صفاء أبو خضرة/ الأردن
من أزقة المخيم، من حانات دمشق العتيقة، من ذكريات مقهورة، خرج الكاتب صالح حمدوني بنصوصه التي بين يديّ “زر وسط القميص”، ومن صوت فيروز يلوح في المقاهي وفي البال حين منعطف لحنين مارق. أرادَ أن يصنع من اللغة غيمةً جاهزةً للهطول، تحفزّ بذور القلب فتُنبتُ منه حُباً وصوراً وحكايات. خرج إلينا من معطف أرسطو حيث اعتبر الوسط هو الشجاعة لتوازنها الحرفي ما بين التهور والجبن.
خرج إلينا مبللاً بالأحلام الكثيرة والندوب، ولم يتورع لحظةً بأن يُحكم قبضتَه على الخوف ويطلق العنان لصوره الملتقطة من الماضي والحاضر، إلا أن الماضي كان حاضراً أكثر، لكأنه يسرد يوميات تطرأُ كل لحظة في بال الفكرة والوجع.
هذه السرود المتوشحة بالشعرية، تهجس بالوطن الكبير، والمخيم، والحب، والمرأة، والعتبات الكثيرة التي اعتلتها الذكريات القديمة والحزينة، تنتقل بين الفصحى والعامية انتقالا سلساً يخلو من الشدود أو النشاز، بل أعطى ذلك كاريزما خاصة للنص أفاضت عليه الكثير من الحيوية والبساطة الممتنعة وتجلى هذا الأمر- مثلاً- في كلماته التالية:
“أصلاً الدنيا مليانة صور وحكي.
صورٌ تبحثُ عن صور، جمل تعانق الكلام.
لكن وجهك عطر الحكي، ويديك صورة المعنى.
وطني حكاية ومنفى
برد ووجع وسطر بعد السهو، حب ونورس على شط البحر
وموجة ضاحكة تزحف بصمت لتلمس قدمك الغافلة”.
قالها بلغة العارف، والعازف، والمتهكم على سخرية الزمن المتشظي في فناجين قهوتنا المرة، حيث تجرعناها سواسية مع غربتنا وبحثنا الطويل عن ممر أقصر مما نتخيل للعودة إلى ذلك المكان الذي انسلخنا عنه سلخاً وبتنا في المخيمات مجرد أرقام ولاجئين.
“ويعلو موجُ صدرك
أيّ غياب في حضورك سيدة التفاصيل
يا نهر الأغنيات
يا تعويذة الغائبين
أمطري فصولا من الشهوة والغياب ليخرج الربيع أخضر يانعاً في تفاصيل الجسد الإلهي
أمطري شوقا، حبا، لهفة، ليصير للروح وجهها الإنسي
فاللغة، مثلي، تجتاحها الرائحة”
وتتجلى صورة المرأة في نصوص الكتاب، إذ تلوح لنا من الزواريب الضيقة من مقهى النوفرة في دمشق، ويرتدّ طيفها في المخيم، ثم نتراشق الوجع بانتظاره ذوبان الثلج ليطلق سراحه من باب الهوى، وتلك النافدة الصغيرة التي شهدت على آلامه وتساؤلاته وانتظاره الطويل، أخذ الثلج مجده في تعذيبه وأصابعه تنشر أطراف الورق لتكتب ما تفضي إليه الروح.
وقد تقمّص صوت المرأة في مواضع كثيرة منها في “تعال ولا تأت” وفي “لا عرفانة فل، ولا عرفانة ابقي”، هذا التمرد والتنمر على الذكورة بكل ذلك الشغف والتحرر، بانطلاقة متوهجة لمشاعر أنثوية بحتة يعلوها الشغف والشجن.
كما أن صالح حمدوني مصورٌ فوتوغرافيّ، هذا يعني أنه سيد التفاصيل، يقتنص الفكرة، ويعصر منها الدهشة، لتصلنا صافية بغير ندوب، يختلس من خلف عدسته صقيع الأحلام، فتورق فجأة زيتونة طلّت من قفل صدئ، وتسطع شمس من بين غيمتين حالمتين بالمطر، كذلك فعل في نصوصه، فاقتنص التفاصيل، واستشهد بالنثر، وبزغ من بين مقتطفاتها حساً روائياً قد يكونه يوماً ما، إذا ما أحكم أزرار قميصه وكانت العروة متناً جيداً للفكرة.
وأختصر الحديث بقولي: إن نصوص صالح حمدوني في هذا الكتاب على بساطتها هي مفخخة، فلا نستطيع أن نجزم إلى أي شكل أدبي يمكن أن تنتمي، فتارة نراها نثرا حراً من التجنيس، وتارة قصصاً قصيرة، وتارة مشاهدَ صورٍ لغويةً، وتارة يوميات، إنها نصوص متلونة، وملونة تبدل جلدها حسبما تقتضيه الحالة الوجدانية للفكرة.