موطئ قدم و طرق من الجليد (لرحيل إبراهيم حاجو , آخر أنجال حاجو آغا هفيركي)

بيوار إبراهيم

هناك حيث الدم لا يفترق عن الدم , و الصوت يبحث عن الصوت , و هنا حيث الدم و الصوت يفترقان عن كينونة الأجل و عن انبعاث الأرض , الفرد للكل و الكل يضيع في دهاليز الفردية , الأمس بات غباراً فوق جبين زمن (بالأمر) لا يعترف به و (بالأمر) يمثل بجسده ليعلق كل طرف من هذا الجسد في مداخل بوابات مدائن تكاد تفقد ذاكرتها و تنسى كل ذكرى مرت على أرضها.
قبل أيام استقبلت مقبرة العظماء (دوگر) آخر أنجال حاجو آغا هفيركي , إبراهيم حاجو ,
 والد الشهيد نايف و الفنان جوان و الشاعرة دلبر , التواضع الصامت كان أحد سمات الوداع الأخير , فقط خيوط الشمس لم تغب مع القليل من الرياح الغربية التي ذرت معها التراب المقدس لكل ضريح , لم يفلح السعي و الجهد الذي ابذلهما الملازم أول محمد طلب هلال في إبعاد هذه العائلة عن الأرض و لم يفلح بيت الشعر الذي استشهد به , في بتر جذورها:
 
لا تقطعن رأس الأفعى و ترسلها ——– إن كنت شهماً أتبع رأسها الذنبا  

لأنهم صامدون أمام الغربة , و أمام الحرمان من الأرض , أحياءٌ أم أموات فهم عائدون.
يقولون: إن القلوب أوعية الأسرار و الشفاه أقفالها و الألسن مفاتيحها , قلوبنا تحولت إلى ملاجئ لأسرار الجوار و شفاهنا تيبست من كثرة الصمت , لكن الألسن و حدها تشحذ الكلام بحجارة الصوت و شذرات النيران التي تتبعثر بين آبارٍ تحفر عنوة ً و فوق رؤوس الحطابين الذين يقتلون الأشجار واقفة في أرض ٍ أبدا ً لم تكن لهم.
الأرض شاركت مراسيم ذلك الرحيل الأخير , لكنها كانت منهكة جراء الحفر و التنقيب فوق صدرها ,  الذي يتجدد و لا ينتهي للبحث عن الغاز و البترول ,
 آليات الحفر كانت جديدة لأنها تخص الشركات الأوربية  و التي تحاول إرضاء أصحاب الأرض بشتى السبل , كي تبحث و تنقب بحرية.
على طول الطريق بين بلدة تربسية و مقبرة (دوگر) لم يفارق منظر آليات الحفر مخيلتي , عندما وصلنا إلى المقبرة سألت بعض شباب المنطقة عن تلك الآليات و ما إذا كان لأصحاب الأراضي نسبة و لو قليلة في الغاز أو البترول , ضحكوا لسؤالي , جاوبني أحدهم:
– هل نحن في الخليج العربي يا آنسة حتى تكون لنا نسبة في البترول ؟
تركت الشباب لضحكهم لأنهم جاوبوا على سؤالي , لكنني لم أستطع أن أجاوبهم على سؤالهم  , صعدت التل الذي يرقد عليه حاجو آغا هفيركي , بات نظري ينتقل بين ضريحه و بين الثرى الرطب الذي وارى آخر أنجاله , انتظرت بين صمته و صمت التراب , أيقنت أنني أجيد التحدث بلغة الطين و النار , اقتربت من الضريح و تحدثت عن التفاصيل الصغيرة و الكبيرة لحياة ليست لنا – على الأقل حتى الآن – أخبرته إن الأرض التي قدسها أكثر من الله تتجزأ بين الجهات , و الهوية تتجزأ بين المواطنة و التكتم ,  و النضال السياسي – حدث و لا حرج –  بات لعب بأوراق البوكر و أصوات مفرقعة لكرات البلياردو , وحده الشعب يتمرد على الواقع الذي ينهال علينا بسبابات من جحيم و كأن لسان حاله يقول:
– لعنكم الله من شعبٍ لا يقهر , يقاوم و لا يموت , أدهشتم الدهشة ذاتها , تتمسكون بالأرض و  بالهوية و نحن في زمن الضياع.
أخبرته أن الحزام العربي الذي يفرق بين الكورد و الكورد , سيكتمل من الحدود التركية و حتى آخر نقطة في الحدود العراقية , لأن مائة و خمسين عائلة عربية استوطنت رسمياً بيننا و بين جنوب كوردستان.

الشعب يدخل في متاهات البحث عن الهوية , يضيع بين قائمات غير مجدية تنتهي باللاعثور , صرخاتهم الصامتة تذوب مع قطرات العرق التي تهطل من جبين ضياعهم كمجتمع , فقط الحلم بالنسبة لهم سفينة تبحر في بحار المستحيل الذي يبتلع أي شيء و كل شيء حتى لو كان جبلاً من صخور , الجوع بات هدفاً لنضالهم كي يسكت عن الصراخ , و الصمود أصبح رمزأ لهم لتلقين الجروح و النزيف دروسا ً في تحمل الألم , حتى لا يجتاحهم الأنين و الألم.
أصبحنا نجمع الأشلاء المبعثرة من بقايا ذاكرة كانت و لم تكن , كهوف النسيان امتلأت من أسراب الذكريات التي نخبأها في أعماقها .
حديث الزمن و الغربة يتوقف عند الرحيل , أمعنت النظر في شواهد أضرحة المناضلين , الصمت الحزين كان سيد المكان , ترى هل تحولت (جمعية خويبون) إلى أطلال ؟ و عصر الفرسان بات حزناً يختبأ بين الضلوع ؟
الشقاوة تضيء ملامح الزمن و استحالة الحياة تلمع بين براثن الموت المعنوي للنضال و المقاومة , الحياة تسدل ستائر من صفيح فوق أبوابها و نوافذها , وحدها الشرفات تتعلق بحبال ٍ من أمال تتأرجح بين الفجر و الغروب , حتى لا تضيع بين غلس الظلام الذي لا يشعر به سوى المظلومين.
لم يجاوبني الزعيم الراقد في قمة (دوگر) على أسئلة التفاصيل الكبيرة , لأنه أكد لكل زمن أن لنا موطئ قدم في صدر الأرض بعيداً عن طرق الجليد , التي تتمدد بأيادي من ظلام أمام نضال أرضٍ ليست بأرض , لكنها كبد في جسد شعب ٍ يصرخ بوجه الليل و النهار , يأمر الزمن و التاريخ بقلم التحدي و  العنفوان و الكبرياء:

هذا دمي و بدني و هذه ملامحي
هذه الأرض أنا و أنا أرضي
قل : السيوف تسقط مع أوراق مقدسة
تدنست بقسم  ٍ من نار فوق رقاب ٍ مقطوعة
لكنها ليست مقطوعة ؟
 لأن الروح ذاتها نار ٌمتأججة في الصميم  .
قل : هم الفولاذ تحت  مطارق الزمن و التاريخ
لن نصالح بين الهجرة و الأيام
و بين الطهارة و الآثام .
قل : هم االكورد , شعب الله و الأرض
الشمس تنام فوق جبين دهرهم
و أنهار الخلود تنبع من نبيذ دمهم .
هم عمر الأرض , بين دخان الغياب
و بين ثقوب الضوء فوق إيقونات المقاومة و الحياة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…