مفهوم ضيق لمعنى الالتزام

  زكريا ابراهيم العمري
 
منذ أن وفد الينا مصطلح الالتزام او منذ ان استوردناه معلبا من باريس ونحن نتجاذب اطراف هذه الكلمة ليفسرها كل واحد منا على هواه او على هوى الحزب او الايديولوجية التي يتبناها ولست اعترض على ان يكون لكل فهمه الخاص لمعنى الالتزام على ان لا نعمد الى المغالطة او الى عنق الحقيقة وتجييرها لصالح هذا او ذاك.

اقول هذا وانا ارى ان قطاعا عريضا وواسعا من نقادنا ومثقفينا يصرون على ان الالتزام في الادب والفن يعني ان يتبنى الادب او الفنان قضايا عامة, وموضوعات سياسية ساخنة او هو بعبارة اخرى التزام بقضايا الجماهير واندغام بهمومها واوجاعها الى آخر ذلك من الكيشيهات المعروفة.
وهذا ينبغي ان نميز بين تبني القضايا الجماهيرية وبين ترديد الشعارات والكليشيهات السياسية الجاهزة  , نعم لسنا ضد ان يتبنى المبدع كاتبا او رساما او موسيقيا قضايا شعبة وهموم ومشاكل جماهيره وان يدافع عنها بحرارة لسنا ضد ذلك ولكننا ضد التلفيق ورفع الشعارات والكيشيهات السياسية الجاهزة وضد الكذب والادعاء.
ان التزام المبدع بالقضايا الجماهيرية ينبغي ان يكون نابعا من اعماقه وليس مفروضا عليه او مقحما على عمله الابداعي ففي هذه الحالة , حالة ان يكون الالتزام بالقضايا الجماهيرية الزاما او التزاما قسريا بشكل من الاشكال فان العمل الابداعي سيفقد مصداقيته, لانه سيتحول الى نوع من الخطاب السياسي الفج, وسيتحول الى مجموعة من الشعارات المشوهة المقحمة بفضاضة على جسم العمل الفني او الملصقة به الصاقا.
العبد الفقير وفي حدود معرفته المتواضعة يرى ان الالتزام بمفهومه الاشمل والاعم هو التغلغل في اعماق النفس البشرية والكشف عن اغوارها ومطاويها الداخلية الخفية, ولعل هذا هو ابرز ما سعى اليه صاحب مصطلح الالتزام سارتر من خلال اعماله الروائية التي نعرفها كلنا, فنحن نجد في اعمال سارتر الابداعية هذه شعارات سياسية ولا مقولات تنظيرية بحتة وانما نجد محاولات دؤوبة للايغال في مجاهل النفس البشرية واصرارا على كشف اغوارها, وأضاءة ظلمتها, اليس هذا هو التطبيق العملي لمفهوم الالتزام بمعناه الاشمل والاعم ..؟؟ .
لمذا يصر كثير من النقاد على محاربة القصيدة العاطفية (الغرامية) وتصنيفها خارج دائرة الالتزام ..؟؟ ولماذا تعتبر كتابة المبدع عن قضية تخصه هو او تخص إنسانا آخر نوعا من الكتابة الرومانسية الذاتية البعيدة عن الالتزام والجدية..؟؟ أليس هذا مؤشرا على ضيق فهمنا لمعنى الالتزام..؟؟.
من قال ان القصيدة العاطفية دائما وابدا خارج دائرة الالتزام..؟؟ , ان طريقة التناول والعمق في الطرح والرؤية هي التي تحدد فيما اذا كان النص الابداعي ملتزما او لا وليس الموضوع , فلربما تكون قصيدة عاطفية أكثر تجسيدا لمعنى الالتزام من قصيدة تتحدث عن قضية جماهيرية ساخنة.
ولنأخذ مثلا قصيدة (غريب على الخليج) لبدر شاكر السياب ترى هل هذه القصيدة من الادب الملتزم ام لا..؟؟ اظن انها من الادب الملتزم حتى وهي تتحدث عن تجربة السياب الشخصية.
وعلى اي حال لسنا بصدد تصنيف النصوص الادبية او الادباء في فريقين, فريق ملتزم وفريق غير ملتزم, لكنها مجرد دعوة الى اخذ الالتزام بمعناه الاشمل والاعم, بمعنى ان الالتزام هو محاربة الكاتب لسبر اغوار النفس البشرية واضاءة مكامنها وخفاياها من خلال العمل الابداعي, وهي دعوة الى عدم ممارسة التضييق على المبدعين والزامهم او قسرهم على تبني او ترديد شعارات سياسية وعقائدية لا تشكل بالضرورة جزءا من وجدانهم او اعماقهم.

نعم ليلتزم المبدع او ذاك بالقضايا الجماهيرية, ولكن على شرط ان يكون هذا الالتزام نابعا من ذاته وتجسيدا حيا لما يشعر به وما يتجذر في خفايا نفسه ومطاوي وجدانه وليس مجرد ترديد سطحي لمقولات يضعها في فمه الآخرون.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…