كما هو معلوم في علم اللغة أن اللغات جميعها خضعت لقانون التطور خلال تاريخها الطويل، ويرى علماء اللغة أن هناك عاملان مؤثران في اللغة، وهما: ((عامل توحيد وثبات وعامل تفريق وتغيير))[2] ويقول البعض أن طبيعة الأرض تتدخل في كثير من الأحيان فتغلب أحد هذين العاملين على الآخر: ففي المناطق التي تكون الطبيعة فيها غير خصبة وفقيرة يضطر سكانها إلى التنقل من أجل تحسين وضعهم الاقتصادي، وهذا يؤدي إلى حدوث احتكاك واختلاط بين سكان المناطق المختلفة وبالتالي إلى ثبات اللغة وعدم اكثار اللهجات المحلية أما إذا كانت الطبيعة خصبة بقي الناس في سكناهم لعدم الحاجة إلى التنقل مما يجعل هذه الوحدات البشرية المنعزلة تسلك مسالك لغوية متعددة فيؤدي إلى نشوء لهجات عدة تتباعد من بعضها البعض كلما تقدم الزمان، للسبب الأول يلاحظ أن لغة سكان الأسكيمو لم يخضع للتطور والتغيير، وللسبب الثاني يلاحظ أن اللغة الفرنسية انقسمت إلى لهجات مختلفة لدرجة أنك تحس بالفوارق اللغوية كلما انتقلت من قرية إلى أخرى[3].
واللغة ككيان اجتماعي عرضة للتطور والتغيير بفعل عوامل خارجية من جانب، وعوامل داخلية من جانب آخر، وهنا يشير العالم اللغوي سوسير إلى ((العلاقات القائمة بين اللغة والتاريخ السياسي، إذا أثرت وقائع تاريخية كبيرة من مثل الفتوحات الرومانية تأثيراً لايحدّ في وقائع السنية عديدة، فالاستعمار الذي لايعتبر إلا صورة من صور الفتوحات، ينقل لغة ما إلى أوساط مختلفة، مما يؤدي إلى تغيرات فيها)) ويضيف قائلاً: ((وليست السياسة الداخلية للدول بأقل أهمية بالنسبة إلى حياة اللغات أن بعض الحكومات مثل سويسرا يقبل بالتعايش القائم بين لغات عدة، وبعضها الآخر مثل فرنسا يتوق طامحاً إلى الوحدة الألسنية)).
من هنا نلاحظ أن اللغة الكردية خلال تاريخها الطويل عانت من عوامل داخلية وخارجية أثرت على وحدتها اللغوية مما ادى ذلك إلى ظهور لهجات مختلفة يصعب على الناطق الشمالي أن يفهم كل ما يقوله الناطق الجنوبي، فالوضع الاجتماعي والسياسي والجغرافي لكردستان حيث نجد ذلك في تعددية الكيانات الاقطاعية في العهد العثماني، والطبيعة الخصبة لمنطقة كردستان بطبوغرافيتها الوعرة في كثير من المناطق ساعدت على نشوء الوحدات الاجتماعية المنعزلة، الى جانب تكالب القوى الخارجية من أجل السيطرة على خيرات وثروات كردستان مما أدى إلى التقسيم الأول لكردستان بين الامبراطورية الصفوية والسلطان العثماني في عام 1514 في معركة جالديران، كما جاء التقسيم الثاني للقسم الذي كان تحت الحكم العثماني بين دول عدة وذلك بعد الحرب العالمية الأولى أثر اتفاقية سايكس بيكو. كل هذه العوامل حالت دون قيام دولة كردية مستقلة ذات سلطة مركزية تمكنها من تطوير لغتها القومية لتقوم بدورها الحضاري والعلمي وسط المجتمع البشري في هذه المعمورة. وبدلاً من ذلك، أصبحت كردستان أجزاء منقسمة بين عدة دول، وأصبح الكرد كيانات اجتماعية تعيش مع مجتمعات غير كردية، ومجبرة على تعلم لغة اخرى غير لغتها أي لغة كل دولة من هذه الدول– العربية والفارسية والتركية – بالاضافة إلى العوامل المذكورة أعلاه لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار النفوذ اللغوي الديني أيضاً وتأثير اللغة العربية على اللغة الكردية منذ أن دخل الكرد إلى الاسلام في القرن السابع الميلادي، أي قرابة أربع عشر قرناً إذ نرى أن رجال الدين من الكرد يستعملون كلمات وعبارات دينية من اللغة العربية لغة القرآن الكريم.
هذه العوامل مجتمعة جعلت من الكرد يعيشون حالة تبعية اجتماعية وسايكولوجية وسياسية واقتصادية ولغوية كان من المفترض أن ينسوا لغتهم القومية، ومع كل هذا نجد أن غالبية الشعب الكردي لا زال حتى الآن يتكلم لغته، لا بل يفتخر بها. وباعتقادي أن هذا يعود إلى أسباب عدة: منها سايكولوجية الانسان الكردي وصلابته الجبلية واعتزازه القومي، بالاضافة الى الطبيعة الجبلية لكردستان والتي حافظت على لغته القومية وأصالتها التاريخية في مواجهة اللغات الأخرى. وجدير بالذكر أن كردستان لم تشهد الاستيطان الاستعماري منذ أن دخل الكرد الى الإسلام على الأقل، وهذا يعد من العوامل الايجابية التي ساعدت الكرد على حماية لغته من الاندثار لفترة طويلة بالرغم من أن عوامل بقاء وديمومة اللغة الكردية هي نفسها عوامل بقاء هذه اللهجات، إلا أنها حمتها من الفناء. وأن توحيد اللغة الكردية في صيغة واحدة لكل الكرد مهمة قومية وتاريخية ومسؤولية كبيرة تقع على عاتق اللغويين بالدرجة الأولى والمثقفين والمهتمين بالدرجة الثانية للقيام بدورهم التاريخي بعيداً عن التأجيل والمماطلة لأسباب ذاتية ومصالح فئوية ضيقة.
وجدير بالذكر أن الدكتور عبد الواحد الوافي يؤكد أن السبب الرئيسي في تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات هو انتشار اللغة في مناطق مختلفة واسعة واستخدامها لدى جماعات كثيرة العدد وطوائف مختلفة من الناس ولكن هذا السبب الرئيسي لا يؤدي عن طريق مباشر إلى تفرع اللغة بل يتيح الفرص لظهور عوامل أخرى تؤدي إلى هذه النتيجة وأهمها يرجع إلى:
1- العوامل الاجتماعية والسياسية
2- العوامل الاجتماعية والنفسية
3- العوامل الجغرافية
4- عوامل الشعبية
5- العوامل الجسمية الفيزيولوجية
تحت تأثير هذه العوامل ينقسم المتكلمين باللغة الواحدة إلى جماعات متميزة إذ يوجد اللغة لدى كل جماعة منها وجهة تختلف من حيث تطورها وتبدلاتها الصوتية والدلالية عن غيرها. وإذا تأملنا في بنية اللهجتين السورانية والكورمانجية نلاحظ أن الاختلاف موجود على مستويات صوتية ومورفولوجية ونحوية بالاضافة اختلاف مفرداتي وجود فوضى المصطلحات على الجانبين، وهي كالتالي:
نوعية الاختلاف اللغوي | السورانية | الكورمانجية |
صوتي | baw, dill | bav, dil |
مورفولوجي | namey min kurî min keçî min |
nameya min kurê min keça min |
سينتاكسي | xwardim | min xwar min navê |
مورفو سينتاكسي | kitêbekem | kitêba min |
ويؤكد علماء اللغة على أن الدراسة الشاملة للغة ما تستدعي دراسة المكان ولغته من خلال ربط لغات هذه المنطقة بالعوامل الأخرى التي تؤثر فيها مثل الجغرافيا والتاريخ والسياسة والانتاج والاقتصاد والنشاط الثقافي والدين وحتى الفن والموسيقا والأدب فهذه الدراسة أفضل من القيام بدراسة لغوية في فراغ، من هنا ، لا يمكن لنا عزل اللغة الكردية من العوامل الأخرى التي لا بد أن أثرت في بنيتها اللغوية على نحو ما.
غياب الكتابة
ربّ قائل يرى أن تأخر ظهور الكتابة في الكردية زادت من سرعة هذه التغييرات الحاصلة في البنية اللغوية وساعدت على ظهور هذا التنوع اللهجوي وتثبيت الفروقات بين لهجاتها وفي هذا الخصوص يقول العالم اللغوي سوسير ((يسود الاعتقاد أن لغة تنحرف بسرعة أكبر في حال غياب الكتابة ولا شيء أكثر خطأ من ذلك فالكتابة تستطيع وهذا في بعض الظروف – أن تحدّ من سرعة تغيّرات اللغة وعلى النقيض من ذلك أن الاحتفاظ باللغة لا يمسّ إذا غابت الكتابة فاللغة الليتوانية التي ما زالت تستعمل حتى يومنا هذا في بروسيا الشرقية وجزء من روسيا لم تكن لتعرف بالوثائق الخطية إلا منذ عام 1540 ولكنها إذ ذاك تقدم بكليتها صورة عن الهندو أوربية بالصدق نفسه الذي تقدمه اللاتينية عن القرن الثالث قبل المسيح أن هذا وحده كاف لبيان كم هي اللغة مستقلة عن الكتابة))[4]
لكن الحال بالنسبة للغة الكردية في الوقت الحالي أمر يثير مخاوف عديدة من مسألة الكتابة طالما أن الكرد يمارسون الكتابة بلهجتين مختلفتين إن لم نقل بثلاث وأربع لهجات وبالاضافة إلى أن كل لهجة تتطور على نحو منعزل ومستقل عن الأخرى مما سيؤدي عاجلاً أم آجلاً – إلى تكوين لغتين مستقلتين عن الأخرى كما كان حال اللهجات اللاتينية التي تمثل الآن خمس لغات مستقلة: الفرنسية والايطالية والبرتغالية والرومانية والاسبانية . بسبب أن كل واحدة منها تطورت في إطار كيانها المستقل ضمن حدود جغرافية معينة. وهنا أوكد أن الكرد وخاصة الفئة المثقفة منهم إن لم يتوصلوا إلى اتفاق واحد ورأي واحد من أجل إيجاد اللغة القومية الموحدة، لغة الكتابة المشتركة بين كل المثقفين من كل اللهجات، سيكون مصير اللغة الكردية التقسيم المؤكد، وبالتالي يصبح الكردي صاحب لغتين في أحسن الأحوال.
لغة الكتابة – اللغة المكتوبة
مهما يكن فإن اللغة المنطوقة تصيبها التغيير بينما المكتوبة تميل إلى الجمود والتمسك بالتقاليد، ويرى ماريو باى أن الصيغة المكتوبة للغة وخصوصاً إذا كانت اللغة واسعة الانتشار – تقوم بدور هام في تعطيل تيار التغيير الذي يلحق لغة الكلام بسرعة. إن لغة الكلام إذا تركت وشأنها تكون عرضة لتغيرات طبيعية فطرية تبعدها عن المركز تعبر عن نفسها بسرعة خلال الزمن وتظهر في شكل لهجات عبر الزمان (فاللغة اللاتينية التي بدأت بالظهور في روما وبعد انتشارها في معظم أجزاء الجنوب الغربي الأوربي تحولت إلى لهجات عديدة سرعان ما صارت لغات فرنسية واسبانية وهذه بدورها انقسمت إلى لهجات مختلفة، وإن انكليزية القرن السابع عشر بلهجاتها المتعددة لم تتطور فقط إلى لهجات القرن العشرين المختلفة على أرضها وحدها وإنما أفسحت الطريق كذلك لأشكال من الانكليزية الامريكية انقسمت بدورها إلى لهجات اقليمية)[5]
ويؤكد العالم اللغوي سوسير على أهمية دور الكتابة في حياة اللغة اذ يقول “أن الصورة الخطية للكلمات كغرض مستمر ثابت هي أكثر قدرة من الصوت على تشكيل وحدة اللغةعبر الزمن”[6]. ويضيف بقوله “أن اللغة الادبية تزيد الكتابة أهمية لا تستحقها، إذ لها معجماتها وقواعدها. كما أن التعليم لا يتم في المدرسة إلا بحسب الكتاب ونهجه. وفوق هذا يبدو أن اللغة إنما هي منظمة بقانون، ولكن القانون والحال هذه هو نفسه قاعدة مكتوبة خاضعة لاستخدام صارم: انه الرسم الخطي، وهذا ما يضفي على الكتابة أهمية أولية.”[7]
خطورة التعدد اللهجوي
اذا بقي الحال هكذا، فأن اللهجات الكردية الاربعة سوف تتحول إما إلى أربع لغات، أو إلى لغتين كرديتين: الكرمانجية والسورانية في أحسن الاحوال. أما اللهجات الاخرى سوف تنقرض شيئاً فشيئاً بحيث تغلب الكرمانجية على الزازاكية، وتغلب السورانية على الهورامية واللهجات الاخرى. والتاريخ يبين لنا هذه القضية بجلاء وذلك من خلال تجربة اللغات اللاتينية الخمسة في الوقت الحالي، والتي كانت في الاصل لهجات للغة واحدة، لكنها نتيجة للانقسام الحاصل بين هذه اللهجات، تطورت الواحدة منها بشكل مستقل ومنعزل عن الاخرى إلى درجة أن تحولت إلى لغات مستقلة ومنفصلة عن أخواتها. في الحقيقة لو نظرنا إلى البنية النحوية للهجات الكردية، نلاحظ أن الاختلاف الموجود بين الزازكية واللهجات الاخرى يصل إلى درجة الاستقلال الواضح بحيث يمكن أن نعد الزازاكية لغة مستقلة تنحدر عن الكردية. ورغم أوجه التقارب والتوافق بين الكثير من العناصر اللغوية في اللهجتين الرئيسيتين، إلا أننا في نفس الوقت نواجه معضلة لغوية تتعلق بالاختلاف الصارخ بينهما، ولا سيما ما يتعلق ببعض جوانب البنية التركيبية (السينتاكسية) للجملة الكردية بين السورانية التي تبتعد عن حالة الايركاتيف، والكرمانجية التي تلتزم بقواعد حالة الايراكتيف.
ضرورة اللغة المشتركة
ويؤكد ماري باى على ضرورة اللغة المشتركة بدلاً من اللهجات العديدة والمختلفة التي تعيق التفاهم بين البشر ((فإنه من المشكوك فيه أن يتمكن رجلان فرنسيان أحدهما من الشمال والاخر من الجنوب من أن يتفاهما بسهولة وفي الصين حيث تعد لغتها المكتوبة معقدة تنقطع الصلة بينها وبين لغة الكلام بشكل عاق تفاهم الصينيين من ذوي اللهجات المختلفة بعضهم مع بعض))[8] ولكن بالرغم من ذلك فإن الأمة تحتاج إلى لغة واحدة مكتوبة ومسموعة لأن وسائل الاتصال في هذا العصر تطورت بشكل مذهل حيث لم يعد الاتصال مقتصراً على الصحافة المكتوبة والراديو بل أصبح التلفاز والانترنيت يغطي المعمورة ويوفر الاتصال بالصوت والصورة.
في الحقيقة أنا من دعاة إزاحة اللهجات الكردية عن عالم الكتابة بكل الوانها (من صحافة إلى كتاب إلى رسالة … الخ)، هذه اللهجات ليست إلا حجرة عثرة أمام تقدم وازدهار الثقافة الكردية، وأن عملية توحيد الطاقات العلمية لدى الكرد لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال استخدام لغة كردية موحدة تستخدم في الكتابة والاعلام والصحافة. ولا أرى أي مبرر لهؤلاء الذين يسوفون وضع الحلول لهذه المسألة إلى أجل غير مسمى إلا لكونهم عاجزين عن معالجة هذه القضية، أو أنهم ينطلقون من مصالح ذاتية وأنانية ضيقة، وسوء في التقدير، وخاصة إذا كان أصحاب الفك والربط من اؤلئك الجهلة والمعاقين المرتبطين بالاحزاب السياسية بواسطة أبواقهم المناسبتية والغير مناسبتية.
الكرد أكثر الشعوب حاجة إلى لغة قومية موحدة ولكن هذه المسألة من المفروض أن يتم تداولها ودراستها ومعالجتها من قبل لجان متخصصة ذات امكانيات أكاديمية أو خبرة تخصصية وعملية في المجال اللغوي واللسانيات، لأن مسألة كهذه لا يمكن أن تعالج من قبل الساسة، وإلا ستصبح القضية مثار جدل عقيم لا نصل إلى النتيجة المتوخاة، بل سنكون أمام منطلقات نابعة من رحم العنصرية اللهجوية والفئوية. أما اللغويون حتى وإن أتفقوا في النهاية على لهجة واحدة لا بد أن يأتي هذا الاتفاق بعد دراسة علمية ومناقشة مستفيضة وجدل واسع. وسوف تأخذ المسألة مراحل عدة إلى أن تصل إلى هذه النهاية.
وفي الجانب الاخر من المسألة يجب أن نأخذ هيكلية اللجان وخاصة في مرحلة الاقرار النهائي بعين الاعتبار، أي لا يمكن أن تكون اللجنة مكونة من أعضاء ينتمون الى لهجة واحدة، أو يغلب عليها اللون الواحد. ومن المفروض أن تكلف أرباب العمل الحقيقين بتداول هذه المسألة الحساسة والكبيرة بشكل مهني professional ، وبحس عال من المسؤولية التاريخية، وليس عن طريق ادخال حفنة من المزيفين أو الذين يحسبون زوراً على الدراسات اللغوية الكردية. بالاضافة إلى هذا لا بد من ايجاد آلية تساعد على سير العمل باتجاه الجانب الايجابي ويمكّن اللجان من دراسة الامر بشكل علمي وشامل ومتكامل من كافة أبعاد القضية.