لن أخوض في مصطلح التصوف و التعريفات المتعددة له لأن دراستي الموجزة هذه له ليست دراسة أكاديمية كلاسية لمدارس التصوف ومراحل نشوئها ونموها وانتشارها انتشار النار في الهشيم . ولكن سأتناول التصوف من زاويتين: نظرتها إلى الله ونظرتها إلى الإنسان, ثم نظرتها المركبة من جداء علاقة الله و الإنسان.
فنظرة التصوف إلى الإله تختلف في الجوهر عن تصورات الأديان المعروفة وتتلخص في : ألا موجود إلا الله! وأن الله يتجلى في الأشياء كلها وبتعبير آخر : الكون جسد والله روحه وهما متحدان منذ القدم لا فرق بينهما إلا في الدرجة فالكون فكرة متجسدة أو إله متجلٍ في الأشياء كل الأشياء.
إنما يهمنا بالدرجة الأولى أن نعرف موقف التصوف من الإنسان ومن أي منظور يستقي القوم موقفهم .. أن التصوف متهم بنزعة الجبرية التي تبناها كثير من أهل الشرق بذرائع مختلفة تخدم أهداف السلطات مرة وأهداف المعارضين مرة فبينما رفع الأمويون شعار الجبرية عارض العقليون هذا الشعار و رفعوا بالمقابل شعار الحرية . بينما جاء الصوفية وأعادوا رفع شعار الجبرية لكن من منطلق آخر مختلف جذرياً عن منطلق الأمويين السياسي التبريري لممارساتهم و مظالمهم كما أشار إلى ذلك الدكتور عبـد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق في كتابه عن تاريخ الفلسفة الإسلامية .
أما الصوفية فقد نادوا بالجبرية اقراراً بالواقع الكوني والبشري المتمخض عن إرادة الله فمادام الله يخلق البشر بإرادته المحضة و يزين لهم اختياراتهم إذاً فمن الخطأ الفادح الاعتراض على الناس في قناعاتهم الدينية و الفكرية لأن هذا التنوع إنما هو نوع من الجبرية الإلهية لا يملك الناس أمامها أي خيار !
لذلك فمحيي الدين بن عربي يعلن بصراحة أنه غير آراءه و مواقفه وسحب اعتراضه على الخلق في أديانهم و مذاهبهم ولم يعد يكره الآخر لمجرد اختلاف دينه ومذهبه يقول في أبيات اشتهرت نسبتها إليه:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
و قد صار قلبي قابلاً كلّ صورة فمرعىً لغزلان و دير لرهبان
و ألواح توراة و كعبـة طائـف و آيات إنجيل و مصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجــهت ركائبه فالحب ديني وإيمانــــي
هذا التوجه المعترف بالآخر المختلف تمثل بنظري بذرة الديمقراطية الصوفية في تاريخ الإسلام وقد عبر الشاعر الصوفي الملا أحمد الجزري عن الفكرة نفسها بطريقة يقول في ديوانه بالكردية ما معناه :
” لكي يتعرف الناس تجليات الأسماء الإلهية بكل وجه و معنى فإن الله قد أغرم بعض القلوب بالتماثيل والأصنام وعلق بعضها الآخر بالذات الصمدانية و جعلهم يسكرون بذكر اسم الإله الصمد !!
فلا مانع إذن عند الملا الجزري أن يعبر كل واحد من البشر عن حبه للجمال الإلهي بطريقته الخاصة و قد أكد شاعر ثالث هذا المعنى ببيت مشهور هو :
عباراتنا شتى و حسنك واحد و كل إلى ذاك الجمال يشير
فالثقافة الصوفية تحاول أن تزيل جليد العلاقات بين الإنسان و أخيه الإنسان بروح التسامح و النظرة المتساوية إلى كل النحل و الملل و النزعات متجاوزة حدود الأديان و رسومها التي يكفر بعضها بعضاً و يستبيح بعضها أموال و أعراض و دماء الطرف المخالف أو المختلف بشتى الذرائع و الأسباب !؟
إن التصوف بكلمة مختصرة نظرة محبة و نزعة اعتراف بالآخر مهما اشتد خلاف هذا الآخر معنا .. لأن الصوفي ليست له مطامع في الغنائم و الحروب و السبايا و هو لا يعترض على واقع البشر في موقف يكاد يكون سلبياً في بعض الأحيان كما عبر عن ذلك شاعر متصوف بقوله :
دع الاعتراض فما الأمر لك و لا الحكم في حركات الفلك
و لا تســــأل الله عن فعـــله فمن خاض لجة بحـر هلك
و لكن السياسيين قديماً وحديثاً استغلوا هذه النزعة السلمية الهروبية لدى الصوفية و حولوهم إلى ممالك للصمت المطبق الغافل عما يجري من مظالم و جراحات و آلام بشرية و سرعان ما تحول التصوف إلى دوائر ضيقة يحقد بعضها على بعض و يقاطع بعضها بعضاً كما نشاهد لدى الطرق الصوفية المتخاصمة منذ مئات السنين خاصة في العصر العثماني الذي خرج فيه التصوف عن أهدافه الإنسانية السامية لكننا مع ذلك نؤكد أن الصوفية تحمل بذور الوفاق الإنساني بالرغم مما علق بها من أوضار وهي تحمل في طياتها بذور النزعة الديمقراطية في التاريخ الإسلامي و تاريخ الشرق عموماً لأنها النزعة الوحيدة التي تحارب الكراهية و الأنانية و حب السلطة و مقاطعة الآخر من أجل دينه أو مذهبه و تمارس الحب والإصلاح عن طريق الصمت و قلة الاعتراض و عن طريق العزلة و البعد عن الحياة السياسية على حد قول بعضهم:
فطوبى لنفس أولعت قعر دارها مغلقة الأبواب مرخىً حجابها
إن التصوف في جوهره يمثل تيار فصل الدين عن السياسة.. . لأن الدين بعواطفه السامية ورومانسيته الحالمة لا يتناسب مع السياسة و الألاعيب السياسية الماكرة و حياة الخلفاء الراشدين مثال ٌ حي شاخص لذلك فإذا أراد أحدهم أن يكون متديناً رأيته غير موفق في السياسة و إذا ما حاول أن يكون سياسياً بارعاً رأيته جانب أخلاقيات الدين و تجاوز كثيراً من النصوص لصالح المعادلات السياسية فعثمان و علي نجحا نجاحاً طيباً في ساحة التدين و الفضيلة الروحية و جانبهما التوفيق في السياسة أما من بعدهم فقد مارسوا السياسة التي توصلهم إلى أهدافهم و لو على حساب مبادئ الدين و الأخلاق المعبر عنها بالتقوى فالأتقياء بصورة عامة فشلوا في السياسة والسياسيون أخفقوا في مجال التقوى إلا من رحم ربك و قليل ما هم .
و هكذا رأينا التصوف يضع بذرة جديدة مختلفة عن السياق الدنيوي الديني الذي نادت به الأديان السماوية السامية الثلاث. ولذلك اتهم كثير من أهله بالزندقة في ظروف و ملابسات غامضة و معقدة ليس الآن مجال شرحها و الأمثلة كثيرة و لا يخفى على الدارسين موضوع أبي منصور الحلاج في العصر العباسي و لا موضوع الشهاب السهروردي في العصر الأيوبي .. الدولة الوحيدة التي استفادت من التصوف هي الدولة العثمانية حيث يقول بعض المفكرين
” إن التصوف هو الذي أوصل العثمانيين إلى أبواب (فيينا) و هو الذي تسبب بسقوط الدولة العثمانية التي نخر فيها سوس الفساد و الانحلال الاجتماعي و الاقتصادي و الفكري و الحضاري حتى تحولت إلى رجل مريض أجهز عليه الاستعمار الحديث في الربع الأول من القرن العشرين .