعة الأولى لجغرافيا منهَكة نجاهد، بخيال حجر الفلاسفة، أن نذهِّب نصلها القاتل.
أنا رجل الخسارات الشمالية
 عشتَ طفولتك وشبابك الأول في هذا الشمال الكردي، المشار اليه، وعشتَ المراحل اللاحقة متنقلاً بين لبنان، وقبرص، وأسوج وسواها. لكنك ظللت مصراً على استلال الفضاء الروحي للغتك الشعرية والروائية من ذلك الشمال الواقعي والفانتازي. وقد ظل فضاؤك اللغوي، رغم التيه والانتقال، وفياً للفضاء الشمالي الكردي، وملتصقاً به على نحو عضوي، ومادي…
– ماذا تعني بـ”الشمال الكردي المشار اليه”؟ لم أقدّم الشمال (لم يقدّم أحد) تعريفاً يحيله “اقتباساً”، أو “حاشية” في مصدر يشار اليهما. كتبتُ، طويلاً، لفظة “الشمال” على نحو اختزله القياس الكوني، برمته، الى “شمال سوريا” – شمال الكرد هناك. وقد وضعني قَدَر اللغة، الطليق اليد في تحصيل المكوس من كل قَدَر آخر، على “حافتين” لغويتين حيّرتا حدس الجغرافيا فيَّ: أقمت في بيت، شمال العاصمة القبرصية، مواجه لعراء يتصل شمالاً بجبل “الأصابع الخمس” في القاطع القبرصي – التركي. هجرت بيتي – بيت شجر الميوبوروس (الفائض عن مئة)، والفيغنونيا، والبوغانفيلي، ممزّقاً، الى شمال معلّق بآخر كُلاّب في حزام الشمال الكوكبي من ارض أسوج.
أنا رجل الشمال بلا منازع. رجل الخسارات الشمالية. رجلٌ جهةٌ شمالٌ. لا أعرف قبلي شخصاً هو الشمال موصوفا آدمياً، كرديّ اليقين بضراوة الشك الفقيه، وحوزة أبوّته العارفة.
لم أزح الشمال الأول، قط، عن أي شمال آخر، في كتابتي. لكنني وزعت حظوة “الشمال” لغةً، بإنصاف، على الأمكنة كلها: كتبت عن قبرص طويلاً في “الريش”، و”عبور البشروش” و”الكون”، و”كبد ميلاؤس”، و”المنعطفات…” (الشعرية) في “بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح”، بلا قسر على “ابتكار” مكان في ظل مكان آخر. حفظتُ قبرص “حقيقة” بجسارة ابتكاري إياها، ثانيةً، في حديقة بيتي نصّاً يمتد من شجر البوغانفيلي الى ورق الكتاب. عن أسوج ثمة القليل: “موتى مبتدئون” – رواية لا تُحسب فيها الأرض إلا بأسماء مواضع. و”السلالم الرملية” استحضار أنفاق قطارات من تشييدي، بلا ادعاء، مطابقة لأصول ضائعة تتوالى البلديات في البحث عنها. لكن الروايتين قسمتان من حقائق ظهورهما خيالاً، في نِسَب مقدَّرة بالتراب، والصخر، والشجر، والأسماء ايضاً، من شارع بيتي الجبلي الى خليج بحيرة مورتفيك.
 تقول قصيدتك الطبيعي، والوحشي، والذاتي، والقبيلي، والغزير والكثير والكثيف والغريب والبدائي والأسطوري، جداً. وتقول الكرد، والمسار الكردي والأقدار والمصائر، حتى لكأن ما تكتبه يوحي أن هذا السيل الشعري الجارف لن يتوقف، وأن الصور لن تكفّ عن المجيء. حدّثنا عن هذا السيل اللغوي، المتمكن، المسبوك، والمتين، عن خصائصه وأسمائه، وصفاته. كيف يأتيك؟ ماذا تأخذ منه، وماذا تترك؟ هل تكتب دفعةً واحدة، أو لا. وماذا عن هذا الذي ينكتب وعن الذي لم ينكتب حتى بعد الانتهاء من الكتابة؟
– حين تقذف بنفسك في الماء، سابحاً، تقذف بجوارح جسدك كلها. كل مرة أذهب الى الشعر أذهب بجسدي كله. لا أثق باقتداري على مواجهة قارئ حصيف، لا تنطلي عليه مساومات في التدبير. أذهب اليه عادلاً في استعراض جسارتي، متحسباً من تعريضه إياي لخذلان نصّي إياي.
بي خوف، أبداً، من قارئ لن يحكم لي إلا بما قدرت عليه. لا أفترض فيه تساهلاً، أو رحابة صدر. قارئي غاضب (هكذا اتخيله)، متطلب، رقيب “جمالي”، حاذق، مدرّب بقياس علوم الأدب وآدابها فيه على “التشهير” خلسة، أو الفضيحة صخباً.
ربما أبالغ. عليَّ ان ابالغ، ان أتحوّط للمجابهات في السطور، بين عريكتين أريد لهما حظاً واحداً، على قدر تساويهما في “الجمالي السبيك”، يؤالف انتصارهما على جبهة “المحكم المحيِّر”.
أأعمل على هذه السوية من وضع رقابة على نفسي؟ ككل رقابة أخرى، في تحويل النزوع الجمعي بأخلاق القياس الى غلبة جمعية، أحيل “رقابة” الجمالي الى قَدَر، نزاعي فيه نزاع “السيادة” على “المعرفة الكلية” بآلة النقصان “العادل”. أدفع بكل شيء، صوراً وبلاغات، الى “التفاقم” كاختبار “نقدي” يرتدّ من النص على مدافعة القارئ عن ذاته نصاً. سأجعل ذاكرته “لوثة”. سأُخرج اللغة عن طورها إن قدرتُ. سأُخرج الألفاظ علائقَ عن أطوارها. ربما أناقض نفسي في الاستتباب على “مجاهدة” بعينها في أن لا تُخذَل اللغة، أن لا تهان الكلمات، أن لا يتنكر “القول” لمستطاعه في الذهاب الى حافة الذهبي السحيق غوراً، سفكاً للمعاني كي تتقبلها هبةً آلهةُ المعاني الدموية، لكنني أرجع الى فورتي في تدبير النهب على وسعه.
مذ سلّمت مقاليد يقيني الى الكلمات أخذتها معي الى يقينها: لا نجاة لها إلا حملاً على وجوه التبديل تراكيبَ عن تراكيب، ولا نجاة لي إلا بها: المسألة مسألة بقاء. لا مساومة تُنجي إن لم أُحِل كل سياق الى معضلة، تداركاً لنزف الحياة من رواهشها المقطوعة بشفرة العادي.
لغتي هي الحياة الآن، مذ أغلقت الحياة مصاريعها على رحابة تلمّسها جيلي في صوغ عادل للحياة، فانهار عليها بأحمال خيبته، وانهارت مطحونة عليه.
نعم. أقول كل شيء دفعةً واحدة. في كل قصيدة هنالك الذهول المعجم، الذي ينبغي تقليبه سطراً سطراً تحت بصر اللانهائي. لكن “كل شيء” هو قليلُ “كل شيء” آخر. البياض، الذي لم أزل راعياً بقطيع المدائح فيه لأزلِ كوني بياضاً، هو اختلاس للكنز الفاحش متناثراً في معارك اللاموصوف. اختلس البياض بخطوات على الورق تنطبع أثراً يقتفيها المحقِّقُ البياضُ في نكبات الحبر. أكتب على مهل في بياض الورقة اللانهائي. أحفر نقش البياض نافراً في لوح البياض الخالد. كيف أستطيع أن أتوقف، حتى لو انتهى نص الى غاية ما يدّعيه من أمومة البياض، الذي يليه؟
فلأعترف: ثمة الكثير، الكثير الهائل، من ورق أبيض. ينتظرني، اذاً، عمل كثير.
لن يقدر الموت نفسه على ايقافي: أنا من يَهَب الموت ولاية جسده بياضاً بعد السطر الثامن.
كالحرية في الحيوان
عالم بدائي، بدئي، قَبْلي، قَبَلي، وحشي، حيواني، طبيعي، مغلّف بالأساطير، والملاحم والتراجيديات، والأقدار والمصائر والتعاويذ والطلاسم. أهو فقط عالمك الكردي في الشمال السوري، ام أيضاً تخييلاتك وتهويماتك عنه؟ الى أيّ حد هو واقعي او ملفَّق؟ ثم ألا تعتقد أن استمرار الإلحاح عليه يجعل تجربتك الشعرية تدور في الفلك نفسه؟
– لن أحرز إن كان نصف هذا السؤال موكلا باختصاص النظر الى الرواية عندي، فيما نصفه الآخر الى الشعر. لا بأس. لهما، في شفاعة “المعقول” ترفاً، لسان واحد: تصويب “الواقع” بتصحيح “خطئه المطبعي”، – الواقع الملفَّق بضغطه أمثولاتٍ في السرد الإخباري، مجتزأً من سياقه “الواجب” التعدد، سياق الخلافة على مراتب الممكنات. ما لا أفكر فيه، في “الواقع”، هو ما ينبغي أن تكون عليه “اللغة المفقودة”. والمفقود هنا، تحديداً، هو الواقعي الأكثر دربة على حساب خواصه بأرقام الخيال فيه: وأنا، بزعم الخصيصة فيَّ كمفقود، نشيد سيريناته.
كل لوعة تمامٌ في النزوع الى البدئي. تتقشر رسوم الرفاهة المروَّضة عن  المشهد الأول: العالم بلا قانون، كالألم. الشعر لوعة. الرواية لوعة المكتوب في نجوى يأسه مما لا يُشاكل الكتابة أملاً. ينبغي للخواص جملةً ان تتساوق في ظهوراتها كألم. لا كتابة عن غير ألم. لا أعمم الألمَ سحراً، وجاذبية جسدية من شقاء الشرق المحكم مَذْهباً. أعني الألم موقفاً من حيف لحق بخصائصنا مذ اجتُزِئت من كلية اللون – الأم.
حنين اللون هو الأصل، حنين العبور الى بستان الطبائع الكلية في الكلمات – الكون: هُمرُجان غامرٌ، لا تهويمات فيه، بل نطق عن خلافة اللغة على الكون براعاتٍ من كل خطاب واقعُهُ – فيه – خيالُ ذاته.
ما همَّ أن تدور “تجربتي” (محنتي) الشعرية في الفلك نفسه – فلك اللانهائي. لقد اقسمت، منذ بداية إيماني بالشعر ضلالاً يعوِّض كل هداية، ان أضع يده في يد اللانهائي، وحشياً لا يروِّضه قياسٌ إلا الأكثر وحشية، كالحرية في الحيوان.
 في غمرة هذا السيل، يجد القارىء نفسه أمام قصيدة تعلن الإنتماء الى عوالم ما قبل العمران الحديث، والى ناسه، وملوكه، وأرضه، وطبيعته، وحيوانه. لماذا يظهر شغلك على القصيدة كأنه طالع من عوالم مضادة لعوالم المدن والاجتماع والعمران الحديث، وكأن لا وجود للشعر عندك إلا بهذه العوالم؟
– هي الطبائع، مرتّبة بتناسق الفوضى في بزوغ جسد أحدنا على علومه، من هذه الجهة أو تلك. أعضائي، برمتها، بزور في أرخبيلات المفقود: يفتنني الوحشي، الوجود غمراً، الظلام كتاريخ للمُحكَم. لكنني لست هذا، حسب: في “الكراكي” مدينة بيروت بتمامها. في “المنعطفات…” شوارع نيقوسيا، وخلائقها، وإسمنتها. في “الحديد” طائرات، وقاذفات صواريخ، من أرض خلدة الى أبي شاكر، الى الاوزاعي، في حرب الخروج (حرب 1982). ربما يميل النسب بشعري الى أمٍّ من العراء الهيولى، الى السحر موكلاً بنمور الجذر الغامض لأعضائنا الشجرية، الى طبائع تُرمى بيد العريق السكران، كفستق، فنتلقَّفها مشيئاتٍ.
لطالما تهيأ لي أن الوقوف في “الشعري” وقوف على جُرف الخليقة الأولى: “بلاغة الهيبة” تقدم التبجيل الى “الأنساق” الهائلة في صمتها الكوكبي. توازن الكثافات محسوب بالظلال. خلائق الخفيّ المدهشة تتبادل، في مدوّنات المرئي، نقوشَ “المتوازن” كدراهم السحر في أسواق الفلك: إنها نظرة البكورية، من سديم المعاني، على ما سترثه البكورية عن ألق الغامض الجليل.
لا شعر بلا حظوة لدى هذه العوالم، المتوازنة في “هيبة البلاغة” من اللانهائي.
النهب، الفتك، الصليل، الطيش، الطرائد، البطش، الهتك، الانقضاض، التدمير، الهباء… وسواها مما يتصل بالغرائز الوحشية الأولى، المتدفقة باحتفال هاذٍ في كتاباتك كلها، كأنما لديك رؤية حربية بدائية، وحشية، وهمجية للعالم، لا تتحول ولا تتبدل…
– قطعاً، تسحب “الجمهرات”، هنا، على كل نص آخر، بتعميم “فاتكٍ”. لذا عليَّ حصر جوابي بـ”الجمهرات: في شؤون الدم المهرِّج، والاعمدة، وهبوب الصلصال”.
انظر من حولك، بحق رفاهية الفردوس عليك: ألا ترى “الجمهرات” مقدمة لكل حرب، أسوة بمقدمة كانط “لكل ميتافيزيقيا مقبلة”؟. كتاب شعر هو نص كل راهن في الميثاق الدموي بين الإنسان والله لتوطيد سلطتيهما المتداخلتين. الألفاظ، التي اخترتموها توصيفاً “تعميميا” من “الجمهرات” على كتبي الأخرى، هي أمومة الجغرافيا من حولنا. ما من “نبوئية” ألهمت “الجمهرات” خيال “النهب والهتك” الطاحن – خيال الغيبي بتمامه نسبةً من تصنيف الوجود حفاوة بالمختارين، الموكلين بـ”إقامة الحد” على الوجود “اللامختار”.
القتل، كبلاغة إلهية، تأسيس لخلود المعنى، في مظاهره الطاهرة: الغزو “تطهيراً” للملْكية من دنس اللامختار، النهب تطهيراً للمتاع من ملكية اللامختار، البطش تطهيراً لبدعة اللامختار، الهتك تطهيراً لما اجتهد الشيطاني في تحصينه لا ممسوساً: “فتوح” على عواهن الخير دما بعد دم.
كتاب “الجمهرات” “ثقتي” بعدل الدموي (مرغماً) في اقتسام الحياة بين “الشعري” و”الواقعي”، فاحفظوها لي.
 هذه “الجنة الوحشية”، التي تصر على رسم مشاهدها في كتابك، هل هي “فردوسك الكردي المفقود”؟
– من يقايض “فردوس الجحيم المفقود” “بجنة الوحشي المفقودة”؟ “جواد” – يصرخ ريتشارد الثالث: “من يقايض مملكتي بجواد؟”. أريد كلمات أكثر، لا لتوصيف فردوس مفقود، بل لتوصيف وجود مفقود.
أحببتُ العربية ليس انتقاماً
أنت لا تجيد الكردية، لا نطقاً ولا كتابة، فكأن الكتابة عندك انتقام مزدوج: من صمتك الكردي ومن الصمت الكردي عموماً، ومن اللغة العربية التي تحبها حبا إنتقامياً…
– أجيد بعض الكردية نطقاً. أثقلَ لساني بُعدي عن نفير اللسان الكردي. لكنني أفهم الكثير من الكردية منطوقةً بلسان أهلها. أما الكتابة فلم تتوسط المصادفة، بسبب ظروف مغلظة في إيمانها العربي، كي نلتقي.
أحببت العربية ليس انتقاماً، بتصريف من قَدَر الملكة ميديا في القتل، بل بالقدْر الذي فيها من كرديتي طليقةً كأمّ تنجب العربية، ذاتها، حرةً من دنس “فتوحات” التاريخ، وسطوة اللسان “الفاتح”.
لا انتقام مطلقاً. مقايضة دور بدور. مقايضة “مترفعة” قليلا عن “اللاتوازن”، الذي سببتْه العربية لي بركاكة “الإنشاء” القومي، و”سبّبتُه” لها بالحرص على خيالها كإنصاف للغة من نفسها اللغوية المعذَّبة بعصبية الإنشاء القومي.
بلا تواضع، لم أنظر الى نفسي “كمهارة” في الاختبار. مدرِّس لغة عربية، في إحدى قرى الشمال السوري، يحسن النحو والصرف، وشرح اللفظ بأخيه اللفظ، كما لا يحسنها “محترفو أدب” من أمراء الحداثة العربية. المسألة، اختصاراً، أن نأخذ من اللغة نبذةَ وجودها الحافظ لمشيئتها لغةً في تصريف الإنسان لملَكاته.
لغتي العربية “هوية” انتساب العربي الى كرديتي شريكاً في ميراث الالهة.
 هل تتخيل من هو قارئك، ولمن تكتب فعلا؟ اذا كانت كل كتابة تحاول الإجابة عن سؤال القارئ للشاعر: من أين أتيت؟
– نعم. أتخيل القارئ كاتباً في الأصل، أو “متعفِّفاً” عن الكتابة بكرمٍ من إطلاق يد غيره في تصريف التدوين.
قارئي كاتبٌ، أو كاتبٌ تنازل لي، طوعاً، عن أن أمتحن نفسي بما أراد امتحان نفسه به. أنا كاتب بتصرُّف كَتَبة.
 تكتب بالعربية وتعيش في أوروبا. أتشعر أن اللغة وطن آخر؟
– اللغة لم تعد وطناً “آخر”. هي الوطن الأول. وجودي، منقطعاً عن كل شيء، لا يؤكده إلا ما يصلك مني لغةً. قَدَري قَدَرٌ لغوي. لا مهارات لديَّ أتدبر بها شأناً في توليد الكون الأصغر، أو الأكبر، أو الأفلاك “الخنثى” بين جنسين. لم أعد أحسب حياتي إلا بأوراق تتحامى بالمعاني مرقونة بهداية الغريب، أو بمعان تتحامى بالبياض في الورق ينشئها مدافعةً من بقاء الأصلح عن الأصلح.
لا أتعرّف الى نفسي إلا لغةً. تاريخي لغة في الهيئات. ما كنتُه، وما أكونه، وما سأكونه، هو الحصالة، التي تجتمع بين يديك مني لغةً. قَدَر البعض أن يوثّق الحياة تماثيل، أو رسوماً، أو عمارة، أو بطولة في التأريخ للبطولة بحظوة حدوثها على هذه الجهة من النهر أو تلك. قَدَري توثيق الحياة، بمراتب هذيانها، لغةً، وأن أصير، بذاتي، وثيقة تلك اللغة.
تغيّر الصيد
ماذا تغير في سليم بركات، من الشمال الكردي الوحشي الى القطب الشمالي المتمدن؟
– الصيد. تغيَّر الصيد.
أنا شيخ كحالي مذ كنت طفلاً. لم أزل عاطفياً كحالي، رطبَ العينين أبداً، جريحاً في عذابات الآخر حتى في كتاب، أو شريط سينما، عنيفاً إن استثارني مستثير، غاضباً إن غُضبت، خجولاً، تائهاً في خيالي على أبواب كل شيء، مقلِّداً حتى الموتى، وراء هاديس، في حركات الأيدي وهم يرتلون أشعار هوى كتبوها للأحياء.
منذ فتحت بصر قلبي على شؤون ستظل، من نعومته حتى نعومته، أدراجاً لصعود الحنين بأحمال الصور كلها، عرفتُ البندقية في يد أبي، عرفتُ الإقامة والطير في مطاردة متخمة بنجوى ندائي أن يكون الطير لي. لم أترك شبراً من تخوم القامشلي ليس لي فيه لهفة الحذر المترقبة، كطعم السفرجل تحت اللسان، وأنا أسدّد البندقية، جاثياً، إلى فاختة، أو يمامة، أو دوريّ. غير أنني، باعتراف لا معنى له، أجزم أن القنص لم يكن على ما يرام: أعود بصيد، نعم، بعد الكثير من الطلقات. وبّخني أبي مراراً: “أنت تتسرع في الرماية”، بيد أن أبي كان متسرعاً مثلي.
في بيروت، انصرفتُ بتمام لهفتي، إلى الشعر. بعد أحدى عشرة سنة استعاد الصياد السارح صواب الحيَل في حديقة بيته بأرض نيقوسيا: اشترى بندقية بضغط الهواء، وفخاخاً.
تحت شجرة التين الكبيرة، وسور شجر الزيتون، وشجرات الليمون الثلاث، توالت الطرائد دائخةً، قنصاً بالبندقات الرصاص الصغيرة، أو جنوحاً الى الخبز، وحبوب القمح المكبّلة بخيطان مموهة. كل يوم أحد، في الحادية عشرة صباحاً، كنت أعدّ لنفسي ولجاري (الذي تولت زوجه رعاية ابني الصغير في فترات الصباح)، أو لجاري الآخر، الشرطي (الشيوعي المتّقد حماسة، الماهر حتى الكفر في التصويب حين كنا نتبارى في الاطلاق على قطعة النقد)، صحناً من اثني عشر عصفوراً ممرّغاً في دبس الرمان.
تغيّر هذا. طيور مسترسلة في زيارة حديقة بيتي، بأرض سكوغوس – الغابة الجبلية من ضواحي ستوكهولم، بلا عدد. شحارير، وسمانى، ودوريّ، وقرقف، وشقراق، وكسار جوز، وزياب، وفصائل مما لا يأكلها الا هائم جائع. أدلّلها بطعام من أطايب البزور تعهدته الرعاية الصحية بعناية المواد الحافظة.
جمهورية من رغبات القنص حلّت دستورها – دستورَ التعادل اللامحتمل بين سماء الطير وبرّ الانسان والطير. نهاية المقاصد المنتخبة في سنن القتل الأولى. “تسوية” غامضة للنوازع: ها أنا أراقب الطير بعيني انشقاقي على شخص كنتُه (هذا ما تغيّر).
أشرب بغزارة وأكتب جلوساً على الأرض
ألا تزال تشرب البيرة وسواها بغزارة، وتستمع الى كارل أورف، وتطبخ، وتصيد، وتكتب مسوّداتك بالقلم الرصاص، وأنت جالسٌ أرضاً؟
– أشرب بغزارة مكلفة في أرض المكوس على الكحول جبايةً كاللحم من اعضاء الانسان. كل رشفة تعادل أربعة مثاقيل فضة (زجاجة العرق التركي بخمسة واربعين دولاراً، ومثلها الفودكا، التي أشرب أكثر من نصفها في يومي). أشرب الجعة، والنبيذ، وما تطاوله يدي من كحول كي أعيد الحياة ذكرى عادلة من نسيان عادل. تراجع كارل اورف امام بوتشيني منذ بيروت. الطبخ يتنامى مذاهبَ في حروب الأفاويه، توكيداً للوحدة بصروف النكهات مجتمَعاً أنيقاً في طبقاته. تراجع القلم الرصاص – الاشراق، بلا امتهان (لا يزال الى جانبي كحرْز في تدوين الملاحظات)، مذ حاصرتني احتجاجات مصفِّفي الحروف بأن الرقن الرصاصي يُرعد البصر في الضوء، فعوّضته بالقلم الماصّ للحبر من المحبرة.
أكتب جلوساً مختطفاتٍ رؤىً، في الليل، على كنبة واطئة فصلها لي نجار بقبرص، ثم أجعل تلك الرؤى أسانيدَ في الكتاب، أول المغيب التالي، أمام خزانة بارتفاع متر وشبر، وعرض متر وشبر، وعمق أربعين سنتيمتراً، أشد دفّتها العلوية الأفقية فتستوي طاولة غريبة للكتابة. حين أعيد الدفة العلوية الى سويتها ترجع الطاولة خزانة ملأى بقصاصات ورق، وألوان للرسم، وسكاكين، ومغلّفات فارغة. الى جوارها عمود من رفوف صغيرة تحوي اسطوانات من حقائق الصوت المضغوط “اوبراتٍ” شتى. قرب العمود سطل خشبي، قديم، تراكم فيه ما جمعته من سكاكين، في سنين من حمى جمْعِها.
في قبرص استأثرت لنفسي في البيت، الذي بنيناه أنيق القرميد والشجر، بعلّيةٍ خشبيةٍ كمعقل لقبائل الكتابة. طلقة من بندقية الجندي التركي، في خندقه شمال عراء الشمال، نثرت الزجاج والاسمنت على منضدة العلِّية. ظل دويّها ثلاث سنين في رحابة البياض الشاهد على أوراقي الشاهدة على بياضها.
نعم. حين أكتب إلى الطاولة – الخزانة الصغيرة أكتب جالساً على أرض البيت.
 بعدما كتبتَ ما كتبت، ها أنت تصدر “الأعمال الشعرية”، كأن ذلك يسمح للقارئ بالقول باسمك، أو عنك: هذه هي عمارتي الشعرية وقد اكتملت، أو شارفت الاكتمال. هل اكتملت عمارتك الشعرية، وانجزتَ ما تريد انجازه في الشعر، أم أن “الاعمال الشعرية” هي فقط لتجميع ما انبنى وظل متفرقاً، ولا بد من قراءته مجتمعاً، لبداية مرحلة أخرى مختلفة، او استكمالية؟
– هذه هي المرة الثالثة أجمع أعمالاً شعرية في “مهبّ” واحد: “المجموعات الخمس” (1982)، فـ”الديوان” (1992)، فـ”الأعمال الشعرية” الآن. كل مرة استعرض خطاطات البناء هندسةً رسماً، لا البناء عمارةً. لا أريد عمارتي “مكتملة” في الشعر (ما كمال العمارة، هنا؟). ستكون “عمارتي”، أبداً، ذلك الأثر من أعمدة على حافة الجرف، كبقايا هيكل الآلهة ألْهَمَتِ الكلمات “تبعة” الخلْق، وانهارت متعبةً من خذلان الكلمات.
 قد يتراءى للقارئ أن شعريتك مكتملة، أو شبه مكتملة، منذ البدايات، ولا تنطوي على محطات وتحولات جوهرية في منطق بناء القصيدة والرؤية الى الشعر، واللغة، بما يوحي أن الفضاء وحده، الفضاء الشعري، هو الذي يتسع ويتشعب. ماذا تقول عن هذا الاكتمال؟
– أليست تحولاتٍ ان يتسع الفضاء الشعري؟ كيف للفضاء أن يتسع بلا منطق في بناء السعة طبقاتٍ على كتف أمّها؟ سؤال غير بريء، “يدغدغ”، غير منصف. عَتْلٌ إلى خلط الفرق بين “الهوية اللغوية” للشاعر بموضوعات لغته. لكن، دعني امتحنه برهافة من التأويل:
إن كانت شعريتي “مكتملة” منذ البداية، فالأوجب مطابقةُ الاستنتاج على حوامل الغيبيِّ: لقد نزل النص “موحى” بتمامه، “أزليَّ” التدبير، “قديمَ” الانشاء، في معارضة “المُحدث” و”المخلوق” (تناهبت المِلَل، والنِّحل، ذبحاً في الانتصاف لـ”القديم” و”المخلوق” و”الأزلي” و”المحدث”). أشعريتي هي، فجاءة، انتساب المنازعة الكبرى إلى الأهوال؟ لا بأس. “شعريتي” قدَر المتكلمين، المتنازعين، إذاً. لكنني سأخفف الأمر قليلاً، نزولاً بوجود النص أزلاً في غيبه الى “الأرض”: قبل الجمهرات” – القصيدة الطاحنة عن ظهور الانسان، ليس ما بعد “الجمهرات”. “الكراكي” – العاطفية ليست “بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح” – شوارع مدن، وعمارات، وخيبات، ومجزوءات “سردية”. “البازيار” غمر من أفق المكان الكردي. “طيش الياقوت” جدال مع الموت تشخيصاً. “المجابهات، التصاريف… وغيرها” – شؤون لا تُعرَّف بمواثيق “النقد العربي” في نقد الغيبي. “المثاقيل” شجار بين الانسان والله. “المعجم” – ماذا عن “المعجم” العودة بالمقامرة الى نُبلها، وبالمجازفة الى نبلها، في الذهاب الى موضوعة قوَّضها التداول (الخير والشر) بابتذال حيناً، وعادية حيناً آخر، ممرَّغةً – كل الاحيان – في “المطهر” الديني للمعاني المدنسة في عبورها الى “الديني”.
“خير” و”شر” لا يتفقان في “المعجم” مع أيٍّ توسّله “الأدبي” سعياً الى توصيفها بلاغةً، أو سردَ انشاء. أما قصيدتي – الكتاب القادم قريباً “شعب الثالثة فجراً من الخميس الثالث”، فهي، باختزال مُربك، “هجاء البشرية” طرّاً.
 على هامش احتمالات تحديد الشعر، ما هو تحديدك الشخصي للشعر، في ضوء هذا النوع الشعري الذي تكتبه، ويعتبر ملكاً حصرياً أو شبه حصري لك؟
– ما تقديرك لـ”الحصري” الذي أمتلكه؟ سأبايعك على التقدير – أنا الذي لم يخمّن الشعر، بحدسه الوحشي، الا محيِّراً.
هل شعرك، أو الشعر مطلقاً، هو حياة، أو هو حياة موازية، أو اضافية، أو مضادة؟ وكيف تتحدد هذه الحياة باللغة؟
– أخذنا الكثير من “النظري”، في تقدير الشعر حياة “في الحياة”، أو حياة موازية، “مرصوفة جيداً” بإزاء “شارع” الحياة المتفلّع بأُكالة الإسفلت القديم، أو حياة مضافة تعويضاً عن “المفقود”، على صواب منطقه. قد يكون في الامر ما فيه. بيد أن لي حساباً آخر اذا تلمستُ القرائن في انتسابي النفساني الى “وجود” ندعوه “الشعر”:
ما من تعويض في الشعر عن شيء، اذ يقلّدني الشعر زمام المعذَّب، اللاتجانس، اللامتوازن، المتهتّك، المنتهَك، الطاحن بلا هوادة، فاحشاً بخيال الموت بلاغةً فيه.
الشعر ليس حياة، في الأرجح. برزخٌ ما لن تقدّر خصائصُنا كحواس الهاويةَ، التي تليه في متاهة المعاني وحدائقها اللاموصوفة. نحن، في “الخوف” من الفطام عن حصانة التعريف كثدي مُرضع، وعن “العبث” بالأمان في القياس، ندور من حولنا على مطابقات تشبه تعويضات الخيال الديني عن فوات اللذائذ الارضية على ابنائه. الدينيّ يعِد بتعويض سعادة، في السماء، على قياس شراب أرضي، وطعام أرضي، ونكاح ارضي، وملْك – حدائق وقصور ارضية، وخَول، وسراري، وجواهر. فهل من وعد الشعر اللذائذُ تعويضاتٍ – حيواتٍ بقياس “اللاشقاء”؟
أميل الى أخذ الشعر بزوغاً خارج “الحياة” و”الموت”، بشرع نفسه أنه الحياة، والموت، والقيامة، والعدم، والهدنة، والحيلة، وما يستطيع أن يأخذه في عصفه من وجوده على الوجود.
الشعر شعر. لغة عن صواب المحيِّر في ندائه، بلا إغراء من أمل اللذائذ قياساً الى اللذائذ.
 ثم ماذا بعد؟ نقصد: أين أنت الآن مما كتبت؟ هل تنظر اليه من مسافة؟ هل تعيد النظر؟ وأين ما تكتبه في هذه اللحظة، أو ما تعتقد أنك ستكتبه بعد قليل، من تجربتك الغزيرة هذه؟
– أنا على المسافة ذاتها من استعادة نفسي مجهولةً كعهد الكتابة بها. أنتشل من أعماقي كتاباً لم أظن، قط، أنه هناك، ثم أنتشل آخرَ بعد آخر. كم من “هناك” عليَّ انتشاله لأعرف أنني هناك؟ كيف أعيد النظر في شيء لم يُعرني نظره بل أقحمني فيَّ بآلة اقتحامه العماء الاعظم؟ ما أكتبه، الآن، شيء ظننته من “مزاح الجراءة” في اختزال البشرية الى “بشريةٍ” روايةً. والذي سأكتبه، تالياً، هو “تاريخ اللون”

الملحق الثقافي للنهار   

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…