طقوس العيد في بلاد الكرد

المحامي محمود عمر

ان من أهم الأعياد الدينية التي يحتفل بها الكرد ويعظمون من شأنها كباقي المسلمين في العالم هما عيد الفطر والذي يسمى عند الكرد بـ (عيد رمضان) كونه يعقب شهر رمضان المبارك, وعيد الأضحى الذي يسمى عندهم بـ (عيد الحجاج) وذلك لأن المسلمين ممن قدر لهم أو اتيحت لهم الفرصة والظروف يؤدون مناسك الحج خلال فترة حلول هذا العيد, واذا كانت معظم طقوس الإحتفال بهذين العيدن تتشابه, الا ان طبيعة كل منهما يفرض نوعا من العادات والتقاليد التي تختلف عن الآخر ومن أهم هذه الطقوس هو انه ولإرتباط عيد الفطر بشهر رمضان المبارك فان الكرد يواظبون خلال شهر الصوم هذا على التردد على المساجد والإعتكاف فيها والإكثار من العبادات كالصلوات وتلاوة القرآن
القرآن اذ يعتبرونه موسم للعبادات وبخاصة خلال الأيام العشرالأخيرة منه كما يرتبط هذا العيد بإخراج زكاة الفطر للمحتاجين والفقراء والتي كانت فيما مضى عبارة عن اخراج كمية من القمح وتحولت في أيامنا هذه وبخاصة في المدن الى ما يعادل ذلك من النقود, اما العادة الأخرى التي تفرضها طبيعة هذا العيد هي ترقب هلال شوال للتأكد من حلول العيد وتبادل التهاني والتبريكات متى تم التأكد من ذلك,أما اهم الطقوس التي تميز عيد الأضحى المبارك فهي استعداد الأهالي لتقديم الأضاحي وتوزيعها على الفقراء والمحتاجين وكذلك ترقب أخبار الحجاج وزيارة ذويهم لمواساتهم قبل العيد وخلال أيامه والدعاء بعودتهم سالمين للتبرك بهم حيث أنهم قد فازوا بزيارة أماكن الله المقدسة وزيارة رسوله الكريم وقد تقبل الله حجهم اما بقية الطقوس فتكاد تتشابه في العيدين وان كان تطور الحياة وظروفها قد أصابها ببعض التغيير والتبديل بين الأمس واليوم.
    أولاـ الإستعداد للعيد:يتم ذلك قبل حلول العيد بعدة أيام حيث يكون رب كل اسرة قد اجتهد قي  توفير البعض من المال لهذه المناسبة كي يقصد المدينة ويعمل على شراء ما تحتاجه اسرته من متطلبات العيد من سكاكر وحلويات ومكسرات وشراء الملابس الجديدة خاصة للصغار,كانت زيارة المدينة مع والدينا بالنسبة لنا نحن صغارمن أهم وأجمل الأيام التي نستعد لها ولا ننام ليلتها فرحا ولا نصدق بأن النهار قادم حتى نفوز بزيارة المدينة التي كانت تبهرنا بكل ما فيها من حيث الحجم وعدد السكان والمباني والمحلات التي يتوافر فيها من الأشياء ما نعلم وما لا نعلم, وكننا ننتهز هذه الفرصة لنطالب والدنا بشراء كل ما نشتهيه من الحلويات والملابس هذا الوالد الذيلم يكن يبخل علينا بشيء في هذا اليوم حسب طاقته, زيارة المدينة هذه كانت غير سانحة لنا الا في العيد ولأن عددنا الكبيرلايسمح لنا جميعا بمرافقة والدينا فقد كان يتم توزيعنا على العيدين وكان نختار لإخوتنا الذين لم يستطيعوا المجيء ما يلزمهم من الحاجيات, الشيء الوحيد الذي كان ينغص علينا فرحتنا خلال تجولنا في المدينة هي رؤية رجال الشرطة حيث ارتبطت هذه الرؤية وبهذا الذي دوما بالخوف لدينا نحن الصغار وكنا في القرية حينما نشعر أو نرى قدوم جيبهم من بعيد ــ  والذي لا يتكرر خلال العام سوى عدة مرات ــ كنا وبسرعة البرق نزيع خبر قدومهم ونسرع للغختباء في البيوت والأزقة وبين البساتين ونترقبهم من بعيد بينما يكون الكبار قد أصبحوا في حيرة من أمرهم وهم يبحثون في القرية من يجيد لغتهم للوقوف حول مطالبهم ومراضاتهم وغايتهم من الزيارة وكانت مغادرتهم للقرية بمثابة انزياح هم كبير من على صدر أهلها الكبار قبل الصغار.
 في المدينة أخشى ان أترك يد أبي فأضيع بين أمواج البشر والمباني ولست في القرية حتى اتخفى من الشرطة بين
البساتين مع أقراني أو في الأزقة, الوسيلة الوحيدة هي انني كلما كنت أمر من جانب أحدهم أحاول جاهدا أن أتخفى وراء أبي في الطرف المقابل الذي كان يبتسم ويهدأ من روعي وانا أتسائل كيف لا يخشى أهل المدينة وصغارها هؤلاء وكيف يسيرون معا أم ان هؤلاء يختلفون عن الشرطة الذين يزورون قريتنا, أو ربما ان صغار المدينة هم الذين يختلفون عنا, أواظب مع أبي المسير والتجوال نشتري شيئا من هنا وآخر من هناك حتى ننتهي وحينما تنتهي طلباتي يسأل أبي هال نسينا شيئا من حاجيات وطلبات اخوتي أو هل بنفسي شيء آخر نتوجه الى موقف الباص الوحيد الذي سيقلنا الى القرية وهناك ألتقي بالعديد من أقراني الذين رافقوا ذووهم بزيارة المدينة وكل منا يتحدث للآخر عما رأه واشتراه في المدينة والى أن يحل موعد العيد كنا لانترك فرصة الا ونحن نقيس علينا ملابسنا الجيدة ثم نرتبها من جديد حيث تخبرنا امهاتنا بأن علينا المحافظة عليها حتي لا تفقد شيئا من جمالها ليوم العيد, نخرج من البيوت صباحا ونجتمع نحن الصغار في البيادر أو بين البساتين وكل يحكي عن مغامراته في المدينة والكل كان يجمع بان رؤية الشرطة هي وحدها ما نغصت عليه زيارته وان كان البعض يحاول أن يتباهى بأنه لم يكن يخافهم وانه وقف الى جانب أحدهم أو لامس ثيابه بينما كان والده يشتري حاجياته ولكن الجميع الصغار لم يكونوا يصدقونه ويستهزئن منه على مبالغاته.
      ثانيا ــ قدوم العيد: تبدأ  طقوس العيد الرسمية عند الكرد قبل موعد حلوله بيومين حيث يسمى اليوم الأول بيوم الغسيل.
      ــ يوم الغسيل:  (roja cila): ان عمل الأسرة الكردية الذي يشبه عمل خلية النحل هذا اليوم هو تحصيل حاصل أو نتيجة للأعمال المحهدة التي قامت بها في الأيام التي سبقته كتعزيل البيت وتبييضه وغسل البرادي والشراشف والملاحف والفرش والصوف وغالبا ما كان يتم غسل ذلك وبخاصة في الريف الكردي على ضفاف الأنهار والينابيع وبشكل جماعي تتعاون عليه نسوة وصبايا القرية وهن مع عملهن الذي يبدأ بكل نشاط من الصباح وختى المساء لا يترددن عن اطلاق اجمل الأغاني الفلكلورية والتراثية الكردية فرحا بقدوم العيد ,وفي هذا اليوم تكون هذه الاعمال قد انجزت وتبدأ الأسرة بتعليق براديها المزركشة من جديد وترتيب منازلها ووضع كل شيء في مكانه الملائم ثم تقوم الأسرة بغسل ملابس أفردها الخفيفة وثم بعد ذلك يتحمم كافة أفراد الأسرة بفرح ونشاط, ويتم الإستعداد لليوم التالي الذي يسمى بيوم الكليشات.
ــ يوم الكليشة:) roja sewke):هو اليوم الذي يسبق يوم العيد مباشرة ويسمى بذلك الإسم لأن الأسرة تخص هذا اليوم لإعداد الأنواع المختلفة من الحلويات والكليشة حيث تستيقظ ربة المنزل مبكرا لتعد عجينة ما سوف تقوم بإنجازه ولحين أن يتم تخمير العجينة, تقوم الصبايا بقطع العجينة في قوالب متعددة وبأشكال وطعوم مختلفة حيث تتفنن كل اسرة وتباري غيرها في الأنواع التي قامت باعدادها في التنور الذي تكون ناره قد حمي , وأصبح بإمكان أهل القرية ان يميزوا عمل كل اسرة من الحلويات التي تتفرد بها عن غيرها حتى وان كان الصحن فيه العديد من الأنواع المختلفة ولعدة اسر, وهكذا يستمر العمل من الصباح وحتى المساء وبعد الإنتهاء تقوم كل اسرة بتبادل  ضيافة بعض من نتاجها مع العوائل الاخرى ونتيجة تطور الحياة وظهور نعمة الكهرباء أصبحت معظم الناس يستغنون عن التنور بالأفران في صناعة حلوياتهم أما في المدينة فيتم اللجوء الى الأفران الكبيرة لقضاء ذلك أو الحصول على ما ترغبه الأسرة من الأسواق.
ــ  طقس العطاء: ((dan dan:ما أن يحل العصر في يوم الكليشة هذا حتى تجد أطفال كل قرية قد لموا شملهم وعقدوا العزم على المطالبة بالعطاء ((dan dan يركض الأطفال وراء بعضهم البعض ويرددوا فرحين أهازيج العيد ويطرقون أبواب المنازل بأكفهم الغضة مطالبين كل اسرة بالعطاء وتوزيع السكاكرعليهم وهم لا ينتظرون أمام كل بيت لحين اجابة طلبهم بل بتابعون جريهم بين أزقة القرية ودورها وهم يطرقون كل بيت دون الوقوف عن الجريان الى أن تكون كل ربة منزل قد أعدت لهم ما يطالبون به ووقفت كل واحدة أمام منزلها تنتظر مرورهم وهكذا تظل مسيرة الأطفال قائمة الى أن يتأكدوا بأن كل بيت قد قام بواجب العطاء ويعودوا الجميع مع حلول الظلام الى بيته فرحا ومستعدا لليوم القادم.
ــ يوم العيد:
ما أن يأذن الفجر بالرحيل وتبدا أشعة الشمس رويدا رويدا بالتسلل بين فتحات الجبال والمرتفعات والتلل  وعبر السهول نحو أزقة وشوارع المدن والقصبات الكردية في هذا الصباح المبارك حتى تسمو الحناجرمكبرة (لبيك اللهم لبيك لك الحمد والنعمة لبيك)ويبدأالصغار صباحهم ـ الذي لم يصدقوا من فرحتهم قدومه ومنعتهم الفرحة كذلك من نوم ليلته ـ بارتداء الملابس الجديدة وحمل حقائب العيد اذعانا ببدأ يومه, بينما يكون الرجال ومع تكبيراتهم قد قصدوا الجامع لأداء صلاة العيد وتكون ربات البيوت منهمكات منذ الصباح الباكر باعداد فطور العيد والذي ـ ما زال وعلى خلاف وجبة الفطور المعتاد بقية أيام السنة ـ يتكون من وجبة من اللحم, وربما هذه العادة قد ارتبطت منذ القدم وتوارثها الكرد من عادةالأضاحي ووجوب تناول قسط منها في ذلك الصباح الجميل والسعيد, بينما تكون الصبايا منهمكات في وضع اللمسات الأخيرة في ترتيب وتزيين بيوتهن ومن ثم التفرغ بعد ذلك لزينتهن وارتداء أجمل الملابس والفساتين الزاهيةو وبعد انتهاء المصلين من صلاتهم ا يذكر الإمام بأن هذا يوم تتصافى فيه القلوب وتنتهي فيه الخصومات ولا بد أن يتحل كل شخص بروح السماحة والطيب ,يأخذ الإمام مكانه بعد الإنتهاء من مواعظه بالوقوف الى جانب المحراب ويبادر الأقرب منه بالسلام عليه وتهنئته على العيد ثم يقف الى جانبه ويتلوه البقية بالسلام والتهنئة وكل يقف الى جانب الإخر ليعطي المجال للبقية وهكذا يتشكل صف كامل من الرجال بمحاذاة جدران المسجد من الداخل الى أن ينتهي الجميع من تهنئة بعضهم البعض وبذلك تنتهي بفضل العيد كل الخصومات بين أهل القرية أو الحارة وما أن يهم المصلين بالخروج من الجامع يتقدمهم الإمام حتى يكون صغار القرية مجتمعين جميعا في باحة المسجد بانتظارهم للتهنئ قبل أن يسرعوا في التنقل كخلية النمل سعداء بين بيوتات القرية وحارات المدن طلبا لعيدانيتهم مصبغين على القرية ألوانا من الفرح والسعادة وراسمين أجمل الإبتسامات ببرائتهم على الوجوه, وقد أصاب الكرد حينما قالوا بأن العيد هو أولا وآخرا ملك الاطفال ولهم القسط الوافر منه ومنهم نستمد سعادتنا في هذا اليوم, ما أن ينتهي الصغار من مباركة جميع المصلين حتى يتوجه الرجال من فورهم صوب المقابر وزيارتها وقراء الفاتحة على أرواح أهلها والدعاء لهم وبعد ذلك يتوجه الرجال في مجموعات صوب بيوت العديد من وجهاء القرية حيث جرت العدة بأن يتولى عدد منهم اعداد  وجبة الإفطار لأهل القرية ثم يجتمع الرجال جميعا من جديد ان كان الإحتفال بعيد الأضحى في بيوت ذوي اؤلئك الذين قصدوا بيت الله الحرام وذلك لمواساة أهلهم والدعاء بعودتهم سالمين ثم ينتقل الرجال بعدها لزيارة الأسر التي رحلت عنها عزيز في الفترة التي سبقت العيد ثم يتفرق الرجال الى مجموعات أصغرلتهنئة بقية أسر القرية وفي هذه الأثناء تكون النسوة على استعدا لتقبل التهاني من قبل رجال القرية وصغارها وحين انتهاء هؤلاء من ذلك وبعد استراحة الظهيرة وتناول طعام الغداء يبدأ دورالنسوة والصبايا في تبادل التهاني ثم ينتقل الفتيان والصبايا وصغار القرية للالتقاء مجددا في بيادر القرية أو تحت ظلال اشجارها  في القرى التي تتوافر فيها الأنهار والأشجار ويبدؤون بممارسة الألعاب وتنصيب المراجيح والتناوب في ركوبها وهكذا يستمر اللعب الى أن يحل الظلام ويهم الجميع بالعودة نحو المنازل وفي المساء يجتمع أفراد اس عدة بيوت متجاورة معا ويتسامرون الى ساعات متأخرة من الليل سوية ومع قدوم اليوم الثاني تبدأ رحلة معايدة الأقارب من الأعمام والأخوال والعمات والخالات والمحبين والأصدقاء في القرى والحارات المجاورة وبنفس الحيوية والنشاط بكمل الناس عيدهم في اليوم الثالث من العيد وتكون أيام العيد الرسمية قد انقضت ومن لم يتمكن من اتمام معايداته يستمر في ذلك في الأيام الأخرى ويداعب الناس بعضهم بالقول ما دامت هذه المرة الأولى التي أقصد فيها بيتكم بعد العيد فهذا يعني ان العيد بيني وبينكم لم ينقضي بعض وها انا ذا اطالب بحصتي من الحلويات والسكاكر والمكسرات وربما ان المثل الكردي القائل بأن جميع الأيام التي تفصل العيدين هي عيد وان أول زيارة بعد العيد هي من العيد قد رفع من الإحراج عن كل من لم يستطع القيام بواجبه في الأيام الثلاثة الأولى منه, هذه هي أهم الطقوس والعادات التي بموجبها يمارس الكرد عيدهم والتي يمكن أن تختلف قليلا من منطقة الى اخرى   أوان ظروف الحياة وتطورها قد محت عادات معينة أو فرضت انواعا اخرى  من أنماط السلوك في الأعياد وبخاصة في المدن.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…