هيثم حسين
ترتبط الكثير من الأحداث بأماكن بعينها دون غيرها، كما تكفل تلك الأماكن للأحداث التي وقعت فيها ديمومةً في الذواكر، مستمرّةً باستمرار الأمكنة تلك على حالها التي كانت عليها، قبل، وأثناء، وبعد وقوع تلك الأحداث التي تنطبع عند في الأذهان بطابعها، ولاتفتأ تنقل مثل هذا الإحساس إلى مَن يتناقلونه عبر معاودة التذكير بما حدث.. كما يكون النظر إلى أيّ حادثة، صغُر شأنها أو كبُر، مختلفاً من شخصٍ إلى آخر، أو من طرف إلى آخر، ويكون المنظار من خلال ما يخدم الأهداف التي يسعى كلّ طرف إلى تحقيقها، أو الإبقاء على المكتسبات المتحقّقة والمطالبة بغيرها، وهنا يلعب الإعلام دوره الفاصل فيما يكون، حيث قوّة والإعلام والهالة التي يخلقها للحدث، أو التَتفيه الذي تلصقه به، يخلق الشعور بقيمة المكان وبالتالي عظمة الحدث الواقع فيه، أو تنزع عنه هذا الشعور وتخلق شعوراً مناقضاً له عنده..
وهنا، يلاحظ المتابع للفضائيّات التركيّة، أنّ الإعلام التركيّ يدأب في الآونة الأخيرة، خاصّة بعد تلك العمليّة الناجحة لمقاتلي حزب العمّال الكردستانيّ، والتي قُتِلَ فيها عدد من العساكر الأتراك، وأسر ثمانية منهم، على التصعيد المباشر، والدفع بالجيش، الذي كسرت شوكته، وتهزهزت هيبته في الشارع التركيّ، وفقد المصداقيّة والقوّة الممغنطة التي يدّعيها، إلى الاقتصاص وردّ الاعتبار، حيث يثار خلاف ويتعمّم يقينٌ حول قوّته المزعومة، وتغوّله الموهوم، لأنّه ليس كما يدّعي، ولا حتّى قريباً من ذلك، وقد اعتبر تسليم المقاتلين الكردستانيّين لعساكر الجيش إهانة غير مُغتفرة، ويجب الردّ عليها، ومحوها من ذاكرة الجميع، وفي المقدَّمة الشعب التركيّ والكرديّ معاً، وذلك لأنّها تذكير دائم بزيف المسرود من التعظيمات والتفخيمات، وإلحاح دائم على الذاكرة أنّ الهيبة التي كان يتفاخر بها التركيّ ويهنّئ تركيّه على تركيّته وينافق متأسلماً متجلبباً بعباءة مرقّعة بالعلمانيّة، حامداً شاكراً على النعم كلّها، الموهوبة له هبة من لدن إله متفرّغ للإنعام على الترك وحدهم دون غيرهم، ليكونوا المختارين، بني أتاتورك المُصطفين، ثمّ ليكمل التركيّ الواهم سعادته على هناءته متباهياً مع توءَمه في النعمة بما حصّلاه مصادفة، أو انتماءً/ اكتواءً، بمصدر العظمة، ومركز الهناءة، وبؤرة التفاخر، ذاك الولاء للانتماء المتعالي على الأغيار كلّهم، لأنّهم العرق المقدَّس، الموكول بحماية الشرق والغرب، العالم أجمع، من عبث صغار المنتمين إلى صغائرهم، والردّ على الجميع بعظائمَ تُخرسهم، وتمحيهم، تكرّماً عليهم بالتركيّة التي هي المنجى، ومَجْلَى الطباع..
خلال فترة زيارتي القصيرة إلى تركيا، لاحظت أنّ القنوات التركيّة تحرص على بثّ لقطات استعراضيّة للجيش التركيّ الذي يضرب كردستان، ويعاود عرضها، من عدّة زوايا، ويوهم أنّه في استعراض القوّة والعتاد هذا سيقضي على كلّ ما يمتّ إلى الجبال بصلة، بل وسيمحو الجبال عن الخارطة كلّها، وكان التركيز كلّه منصبّاً على تلك الصواريخ التي استهدفت المنطقة التي تمّ فيها تسليم العساكر الأتراك الثمانية إلى الوسطاء، وتعميم تلك اللقطات على وسائل الإعلام العالميّة، وهذا ما كان من شأنه النيل من هيبة الجيش التركيّ، ونزع الغلاف الواهي الواهم عن تلك الادّعاءات، والغاية من تكرار صور المنطقة المستهدفة تلك، ليس اجتثاث تواجد الثوّار، لأنّهم يدركون تمام الإدراك أنّ المنطقة تلك مفرَّغة من كل تواجد محتَمَل، بقدر ما هو لاجتثاث الصورة التي علقت في الأذهان عنها، وردّ الصفعة تلك تدميراً شاملاً، أي محو اللاشعور الذي احتفظ بصور الهزيمة للجيش، وإعادة ترتيبه وذلك بتنزيل، وتثبيت صور جديدة فيه، هي صور التخريب، والدمار، صور الترويع، التي تنذر بالويل وتتوعّد بالقتل لمَن قد يتجرّأ ويفكّر بالتمرّد على “العظمة”، ثمّ صور الحُفر التي تخلّفها التفجيرات، التراب المذرور، الصخور المتناثرة هنا وهناك، لتعميم وتثبيت الصور التي تظهر بطش الجيش، وانتصاره، حتّى وإن كان الوهميّ، على الكُرد.. منقادين لظنون بمنها اعتبار أنّ آخر ما يحدث هو أكثر ما يعلق في الأذهان، دون أن يحسبوا حساباً لاعتبار آخر، ذلك الذي يؤكّد على أنّ أوّل ما يحدث يدوم في الأذهان ويخلد، وأنّ البداية المربكة لهم، لن تحلّها النهاية المشتبكة بارتباكهم، والمرتبكة باشتباه النصر المشبوه..
لا شكّ أنّ ذواكر الأماكن من ذواكر أهليها وساكنيها، وهي عصيّة على الإمحاء، أو الانقياد للانمحاء المُمْرِض، وإن مُحيت الأماكن المقصوفة، وإن خلّف القصف في السهل الحفر، أو سُوِّي الجبل بالأرض، في المحاولة التي ترمي إلى أن تنزع عنه شممه، ورسوخه، وتوتّده في الأرض للإبقاء عليها متوازنة..
خلال فترة زيارتي القصيرة إلى تركيا، لاحظت أنّ القنوات التركيّة تحرص على بثّ لقطات استعراضيّة للجيش التركيّ الذي يضرب كردستان، ويعاود عرضها، من عدّة زوايا، ويوهم أنّه في استعراض القوّة والعتاد هذا سيقضي على كلّ ما يمتّ إلى الجبال بصلة، بل وسيمحو الجبال عن الخارطة كلّها، وكان التركيز كلّه منصبّاً على تلك الصواريخ التي استهدفت المنطقة التي تمّ فيها تسليم العساكر الأتراك الثمانية إلى الوسطاء، وتعميم تلك اللقطات على وسائل الإعلام العالميّة، وهذا ما كان من شأنه النيل من هيبة الجيش التركيّ، ونزع الغلاف الواهي الواهم عن تلك الادّعاءات، والغاية من تكرار صور المنطقة المستهدفة تلك، ليس اجتثاث تواجد الثوّار، لأنّهم يدركون تمام الإدراك أنّ المنطقة تلك مفرَّغة من كل تواجد محتَمَل، بقدر ما هو لاجتثاث الصورة التي علقت في الأذهان عنها، وردّ الصفعة تلك تدميراً شاملاً، أي محو اللاشعور الذي احتفظ بصور الهزيمة للجيش، وإعادة ترتيبه وذلك بتنزيل، وتثبيت صور جديدة فيه، هي صور التخريب، والدمار، صور الترويع، التي تنذر بالويل وتتوعّد بالقتل لمَن قد يتجرّأ ويفكّر بالتمرّد على “العظمة”، ثمّ صور الحُفر التي تخلّفها التفجيرات، التراب المذرور، الصخور المتناثرة هنا وهناك، لتعميم وتثبيت الصور التي تظهر بطش الجيش، وانتصاره، حتّى وإن كان الوهميّ، على الكُرد.. منقادين لظنون بمنها اعتبار أنّ آخر ما يحدث هو أكثر ما يعلق في الأذهان، دون أن يحسبوا حساباً لاعتبار آخر، ذلك الذي يؤكّد على أنّ أوّل ما يحدث يدوم في الأذهان ويخلد، وأنّ البداية المربكة لهم، لن تحلّها النهاية المشتبكة بارتباكهم، والمرتبكة باشتباه النصر المشبوه..
لا شكّ أنّ ذواكر الأماكن من ذواكر أهليها وساكنيها، وهي عصيّة على الإمحاء، أو الانقياد للانمحاء المُمْرِض، وإن مُحيت الأماكن المقصوفة، وإن خلّف القصف في السهل الحفر، أو سُوِّي الجبل بالأرض، في المحاولة التي ترمي إلى أن تنزع عنه شممه، ورسوخه، وتوتّده في الأرض للإبقاء عليها متوازنة..
يقيناً، أنّ العبث بالتضاريس لن ينفع، لأنّ الخارطة قد احتفظت بالترسيم على حاله، ولن تخلف وعدها، بالاستجابة لميعاد واعدت به عشّاقها، ولميثاق أبرمته مع الساعين إلى ردّ الاعتبار لها، هذا ما يؤكّده التاريخ، وتصادق عليه الجغرافيا..