طقوسُ الكتابةِ عند جكرخوين

نارين عمر

كنتُ طفلة عندما زارنا جكرخوين في البيتِ ولمرّتينِ متتاليتين. وقد لفتَ نظري الاهتمامَ الملفتَ من قِبِل الجميع بهذا الرّجل الممتلئ, ذي الحاجبين العريضن, والطلّلةِ البهيّةِ, فرسمَ فكري وحسّي صورة لهذا الرّجل في عمقِ مخيّلتي.

وكنتُ صغيرة أيضاً, حينما رافقتُ أختي وزوجها وآخرون في زيارةٍ إلى بيتِ جكرخوين. وكنتُ حينها أتعلّمُ ألف باءَ الأبجديةِ الكرديةِ, وأحاولُ الولوجَ إلى محرابِ شعره, وبصعوبةٍ كنتُ أقرأ المكتوب في طيّاتِ صَفحاته.
بمجرّدِ دخولنا إلى غرفته, أوّلُ ما أثارَ انتباهي في الغرفةِ وجود آثارِ كتابةٍ على جدارها,فلم أتمالك نفسي, وبخجلٍ واستحياءٍ طرحتُ السّؤالَ على أختي؟؟ بعدَ أن ارتسَمَتْ ابتسامة على وجهها,أجابتني وبصوتٍ مسموعٍ:
ولماذا لا تطرحينَ السّؤالَ على/سيدا/ نفسه, فهو وحده مَنْ يستطيعُ الإجابة على سؤالكِ. وقد انتبه إلى ذلك, وبعد أن أبدى إعجابه بهذا السّؤالِ الذي يُطرَحُ عليه من فتاةٍ صغيرةٍ, أجابَ بابتسامةٍ ما زلتُ أتذكّرُ طيفها:
من عادتي أن أضعَ القلمَ والدّفتر إلى جانبي كلّما ذهبتُ إلى النّوم, فقد تخطرُ لي فكرة أو خاطرة توقظني من نومي فأسرعُ إلى تدوينها على الورقةِ لئلا أنساها في الصّباحِ, ولكنّني أحياناً لا أجدُ الورقة أو الدّفترَ, فأكتبُ ما خطرَ في حلمي على الحائطِ.
فما كان من الحاضرين إلا أن رحّبوا بالفكرة, ليطرحوا عليه أسئلة طالما تضجُ في أذهانهم, من دونِ أن يجدوا لها إجابة.
من أبرزِ الأسئلة التي أتذكرّها,ما طرحه عليه أحدهم:
إذا خضتَ في أيّ موضوعٍ أدبيّ أو ثقافيّ أو تاريخيّ, نجدكَ تعطي الموضوعَ حقهُ بالكامل, وكأنّكَ عشتَ الأحداثَ بتفاصيلها, فمثلاً عندما تكتبُ عن الكوجر, يظنّ القارئ أنّكَ كوجريّ أبّاً عن جدّ, وحينَ يكونُ الفلاحُ محورَ موضوعك لايراودنا شّكّ  بأنّكَ فلاحٌ بدونِ منازع, وكذلك حينما تتحدّثُ عن العامل, والقروي والحضَري , والفقير والغنّيّ وبقيّةِ أفرادِ وشرائح المجتمع؟؟!!!
أجابَ جكرخوين:
قبلَ أن أخوضَ في أيّ موضوعٍ أدبيّ أو ثقافيّ أو حتى تاريخيّ, أدرسهُ من كلّ جوانبِهِ, وربّما أناقشه مع الآخرين حتى تتكوّنَ لديّ فكرة جيّدة عنه, ثمّ أبدأ بكتابتهِ وعرضه, مثلاً:
عندما أكتبُ عن الكوجر, فإنّي أزورُ مضاربَ الكوجر,كما أزورهم في بيوتهم, وأستفسرُ منهم عن كلّ الأمورِ التي تتعلّقُ بموضوعي وتخدمه, وقد أظلّ عندهم لأيّام, حتى أتمكّنَ من الحصولِ على ما أريد. وكذلك الأمرُ إذا كانَ الموضوعُ يتعلّقُ بالفلاح, ألجأ إلى عدّةِ فلاحينَ, أسألهم عن الأدواتِ التي يستخدمونها في فلاحتهم, ومختلف طرقِ ووسائل الفلاحةِ, وأفضلُ الطّرقِ بالنّسبةِ لهم. وكذا الأمرُ بالنّسبةِ لمختلفِ شرائح وفئاتِ المجتمعِ الأخرى.ثمّ أضافَ:
أفعلُ ذلكَ لأنّ الكتابة بالنّسبةِ إليّ يجبُ أن تستندَ إلى المصداقيةِ , وهذه المصداقية تأتي من المرجعياتِ المتعلّقةِ بهذا العمل الكتابيّ أو ذاك.
وفي ردّه على سؤالٍ من أحدِ الحاضرين عن حضور المرأة في كتاباته, وخاصة في شعره أجاب:
المرأة هي نصفُ المجتمع, ولن يتقدّمَ أيّ مجتمع إن لم يتعامل مع المرأة على أنّها كائنٌ يستحقّ الحياة التي تليقُ بها.
لأنّها أمّي وزوجتي وحبيبتي, فإنّها حاضرة في كلّ ما أكتبُ, ولمْ ينسَ أن يثني على زوجته كثيراً.
في الذكرى الـ/23/ لولوجِ روح جكرخوين إلى أرواحنا ونفوسنا, ونيلِهِ وسامَ الخلودِ فيها, أحببتُ أن أستذكرَ هذه الذكرى العطرة بهذه العباراتِ المتواضعة.

شكراً لرحمِ الشّعرِ لأنّه أهدانا جكرخوين, وهنيئاً لأمّةِ الكردِ , ولأمّةِ الشّعر والشعّراءِ بهذا المبدع.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صبري رسول

 

توطئة للفسحات:

يهندس خالد حسين أشكال الحب في قصيدة: واحدة، في مجموعته رشقة سماء تنادم قلب العابر الصادرة عن دار نوس هاوس بداية 2025. المجموعة عبارة عن أربع فسحات، وهي الفهرسة الهندسية الخاصّة التي تميّزت بها، أربعة أقسام، كلّ فسحة مؤلفة من أربع فسحات صغرى معنونة، وتحت كل عنوان تندرج عدة مقاطع شعرية مرقمة وفق…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “ليالي فرانشكتاين” للروائيّ والفنّان الكرديّ العراقيّ عمر سيّد بترجمة عربية أنجزها المترجم ياسين حسين.

يطلّ عمر سيّد “ليالي فرانكشتاين”، حاملاً معها شحنة سردية نادرة تمزج بين الميثولوجيا السياسية والواقع الجحيمي، بين الحكاية الشعبية والتقنيات المعاصرة، ليقدّم نصاً مكثّفاً عن الجرح الكردي، وعن الوطن بوصفه جثةً تنتظر التمثال المناسب كي تُدفن…

عبد الجابر حبيب

 

يا لغرابةِ الجهات،

في زمنٍ لا يعرفُ السكون،

وعلى حافةِ قدري

ما زالَ ظلّي يرقصُ على أطرافِ أصابعي،

والدروبُ تتشابكُ في ذاكرتي المثقوبة،

ولا أحدَ لمحَ نهايتَها تميلُ إلى قبري،

ولا حتى أنا.

 

على الحافة،

أُمسكُ بزهرٍ لا يذبل،

يتركُ عبيرَه عالقاً في مساماتِ أيّامي،

كأنّه يتسرّبُ من جلدي

ثم يذوبُ فيّ.

 

الجدرانُ تتهامسُ عنّي،

تعدُّ أنفاسي المتعثّرة،

وتتركُ خدوشاً على جلديَ المتهالك،

كأنّ الزمنَ

لا يريدُ أن…

إبراهيم محمود

 

 

1-في التقصّي وجهيّاً

 

هي ذي أمَّة الوجوه

غابة: كل وجه يتصيد سواه

 

هي ذي أمة الوجوه

سماء كل وجه يزاحم غيره

 

هي ذي أمَّة الوجوه

تاريخ مزكَّى بوجه

 

ليس الوجه التقليدي وجهاً

إنه الوجه المصادَر من نوعه

 

كم ردَّدنا: الإنسان هو وجهه

كم صُدِمنا بما رددناه

 

كم قلنا يا لهذا الوجه الحلو

كم أُذِقْنا مرارته

 

قل لي: بأي وجه أنت

أقل لك من أنت؟

 

ما نراه وجهاً

ترجمان استخفافنا بالمرئي

 

أن…