عبدالرحمن عفيف
ذهبتُ إلى الجرّاراتِ ذواتِ الدّواليبِ من الحديد الرصّ والأخرى من الحديدِ والنايلونِ وبعض الأسلاكِ الفولاذيّة ورأيت بقعة مقبرة عامودا الممتدّة إلى جوارِ الحصّادة وباص حجّي مطلعو الذي سمّاه صديق آخر بمطار عامودا؛ فنزلتُ مثل طائرة من نباتٍ أخضر وكنت شيخا أخضر في المطارِ وبدأت أعمل فحوصاتي التي كانت تهمّني جدّا وسألت نفسي: ” هل تصلح هذه التّربة أنْ يبنى عليها مطارٌ لكي تنزل عليه التّهويمات الداكنة والغمغمة التي أشار إليها إبراهيم الخيّاط
ذهبتُ إلى الجرّاراتِ ذواتِ الدّواليبِ من الحديد الرصّ والأخرى من الحديدِ والنايلونِ وبعض الأسلاكِ الفولاذيّة ورأيت بقعة مقبرة عامودا الممتدّة إلى جوارِ الحصّادة وباص حجّي مطلعو الذي سمّاه صديق آخر بمطار عامودا؛ فنزلتُ مثل طائرة من نباتٍ أخضر وكنت شيخا أخضر في المطارِ وبدأت أعمل فحوصاتي التي كانت تهمّني جدّا وسألت نفسي: ” هل تصلح هذه التّربة أنْ يبنى عليها مطارٌ لكي تنزل عليه التّهويمات الداكنة والغمغمة التي أشار إليها إبراهيم الخيّاط
وإن هبط قلبي ذات يومٍ وسمعت عواء الأمواتِ في المقبرةِ المتفرّعة المسكينة وطارت نحلة من شاهدة وأنا أعرف تربة المطاراتِ الخضراءِ؛ هل تصلح هذه الجرّارة أن تتنزّل طائرةٌ بعيدةٌ تفكّر في سياج بالقربِ منها وهل حبيبة شفيدو لها فقط شفيدو وكانت مختفية في ذلك اليومِ في فستان ممشوقٍ أبيض وأحمر وبنفسجي؛ خرجت من المطبخِ وعبرت البابَ ونظرت إلى البئر وتذكّرت عاشقا آخر من بيت آخر ليس غنيّا مثل عائلة شفيدو والشّابّ الذي تذكّرته كان أيضا صديقي ويسمّى أحيانا موسى وأحيانا شفيدو وأحيانا يقول إنّه ليس له اسم.” بعد أن سألت نفسي عن المطارِ، قامت حبيبة شفيدو ولو أنّها كانت ُتحبّ من قبل موسى أيضا وحبّ موسى لها كان جرّارة مليئة بالعواطفِ ودواليبها عواطف وحبّ شفيدو لها أيضا دواليب ونهرٌ بدل نهرالخنزير وكلبٌ يعوي طوال الغسقِ في المقبرة أيضا دخل في طيّات الحبّ وغنّى موسى حبّ شفيدو وعرفه وشفيدو أيضا عرف موسى ثمّ دخلتْ هذه الفتاةُ غرفةالجلوسِ ونظرتْ إلى نفسها في الماءِ وقالت كلمة عاديّة جدّا لأختها ثمّ طلبت من أخيها أن يرافقها اليوم إلى سوق الفاتورة ولم ترد أنْ تشتري أيّ ثوبٍ؛ فأثوابها جمّة وعيونها الجميلة على كلّ ثوبٍ ولها رفرفة على كلّ منديلٍ ومنديلها أحمر؛ لا يراه العاشقان وأيضا ثديها وثديها صغيرٌ في مراهقتها بعدها يكبر حين تتزوّج؛ يريد موسى أن يفركه في ضفافِ النّهر إلا حين حلّ الفيضان وأنقذ موسى أخاها من الغرقِ. ثديها وأنفُها وعنقها فوق سريرِ الصّيف، تغطّي نفسها بخوف المقبرة والقمرُ ينظرُ؛ تغطّي نفسها باخضرارِ الماضي وأنا أنظرُ إلى شفيدو وقامته، فيقول: ” أنا طويلٌ أكثر من اللازم، كيف أصبح قصيرا؟” يردّ عليه جاري بروسكو: ” أستعير لك منشارا من جارنا محمود النّجار وتقصّ بعضا من ساقيك”. لا ينتبه شفيدو إلى الحلّ ويتابع لي حين يمرّ في الشّارع الرئيسيّ في عامودا: ” أكره الذّهاب إلى الجيش وخدمة السنين الثلاثِ الصّعبة؛ أخاف من خدمةِالعلم؛ نذهب إلى السّويد أنا وأنت كذلك؛ الحلّ، نذهب إلى السّويد”. لن أبني مطارا على ما يبدو في حارة الفتاةِ ذات المنديلِ الأبيض؛ إنّها بيوتُ النّاس على ضفافِ نهرِ الخنزير وإنّها جرّاراتُ العشّاق والحبيبات؛ ماذا أفعل بخطط المطارِ في ذلك اليومِ؛ أرميها فوق المقبرة؛ تأتي ريح وأسمع صوتا مغمغما خارجا من الجرّارة ذات الصبّ:” لا نحتاج إلى مطار في عامودا؛ قلوبنا مطارات وطائرات؛ انتبه لعقلك ألاّ يطير كلقلق فوق كلّ تلك السياجات والسّهول، أنا صديق أحمد توفيقو، استأجرتُ الجرّارة وأحرثُ المقبرة؛ نصنع منها حديقة بدل حديقة سينما عامودا المحروقة؛ يا صديقي “. قميص أبيض على عزوة؛ تحته ثديها مراهق أبيض كالقطن، القطن تحت يديها البيضاوين؛ في قرية ضعيفة تحت قمر أصفر. لم أسمع عصفورا يغنّي في أيّ شبّاك في المدينة التي غادرناها في شاحنة ولم أرَ عصفورا آخر يطير تحت جوزات القطنِ في الطريق أو بين الحقولِ حين رفعت عينيّ ولم أجد حولي أحدا؛ لم أجد إخلاص الذي كان يهزل مثل ورق سيكارة صفراء في الصفّ العاشر، جالسا بمقعدين أمامي؛ وجهه فانوسٌ لوالديه في السّعوديّة. هل زمنه أنْ يحبّ في الشّاحنة؟ هل فانوسه ليضيء لي في الصفّ العاشرِ. اختفيا، العاشقة التي لم تكن عاشقة وكانت تقطف جوزات القطن بدل القطنِ وتدندن أغنية العصفورِ الذي لم يغنّ والعاشقة لم تكن تعرف إخلاص ووجهه لها كان نوعا من معرفة مراهقة، في يديها أزرار قميصها وصدرها قطنٌ آخر، أراد إخلاص أن يقطفه أوّلا في الشّاحنة التي نقلتنا مع فتيات صغيراتٍ من مدرسة زنوبيا وكان معنا مدرّب الفتوّة صطّام الذي طالت قامته واحمرّ وجهه وكان آنذاك مدرّب الفتيات ويعرف التكلّم معهنّ بلغتهنّ ذات الحارات الزّقاقيّة. اختفى إخلاص عن عينيّ في الحقلِ، ربّما أصبحَ دودة كان يشبهها في الصفّ العاشرِ وشبّهته بفانوس كنت أعرف أنّه ليس كذلك وأيضا اختفت عزوة في ثدي القطنِ والسّماء كانت بيضاء سوى غيوم زرقاء هنا وهناك وتذكّر المدرّب التّاريخ، فقلتُ له هكذا بغير تفكّر ورغبة في المحاججة ورغبة في قول ما لا أعرفه ولم أمتحن صحّته ولم يكن يهمّني إلاّ الحديث : ” علينا أنْ نقطع صلاتنا مع تاريخنا ونعيش في واقعنا الحالي ولا نعرف شيئا إلاّ الأشياء الجديدة وماذا نستفيد من الماضي الذي مات؟” فكانت فرصة المدرّب فرصة كبيرة ليتكلّم عن أمجاد تاريخ لم أستطع أن أحسّه على لساني في يومٍ من الأيّامِ وكنتُ أراقبُ بعض الفتيات وهنّ يقطفن القطن بأيديهنّ الناحلة ووجوهنّ النّاحلة النّحيلة الحزينة والمقبوضة مثل يوم ماضٍ بدون شمس وأحيانا مع شمس أو شجرة في حارة ترابيّة يذهب إليها صديقي إبراهيم الخيّاط مكتشفا فيها فتاةً لم يقل لي يوما اسمها ولم يقل لي بالضبط أين يقع منزلها الذي من ترابٍ، المهدّم بالتأكيد في زواياه والذي كان يسيل منه نبعٌ من ماء متعفّن أزرق فيوزّع رائحته على روائح زهرة العندكو التي انبسطت بميلادها فوق مزرابٍ تنكيّ ضربه الصّيف في أحشائه بقوّة عاموديّة من شمسه؛ فوهنت أحشاء المزرابِ ونقّط الماء، ماء ماطر على ظهري وظهرِ صديقي الذي ذهبت معه ذات مرّة إلى تلك الحارةِ وفصل الرّبيع منتشرٌ في تلك البقاعِ وربّما كان فصل الصّيف أيضا مختلطا بالربيعِ ولم أستطع في يومي الفرق بينهما حيث وجدتُ بالقربِ من مساكنِ عامودا كروم العنبِ وأغصانها كانت خضراء وزرقاء وأحيانا رأيت عنبا بنفسجيّا وحين تمعّنت بقلبي المراهق في أسفل الأخشابِ التي كانت أغصانا وجذوعا للكرومِ، رأيت عندها نحلة ورأيت نحلة أخرى ذات بنيان جسم أقوى من الأخرى ولها عقربٌ في ذيلها، تلسع وتلدغ، ليس النّحلة أو الزّنبور الأحمرُ الفدائيّ إنّما النّحلة الأكبر من نحلةِ العسل وهي ذات مؤخّرة بيضاء تشبه إمرأة والإمرأة تشبه تلك النّحلة، ليست المرأة الكرديّة إنّما إمرأة اختلط في بويضاتها ووجهها المني المردنلي والراشنيّ وبعض من الترك والأكرادِ؛ امرأة عاشت بنحولٍ في سنواتٍ وعاشت بمؤخّرة منقّطة صفراء وكانت لها أجنحة، طارت من صينيّة العسلِ ووضعت نفسها على شبّاكٍ ثمّ بنت لها بيتا اسطوانيّا، والبيت كان منغلقا وكتوما إلى أن أغرق فيه أحد الأولادِ أصبعه والنّحلة الرقطاء في الصّدرِ من العسلِ طارت وأصبحت مجنونة عندئذٍ وأرادت أن تلسع وتدلغ فمَ الصبيّ إلاّ أنّها عادت إلى رشدها وعرفت أنّ دمها أيضا أصفر ووجدت نفسها أمام نظري في الأكياس المعلّقة بأخشابِ الكرومِ وإلى جانبِ الكرمِ مرّت سيّارةٌ ومرّ حمارٌ في أثناء مساءِ الصّيف وأصابني سكونٌ كبيرٌ ورغبتُ أنْ أفشي كلّ أسراري على سياجٍ صعب عليّ رؤيته منِ النباتاتِ الطفيليّة ومنِ الأزهار الطفوليّة ومن الأخشابِ التي كانت لأشجارِ لا يعرف لها فصل؛ غام كلّ السّياج أمام قلبي ولم أميّز بين السّياج وبينِ الحوشِ القائمِ خلفه وبين المطرِ الذي هطلَ في السّطولِ ورغبَ النّاس بعد هطوله لو أنّه لم يهطل وتذكّرت أثناءَ ذلك أنّني بصحبةِ صديقي ابراهيم الخيّاط وجاء إلى هذه النّاحية النّائية عن منزلنا لكي يريني اسم محبوبته التي تشبه نحلة والنّحلة التي قرفصت في قلبه منذ معسكرٍ ما، معسكر خلفَ السّياج الذي لم أستطع التمييز بينه وبين الحصانِ البنيّ الذي ُفكّ من عربة الفقراءِ تحت الكرومِ وطارت النّحلة على الحصانِ الذي هرول ناسه وجلبوه خوفا من المطر وأدخلوه في قلوبهم؛ حبّهم لحصانهم أكبر من حبّ صديقي الخيّاط لمحبوبته التي عرف اسمها ولم يجده مكتوبا إنّما ردّد بعضا من الأسماءِ لي أثناء الطّريق ولم أنظر إليه أثناء قصّه لي الحكاية والأسماء كانت عمشة، نسرين، مزكين، فريدا، زينب، شمسة وربّما نحلة تتراقص على الشّجرة والشّمس وكتم عنّي حبّه لهذه الأسماء وطنّ مثل نحلةٍ وأرشد نظري إلى عدّة شوارع ولم تكن تلك بشوارع وإنّما مزراب وشجرة تنساها الفصول فوق سطحِ أحد البيوتِ؛ تنظرُ من بعيدٍ إلى الشّجرةِ فتظنّها أشجارا بسبب من شعاع الصّيف والشّمس القويّ الذي يحلّ على السّطحِ وتحسب نفسك أنّك لست في المكانِ الذي ولدت فيه وتريد أن لو كنتَ في أرضٍ أخرى؛ ما هذه الغمغمة التي يغطّى بها الحبّ وما كلّ هذه الأسماء التي اخترعها ابراهيم ولم يكن عاشقا في نظري وكنت بدلا عنه أزوره وهذه النّاحية النّائية، لا لكي أرى عمشة وهي ترشّ سطح بيتها بالماءِ أو كانت تقف على السّطح بين الشّجرةِ وبين منبع النّحل الأصفرِ، كانت تقف وفي يدها إبريقٌ من العسلِ ولها فستان مرقّط بالعيونِ مثل عيون الصينيّين؛ عندها فقط آمنت بحبّ ابراهيم الخيّاط لها وآمنتُ أنّ للحبّ أسماء كثيرة وليس اسما واحدا؛ الاسم الواحد سهلٌ ومشمسٌ ومثل طعامٍ وحيدٍ لا تنوّع فيه والسّياج كان يعرف عبرة الاسماءالكثيرة فيختفي خلف الأزهارِ وكنتُ أقول للسّياج بدل السياج” أيّتها الزّهرة الصّفراء” وكنت أقول لحبيبة ابراهيم الخيّاط بدل يا حبيبة ابراهيم، ” يا سياج الزّهرة الصّفراء التي تختفي خلفه وخلف غمغمة ابراهيم عمشة ذات وعاء العسلِ” ثمّ لم أعرف السياج من كثرةِ اختفائه خلف أعشابه وخلف أسماء حبيبات ابراهيم الخيّاط فنظرتُ إلى ما خلف الأسماءِ ولم أر إلاّ الأزهارَ في السّياج وخلفه ولم أرَ المساكن في النّاحية البعيدة من عامودا واكتشفتُ أنّ هناك أشجارا كثيرة في عامودا؛ ليس في البريّة إنّما في بيوت النّاس وليس وراء الأسيجة التّي أكلتها المعزات الشّاردة إنّما في غمغمة عاشقٍ مثل ابراهيم الخيّاط وقلتُ حين لم أستوضح كلّ هذه الأمورَ المغلقة والتي ازداد انغلاقها ذات يوم ودكن لونُ نباتاتها وطارت نحلة ممشوقة القامة في البريّة في الصّيف والشّتاءِ المشمس: ” يا ابراهيم أيّها الزّنبور الأحمر” قلتُ جملتي صائحا ولكنّ ابراهيم لم يستفق من غمغمته ولم يوضّح لي أنّه يريد أن يكون غير ابراهيم ولم يرد أن يغادر حارته لأجلِ الحبّ وتركني في الحارة هناك، أنظرُ إلى مساكن الاسمنتِ الحارّ، اللاهبِ في الصّيف؛ أمدّ بقلبي إلى بتلة وشتلة معلّقة في أحدِالأركان، بدأتُ أفرح وأندم وأطرب وأتمعّن حين رأيت كومة من النّحل المرقّطِ وندمتُ من أنّني لم آتِ إلاّ اليوم وسؤالي لم يكن سؤالا إنّما رأيت ورأيت ورأيت. قميص عزوة الأبيض وصفه إخلاص بعد سنتين، داوم فيهما على الحبّ ودار مع اسماعيل وخدمت حول مدرسةِ زنوبيا للبناتِ، جاء إليّ وطلب شمعة وحملقَ فيها لساعة ثمّ سالت عيونه من التّحليق حول الشّمعة ولم أجده يبكي ولم يغمغم لي حبّه ومحبوبته كانت واحدة أعرفها وكنت أتمنّاها أيضا من وصفهِ للقطنِ الذي ابتعد عنّا في القريةِ حين تركناالقرية بنفسِ الشّاحنة وتصاعد الغبارُ فلم أجد وجه إخلاص الذي مثل الفانوس الأصفرِ وهو بعدئذ جاء وكتبَ قصيدة عن الملائكة أو عن ملاكٍ ولم أفهم قصده جيّدا ففكرّت في نفسي: ” له اشراقٌ ما كما هو يصف في العليّين بين الملائكة وأنا لم أكتب إلا فيما تحت العليّين، عن نبتة بغير ماءٍ وعن أسماءٍ بغير أسماءٍ وسرّني حبّ ابراهيم الخيّاط المجنون بين الغمغمة والسياج أكثر من هذا الحبّ الملائكيّ” ثمّ تركتُ نفسي لا أعبأ بالتفاصيل عن إخلاص وعن عزوة؛ تركتُ نفسي تحمل نفسها وتغادر فجاء صديقٌ لم يكن صديقي وكان اسمه شفيدو واشتكى أنّه طويلٌ أكثر من اللازم وطلبَ أنْ أكتب عنه قصّة وعن حبّه لفتاة تقع على ضفّة نهرِ الخنزيرِ وقربَ بيتها حصّادة تحصد الذّكريات وجرّارة تجرّ مياه النّهر من تركيّا وجرّارة أخرى تختلف عن الأولى في لونها ولها بدل الدّواليب زنجيرٌ من الحديدِ الأصفرِ يصعدُ وينزلُ بين فصلِ الشّتاءِ وفصل الخريفِ بين الأشجارِ واصفرار النّهرِ وقال لي شفيدو” مرّ بالجرّاراتِ أمام بابهم وستفهم وحي حبّي وتكتبُ بالتأكيدِ عن دواليبِ حديدِ الشّتاءِ الذي يبلّل قلبي على الدّوامِ حين أمرّ بالمركزِ الثّقافي وشبّاك مفتوحٌ على المقبرةِ من الجهة الشّماليةِ وشجرة صنوبر على قبر أخي المحترقِ في سينما عامودا.”