زهرة أحمد
على شرفة مبللة برائحة المطر. هناك حيث الشمس قد اختبأت باستحياء خلف الغيوم، لتبدأ حبات المطر برسم رائحتها على الأرض.
بعد نصف ساعة من الهطول الغزير، انهمرت حبات المطر وهي تتراقص بكل أناقتها.
ما أجمل هذا الانهمار ..!!!!
قالتها ليزا وهي تراقب مهرجان الفرح، تبحر في أنغام المطر، تبحث عن فكرة جديدة لقصة جديدة تختم بها مجموعتها القصصية.
تمعن النظر في فقاعات المطر، في مشهد لا مثيل له، وكأن حبات المطر تضحك عندما تلامس وجه الأرض، فتنشر عبيرها على امتداد الصباح.
انضمت إليها والدتها. انضمت إلى مشهد من الجمال، طالما نُحت في ذاكرتها اللامتناهية، مع ابتسامة خفية أشرقت على ملامحها.
كلما أرى الفقاعات أتذكر ذلك اليوم، تلك الفقاعات حضنت حكاياتنا بل أسرارنا.
لن أنسى ذلك اليوم أبداً.
كم كان جميلاً… !!!!
قالتها الأم بعد تأمل طويل لهاتيك الفقاعات التي بدأت بفتح بوابة الأسرار، فانهمرت الذكريات كما المطر في أحضان سيمفونيتها.
إنها سيمفونية المطر، قالتها ليزا بعد الانتهاء من كتابتها على تلك الورقة البيضاء أمامها.
كبيرة كانت متعتها وهي تسمع أمها وتتعرف للمرة الأولى على بعض أسرارها.
بإلحاح منها بدأت الأم بسرد حكايتها مع الفقاعات وما تحضنه من أسرار لما تهرم بعد.
كان ذلك في أحد أيام شباط الباردة، وبعد انحباس المطر لأكثر من شهر، كانت العيون ترتقب المطر بحذر، خوفاً على الموسم الذي بدأت ملامح الخطر تظهر عليه.
كان علي أن أوصل بريد “البارتي” الذي يعد والدك أحد أبرز أعضائه، وبطلب منه، إلى القرية المجاورة، كما بداية كل شهر.
كان البريد عبارة عن نسخ كثيرة من جريدة الحزب وبعض المطبوعات الأخرى.
كانت رفيقتي في المهمة جارتي قُمري.
قسمنا البريد إلى قسمين، وضعت كل واحدة منا في أكمامها الواسعة أوما نسميه ” أوجك” وأمضينا في مهمتنا سيراً على الأقدام إلى القرية، تلك التي كانت تبعد عن قريتنا ثلاثة كيلو مترات.
سلكنا الطريق الترابي بين المزروعات، كانت الأرض حزينة من الظمأ، متشققة على امتداد الجفاف، أما حقول القمح، فقد بدأت الخطوط الصفراء تتوزع بين اخضرارها، كانت بحاحة إلى المطر بعد انحباس دام أكثر من شهر ونصف.
كانت أحاديثنا الممتعة تخفف كثيراً من مشقة الطريق.
مع كل خطوة أنظر للخلف، أمعن النظر في قريتي، كانت غارقة في فضاء من الغبار، أجواء شاحبة تنتظر المطر، حتى الأشجار الخضراء تغطت بالغبار عنوة.
لكن ؟؟
ما أن وصلنا إلى تخوم القرية حتى بدأ المطر بالهطول. كبيرة كانت فرحتنا وحبات المطر تغسل وجوهنا وتبلل خطواتنا بعد انحباس محزن.
أول حبات المطر كانت كاللؤلؤ الجميل. إنه الأمل في استمرارية الحياة.
تزيل بكل رفق تلك الهموم المتراكمة، تغسل جراحات لما تندمل بعد، تعانق الحنين إلى عالم من الذكريات الندية.
امتزجت دموع الفرح مع حبات المطر في تلاحمها النقي
دموع المطر ما أدفأها..!!!
تتراقص هنا وهناك، على ساحات جفت فيها حتى دموعها.
غسلت قطرات المطر طريقنا الشاحب بالانتظار، كما أحزان قلوبنا.
فحكاياتنا مع المطر لا تنتهي، يسقي قلوبنا كما أرضنا، ليرسم خريطة الأمل الأخضر.
أزاح المطر كل أتعابنا المتراكمة، كما سنين الألم.
كنت قد انهيت كل أعمالي المنزلية قبل طلوع الفجر، أطعمت الغنم والدجاج، نظفت البيت وحوشنا الكبير، أعددت خبز التنور وطبخت أيضاً.
غسلت قسماً من الملابس وتركت الباقي حتى نرجع من مهمتنا.
لم أتناول الفطور حتى لا نتأخر في مهمتنا، حملت رغيفاً والتهمناه في الطريق لنسد به جوعنا ويمدنا بالقوة لمواصلة المشي، بعد كل ذلك التعب في أعمال البيت.
كانت أقدامنا تنغرس في الطين كلما اقتربنا من القرية، أحذيتنا البلاستيكية تنغرز في مساحات الطين المتراكم على امتداد الطريق
بلل المطر شعركل منا وبدأت رائحة الحنة تفوح بخجل، والابتسامة لا تفارقنا، ودعواتنا تتصاعد إلى السماء، ابتهاجاً وحمداً لله.
أما رائحة الأرض، فكانت إعلاناً للفرح، كما فرحتنا، لا أتذكر أنني فرحت هكذا منذ زمن بعيد.
بعد نصف ساعة من المطر الغزير بدأت المياه تتجمع وتغرق خطواتنا.
إنها الغيمة الحبلى بالأمل . بالمطر. بالأحلام، ومفتاح الحياة.
المطر في أروقة البرد يحمل دفئاً وحنيناً، تذكرنا بأيام الطفولة، كنا نقفز مع حبات المطر، نفتح يدينا وفمنا لتتجمع فيها المطر، فنبتسم ونمضي بطريقنا.
بدا المطر كطفلة في المهد تبتسم أبداً ..!!
إنها سيمفونية المطر كما كتبته يابنتي.
في آخر مرة نظرت إلى الخلف، كانت حبات المطر تحضن كل الأماكن وتزيل كل ذاك الحزن.
ما أن وصلنا إلى القرية حتى تبلل جسمانا، كاملين، وقفنا في زاوية أول بيت في القرية حتى يخف المطر قليلاً، ونحمي البريد المودع في أكياس النايلون من المطر.
بدأت المياه تتجمع على الأرض لتبدأ الفقاعات بالتشكل في منظر بديع لم نراه منذ سنة. بقينا نستمتع بتلك الفقاعات في مشهد جميل، وهي تضحك وتبلل ملابسنا برذاذ الفرح.
كانت العيون تراقب بفرح تلك الفقاعات المبشرة بالخير، وما تحمله في ثناياها من أسرار كامنة.
ما أن توقف المطر حتى أوصلنا الأمانة إلى صاحبها وبدأنا بالعودة التي كانت صعبة للغاية، بسبب تشكّل مستنقعات من الوحل على الطريق، لكن المطر والفقاعات قد خففت كثيراً من التعب وسهلت لنا الطريق.
لأول مرة لم أشعر بالتعب، كأنني استمددت من تلك الفقاعات كل قوتي.
لا تزال تلك الفقاعات ماثلة في ذاكرتي، كما لا تزال أنغام ضحكتها تنعش روحي.
ما إن انتهت الأم من حكايتها مع الفقاعات، حتى توقف المطر وتوقفت الفقاعات في رسم آفاق سيمفونيتها.
في الوقت الذي كانت فيه ليزا تكتب كل حرف نطقته والدتها، ترسم كل الذرات الدافئة المتناثرة من ملامح الفرح على وجهها.
لتمتزج سطورها برائحة المطر وأنغامه المتكررة.
لتكتمل قصتها الأخيرة. قصة أسرار الفقاعات، خاتمة عطرة في مجموعتها القصصية، بطلتها امرأة من أسرار الأمل وكل العطر.
لا تزال أسرارها تعبق بالحب.
…………………………………………