الإهداء إلى إسماعيل رسول بكلّ تجليات الاغتراب
هل يسمح لنا الوقت مساحة من التأمل عن أفـقنا المفقود
في ليالي الشتاء نجتمعُ حول الموقد نستمعُ إلى حكايات أمي ، نتلبّس بمغامراتِ أبطالها. تقوم الأخت بتوزيع الزبيب علينا ، كلٌّ يأخذ حفنةً منه ، ثم تقاطع أختُك حكايةَ الأمِّ : أينَ أخبّئ حفنة زبيبٍ له ؟ يسودُ صمتٌ شتائيٌّ مثير علينا ، فتدمعُ عيناها ، فتكفُّ عن توزيعِ الحصص ، وتنسحبُ . تسري برودة راعشة داخلَ الموقد ، ثم ينسلُّ كلُّ إلى غرفته . رحلاتُنا وجلساتُنا وسهراتنا تتلوّن بلون الصّمتِ المخنوقِ ، وتتوّسد الحزن ، وتوشحُها الأمُّ بنظراتها المفسَّرة لدينا : تفرحون رغم غيابه؟؟. لم نعد قادرين على الضّحك بوجودها بيننا ، نضحك سرّا ، وتفترشُ على شفاهنا ابتساماتٌ عرجاء ، باهتة . وكثيراً ما تحاول أمي إيهامنا بفرحها بنا ، فحضورنا يُغنيها لغيابك ، ونحسُّ أن مساحةَ الألم لا تختفي من قسماتها .
غيابُك اعتقلَ جمالَ زهورِنا ، وخضرةَ حديقتِنا ، اعتقلَ فرحتَنَا ، شتاءَنا وصيفنا ، حكمَ على ذاكرتنا بالانكماش ، فلم يعد لها القدرة على التوغل في حقول الماضي . غيابُك جعل سنواتِنا كوابيسَ . عندما سافرتَ وضعتَ فضاءَ المدينة في حقيبتِكَ ، فلم يعدْ للمدينةِ فضاء .
شوقُ الأمِّ إليك حوّل حنينَنا إلى حفلةٍ من الألم . كلّ هذه السنوات لم تكن ثقيلةً كانتظارنا الأشهر الأخيرة . أين الشهر السابع ؟ . لهذا الرقم عذوبة تمدُّ أيامَنا بحبِّ الحياة ، وتُضفي عليها رونقاً من ظلال اللقاء .
كم حسدتُ على مدينة قامشلي لأنها أخذتْكَ منّا ، وكم أحببتها لأنها احتضنتْكَ ، عندما انطلقنا كانت خملين تطلب من زهور المنزل : غني يا زهور البيت غني ، افرحي لقد جاء عمو اليوم . أشجار الحديقة تتمايل ، ورصيف الشارع بدا نظيفا ، هادئا .
عندما فتحتُ الباب ، سقط الفرحُ مذبوحا على الأرض ، كان قلبي يتدحرج على عتبة الباب. مسَّد يده على شعر خَمْلِين قائلا : أهلا عمو . لم يقبّلها ، ولم يسألْ عن اسمها ، لأنه يراها أول مرة . مدّ يده إلي مع ابتسامة جافة ومخنوقة ، شعرتُ أنَّ الثلجَ يسقط . كنتَ ذلك ولم أدرِ أنك هنا.
صالة المنزل تضجُّ بالحاضرين ، أخوة وأخوات ، وصغارهم متناثرون في كل مكانٍ كققط تحبُّ الفوضى . أحاديث وردية ، ثنائية وجماعية تعلو في فضاء الغرفة. لا أعرف لمَ لم يلاحظ الآخرون بأن شتاءً بارداً يعلو جبتهك ؟. قلت في نفسي : أي قوة هائلة هذه التي تكمن في الغربة ؟ أ إلى هذا الحد انتزعتْ منك الغربةُ الانشراحَ مع الآخر ؟ أين ضحكتُكَ المتميزة وأين ألقيتَ بها ؟ كيف لم يلاحظ أحدٌ بأنك غائبٌ ويحدِّثونك ؟
انتظرتك سبع سنوات ، ومازال هناك حفنة من الزبيب لم يمسسْها أحد ، ومازالت الحكاياتُ المشوّقةُ غير مكتملة ، تنتظرُك حول الموقدِ ، ومازالتْ حفلاتُنا مؤجلةً ، كلُّ شيء بانتظارك .
انتظرتُك لأقدِّمَ لك شكواي من قسوةِ الحياة ، لتقفَ معي ضد عتمتِها ، ونأتي بضوءٍ أبيض يمسح ظلاماً يتسع حتى شمل الأزقة والمدن ، حقولا وقرى . انتظرتُك كقوةٍ هائلةٍ تُعيدُ للأشجار خضرتَها ، وللأنفس أنسَها ، وتعيد لأمي فرحَها المُنتحِر.
أمعنتُ النَّظر في ملامحِك ، بدا لي أننا أخطأنا في تحديدها ، نظرتُ إلى لوحة الباب الخشبية ، رأيتُ الملامح نفسَها ارتسمَت عليها ، هل كنتَ حطباً ذاتَ موقفٍ ؟ هل كنتَ جذعَ شجرةٍ ذاتَ حزنٍ ؟ لم أعد أميز بين قسماتِ لوحةِ وجهِكَ وقسماتِ وجهِ البابِ ، من الذي سرقَ من الآخر صفاتِه ؟ غادرنا المنزل ، دون استئذان لأنَّنا لم نعدْ نميّز بين وجهكَ ووجه البابَ ، حيث الاثنان ينظران إلينا بذهول . خرجنا إلى المطار وكنتَ معنا ، وآلاف الناس خرجوا لاستقبالِك ، أخوة وأخوات وأصدقاء وأقرباء وجيران ، وكثيرون لا نعرفهم ، من أين لك كلُّ هؤلاء ؟ كلهم ينتظرون قدومَك ، أسوارُ المطارِ من الخارج ، وصالته المسكينة ، وساحاته المجاورة ، ملأى بالناس ، لم أعرف لمَ نسيْتُ وجهكَ هناك معلقاً بالبابِ ؟؟؟. انهمار المطر بغزارة يجعل الأشجار تتثاءَبُ ، هل للمطر ذاكرة ؟ ليس صعبا أن تترك الغربةُ العنانَ لسنابك الحزن تدكّ آفاقاً خصبةً ، لكن من السهل أن يُعْتقَلَ الفرحُ في أكمامِهِ .
جدة في … / 12 / 2003 م