سينوغرافيا الموت

هند زيتوني/ سوريا 
لم يعد الحُبّ الخالص موجوداً. الحب الذي يقتل فقط متاح الآن. نتجرعه مع القهوة الرخيصة، كالسجائر الرديئة التي تصيبنا بالسعال المزمن. كالجنس المحرم الذي نمارسه وراء الجدران. هذه الأرض لم تعد تنفع لشيء. إلّا للدوران بشكل عكسي. يبدو أنها تدور باتجاه قبلةٍ الموت. نستيقظ في الصباح نكتب كل يوم  في صفحة الفيسبوك لروحه السلام والسكينة ولكم طول البقاء من بعده. (والله طول البقاء صارت دعوة سيئة في هذا الوقت! جرب بس أنت وحظك لو حابب تبقى، ذنبك على جنبك). 
 نخاف أن ندخل إلى الواتسأب ليقال لنا الصديق الذي كان على جهاز الأوكسجين سلمّ أنفاسه المتقطعة. وقرّر أن يمتطي قطار المحطة الأخيرة. قد تذهب النساء لشراء بعض الحاجيات ويعدن إلى المنازل بأكفان بيضاء.
لقد أصبحنا أبطالاً حقيقيين؛ لأننا نخرج كل يوم لنواجه أيامنا السيئة، ومصائرنا الخفية التي 
تخبئ لنا الحظ المنكوب. مثل بلادنا المهزومة.
  نحن نكرر كل شيء،  نقف في طوابير الخبز ولكننا نخشى من دقيق الفجيعة. نقف وراء الجنائز  لنؤدي تمارين الموت. ندعو السماء  كي ينتظر عزرائيل قليلاً لنسدد الفواتير  الثقيلة التي تحتاج ربما لسنوات ضوئية لتسديدها.
نشتري الرصاص والمدافع وليس في جيوبنا ثمن سندويشة فلافل. ندع فتات القهر على طاولات الأطفال. ليذهبوا إلى النوم بمعدة خاوية. الأطفال الذين يحلمون بأرجوحة العيد وكعكة الميلاد. نهدم المدن لنعيدها للعصر الحجري. الرجل البدائي كان إنساناً محظوظاً لم ترتجف الأرض من تحته كل يوم  بالمدافع الثقيلة والانفجارات. ضربة سكينة سريعة بيمشي الحال،  لو كره شخصاً أو أحبه حباً قاتلاً  وأراد الخلاص منه. 
نطلب من  المخرجين، والممثلين والنحاتين والفنانين أن يحضروا لسينوغرافيا الموت وليس للمسرح الحقيقي. الفن الحقيقي الآن هو التفنن بتعذيب البشر والإبداع بإيجاد ميتّة مختلفة لهم كل يوم، انفجار بقنبلة، انفجار من القهر من الجوع، من الانتحار، من التعذيب اليومي المريع والجري وراء لقمة العيش المستحيلة. 
يبدو أن الإله غير غاضب منا كثيرا فهو يأخذنا بالتقسيط المريح ليريحنا من هذا الكوكب المريض والمتعفن. ننظر إلى السماء فلا نرى إلا نجوماً ذابلة يكتسحها الدخان.  والأرض ترحب  بقتلاها وكأنها تحتفل بعرسٍ جماعي من أجل مكافحة وحش الغلاء. في عيون الشباب أحلام مقتولة وآمال مبتورة. أفواه تطلق أنين الجوع الذي حل بدل عويل الرصاص. وكأن الفرج أصبح  كمن ينتظر القيامة الكبرى. 
أنا الآن جرحٌ عظيم في هيئة امرأة، فتاة، أو سيدة. حزينة على شعبٍ أصبح يمشي ويتحدث مع نفسه.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…