حاتم علي: إنساناً ومخرجاً ملتزماً

إدريس سالم
حاتم علي إنسان حقيقيّ صاخب. مثقّف. خزينته المعرفيّة تمتلئ على الدوام. هادئ الصوت والطباع. يناقش ويحاور والبسمة تغرق بين شفاهه. معتدل في القضايا الفنّيّة الساخنة والعنكبوتيّة. جاء إلى الفنّ من زاوية الأدب، كان كاتباً قصصيّاً في المقام الأول، نشر مجموعتين قصصيّتين «ما حدث وما لم يحدث»، و«موت مدرّس التاريخ العجوز». أخرجته نوبة قلبيّة غامضة من لعبة الحياة الخبيثة، ولكنه لم يبتعد؛ هو في كلّ الفصول بتداخل صمت أنبل مورّق مثمر، في زمن العُهر والخراب والذلّ والقحط الإنسانيّ ومتواليات الوجع. اتّبع نهجاً وسلوكاً هادفاً وراقياً. نطق دائماً «الفنّ رسالة».
هو مَن كان يقف دائماً خلف الكاميرا ويرسم التفاصيل المدهشة والرمزيّة على وجوه الفنّانين، فمَن ينسى معالم وجه خالد تاجا في «التغريبة الفلسطينيّة»، والكبيرة منى واصف في «قلم حمرة»، وسلاف فواخرجي وتيم حسن في «على طول الأيام»، وياسر العظمة في «مرايا 98 و99»، وبسام كوسا بإبداعه في «أحلام كبيرة»، وسلوم حداد وسمر سامي وجهاد عبدو وفرح بسيسو وعابد فهد في «الزير سالم»، وجمال سليمان في «صلاح الدين الأيّوبي»، وحتى ملامح وجهه نفسه في مسلسلات «الرجل سين» و«العرّاب – نادي الشرق وتحت الحزام» و«العبابيد» وغيرها من مسلسلاته تمثيلاً وإخراجاً، وها هو اليوم وفي تابوته المهيب يصنع تفاصيل ومشاهد تراجيديّة على وجه محبّيه وجمهوره وزملائه، لم يرسمها إلا لوعتهم عليه كاتباً فنّاناً مخرجاً وإنساناً ملتزماً، فكان الحلقة الأخيرة والجزء الأخير في سيرة حياته، بطلاً وحدثاً.
نشرت الفنّانة السوريّة «سلافة معمار» على صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعيّ بحرقة شديدة «الحزن كبير، والكلام لا يمكن أن يعبّر عن مدى الأسف والحزن والخسارة، والأصعب ما في الموضوع أن الزمن فرّقنا ولا نقدر أن نكون مع بعضنا لنودّع الناس التي ترحلنا، ونخفّف عن بعضنا ألم الوداع».
إن كلام سلافة معمار كلام ينخر في عقولنا وقلوبنا جميعاً، والحقيقة المطلقة هي أن المتّهم الأول له هو الحرب التي أعلنتها رجالات الاستبداد والفساد ومَن يسندهم بالكلمة والليرة والرصاصة، فكم من عزيز غادرنا ونعيْنا ذويه ببوست أو صورة أو تعليق وتغريدة!
فيما قال الشاعر السوريّ «هاني نديم» عبر الفيس بوك أن حاتم علي هو مَن «يحبّه أقصى اليمين ويحبّه أقصى اليسار؛ لأنه مثل مدننا الطيّبة، لم يتبنَّ خطاباً موغلاً في الحقد واللؤم والتشفّي والزعرنة، كما فعل وجهاء الطرفين، فكرّهونا البلد وكرّهونا الحياة، بل ظلّ منتجاً قويّاً واقفاً على تعبه.
إنه مثل سوريا، ذلك الموجوع المبتسم أبداً، الأعزل الذي يمتلك جيشاً من جمال وإبداع، الخلّاق كأيّ سوريّ أصيل دون الجعجعة والمحابّاة والتمظهر والتمنبر والوقوف في خيام الحزب وترديد الشعار والصفقة الطلائعيّة».
شخصيّاً تابعت العشرات من مقابلاته التلفزيونيّة ومداخلاته وتصريحاته، منذ أن كنت طالباً في الصفّ السابع الإعدادي في مدينتي كوباني أثناء متابعتي لمسلسله الشهير «الزير سالم»، فالكثير من المخرجين والفنّانين ما كانوا يختلقون القضايا والمشاكل الحسّاسة لتسليط أضواء الشهرة على أنفسهم، لكن حاتم كان بعيداً عن ذلك، فلم ينتقد أحداً ولم يكن عدوّاً لأحد، كلّ ما في الأمر أنه كان يفكّر كثيراً، وينجح كثيراً، ويبدع كثيراً، فلم يقدر عليه أحد في عداواته، خاصّة مع هذا الوسط الفنّي المليء بالانحطاط والتفاهات.
وأنا أتابع مشاهد من تشييع جثمانه في مدينة دمشق، أخذتني الذاكرة باكية خانقة إلى مسلسل «الفصول الأربعة» الذي أخرجه عام 1999م، فذكرني التشييع بحلقة من الجزء الأول بعنوان «أصدقاء نزار»، عندها قال الفنّان الراحل خالد تاجا «الدنيا لا زالت بخير، الشام كلّها خرجت في تشييع نزار قبّاني»، واليوم لولا الحرب وآلاف الحدود المبنيّة داخل سوريا لخرج كلّ أبنائها في تشييع جثمانه، لأول مرّة أرى حزن جميع الناس على فنّان هو إنسان مرتبط بذاكرتنا بزمنه الجميل والصادق؛ فهناك مَن يختلف وهناك مَن يتفق على نجومية البعض أو موهبته، لكن حاتم علي أثبت بأعماله أن العالم الفنّي يحبّ الأعمال الجيّدة والناضجة فكريّاً ونفسيّاً.
يبقى الشكّ واليقين حاضراً في سبب وفاة حاتم علي في أحد فنادق مصر، والذي تطرّق إليه الفنّان «عابد فهد» في مداخلته على قناة «الشرق للأخبار» بأسلوب منطقيّ، زارعاً فتح أبواب غامضة على مجريات الوفاة، متسائلاً بغضب هادئ عن سبب تأخّر الطبيب في الوصول إلى غرفته، مؤكّداً أنه حين شعر بالتعب طلب حضور الطبيب لمعاينته، ولكن الطبيب تأخّر، فسأل عابد عبر القناة: لماذا لا يوجد إسعاف؟ لماذا لم يصل الطبيب؟ ولماذا لم ينقذوه؟ ربما القدر، ولكن كموقف يجب أن لا يتكرّر.
أسئلة عابد فهد تطرح نفسها بعمق، وربما الأيّام القادمة تكون كفيلة في اكتشاف خبايا وأسرار غامضة.
في نهاية هذه المقالة، أضيف لها أشهر الأقوال التي تبنّاها الكاتب والممثّل والمخرج السوريّ الراحل حاتم علي طيلة مسيرته في الأدب والمسرح والسينما والتلفزيون:
الأموال الكثيرة لا تعني بالضرورة عملاً فنّياً متميّزاً.
إن سرّ إنقاذ عدد من الدراما التاريخيّة التي تتحدّث عن قضايا كبيرة يكمن في إكسابها روحاً وحياة.
هدف أيّ عمل بالدرجة الأولى هو متعة المُشاهد، ولكن نوع هذه المتعة مرهون بطرفي المعادلة وسوية المَشاهد الثقافيّة والفكريّة وقدرته على التذوّق والقراءة.
طوال تجربتي حرصت على تحقيق التوازن بين المضمون والشكل.
الحرّية أساس كلّ إبداع.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…